شغلت قضية اللفظ والمعنى حيزاً هاماً في الفكر العربي القديم، و"هيمنت على تفكير اللغويين والنحاة، وشغلت الفقهاء والمتكلمين، واستأثرت باهتمام البلاغيين والمشتغلين بالنقد... دعْ عنك المفسرين والشراح الذين تشكل العلاقة بين اللفظ والمعنى موضوع اهتمامهم العلني الصريح"1، وفي هذا السياق تأتي محاولة ابن جني الذي عالج هذا المبحث من منظور لغوي في أبواب مختلفة من كتابه "الخصائص"، خصوصاً في بابي "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"، و"إمساس الألفاظ أشباه المعاني"؛ ففي باب التصاقب افترض ابن جني أن تقارب عدد كبير من الوحدات المعجمية العربية في مستوى ألفاظها يعود إلى دنو معانيها دنواً شديداً، وانطلق في باب الإمساس من فرضية مفادها أن عدداً كبيراً من الوحدات المعجمية يكاد لفظها، بسبب جرس أصواتها، يمس معناها"2.
المحور الأول: تقارب الألفاظ ودوره في إنتاج المعنى عند ابن جني
ربط ابن جني بين الألفاظ والمعاني، وعد أن تقارب الأولى يؤدي إلى معان متقاربة، وذلك في باب سماه "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"3، قال عنه: "هذا غور من العربية لا ينتصف منه ولا يكاد يحاط به، وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غفلًا مسهواً عنه"4.
وقد عرض ابن جني بهذا الصدد عدداً من الوحدات المعجمية التي جمعتها معان مشتركة، وحاول أن يبحث عن الصلة بينها اعتماداً على المعيار الصوتي، ومن ذلك استدلاله بثنائية "أَزَّ" و"هَزَّ" التي يشترك عنصراها في معنى "الإزعاج والقلق"، لتقارب الألف والهاء، باعتبارهما حرفين حلقيين، قبل أن يشير إلى الاختلاف الدلالي بينهما، فأزَّ ترتبط بالكائن الإنساني بدليل الآية الكريمة: "ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزّا"5، في حين يأتي الفعل "هزّ" مع مفعول به ذي خاصية غير إنسانية، كما في قوله تعالى: "وهُزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا"6، وقد جاءت الآية القرآنية الأولى بلفظ الهمزة، لأن النطق بها يقتضي جهداً انفجارياً، بخلاف الهاء، يقول ابن جني في وصف الاختلاف الحاصل بين اللفظين: "وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز، لأنك قد تهز مالا بال له، كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك"7.
أنواع التصاقب
1ـ تصاقب حرف لحرف: كما هو الشأن في الثنائية السابقة، وفي ثنائية (أسف/عسف)، يقول ابن جني عن هذه الثنائية: "ومنه العسف والأسف، والعين أخت الهمزة، كما أن الأسف يعسف النفس وينال منها، والهمزة أقوى من العين، كما أن أسف النفس أغلظ من التردد بالعسف"8، ويمضي ابن جني مستحضراً مجموعة من الثنائيات في هذا الباب، فيقول: "ومنه القرمة وهي الفقرة تحز على أنف البعير، وقريب منه قلمت أظفاري لأن هذا انتقاص للظفر وذلك انتقاص للجلد. فالراء أخت اللام والعملان متقاربان... ومثله تركيب " ع ل م " في العلامة والعلم. وقالوا مع ذلك: بيضة عرماء وقطيع أعرم، إذا كان فيهما سواد وبياض وإذا وقع ذلك بأن أحد اللونين من صاحبه فكان كل واحد منهما علما... ومن ذلك تركيب "ح م س" و"ح ب س،" قالوا: حبست الشيء وحمس الشر إذا اشتد، والتقاؤهما أن الشيئين إذا حبس أحدهما صاحبه تمانعا وتعازا فكان ذلك كالشر يقع بينهما، ومنه العَلْب: الأثر والعَلْم: الشقّ في الشفة العليا فذاك من "ع ل ب" وهذا من "ع ل م" والباء أخت الميم"9.
2 ـ تصاقب حرفين لحرفين: ومن ذلك ثنائية "سحل / صهل"، الصاد أخت السين لأنهما حرفا صفير، والحاء والهاء حلقيان، والعنصران هنا حسب ابن جني يشتركان فيما تصدره الحيوانات من أصوات، وإن كان ابن منظور قد فرق بينهما، فالأول خصصته العرب للبغال والحمير، في حين خصصت الثاني للخيل10.
3 ـ تصاقب الحروف الثلاثة: التقارب بين الوحدات المعجمية، حسب ابن جني، يشمل كذلك بالإضافة إلى ما ذكر الأصوات الثلاثية بكاملها، حيث يقول بهذا الصدد: "نعم، وتجاوزوا ذلك إلى أن ضارعوا بالأصول الثلاثة: الفاء والعين واللام، فقالوا: عصر الشيء، إذا حبسه، والعصر ضرب من الحبس، وذاك من عصر، وهذا من أزل، والعين أخت الهمزة، والصاد أخت الزاي، والراء أخت اللام وقالوا: الأزم: المنع والعصب: الشد، فالمعنيان متقاربان والهمزة أخت العين، والزاي أخت الصاد، والميم أخت الباء، وذاك من أزم، وهذا من "ع ص ب، وقالوا: السلب والصرف، وإذا سلب الشيء فقد صرف عن وجهه، فذاك من "س ل ب"، وهذا من "ص ر ف"، والسين أخت الصاد، واللام أخت الراء، والباء أخت الفاء، وقالوا الغدر، كما قالوا الختل، والمعنيان متقاربان واللفظان متراسلان فذاك من "غ د ر" وهذا من "خ ت ل" فالغين أخت الخاء، والدال أخت التاء، والراء أخت اللام، وقالوا: زأر كما قالوا: سعل، لتقارب اللفظ والمعنى... وقالوا: شرب كما قالوا: جل، لأن شارب الماء مفن له كالجلف للشيء... وقالوا: قفز كما قالوا كبس، وذلك أن القافز إذا استقر على الأرض كبسها"11.
المحور الثاني: مبدأ المحاكاة في باب إمساس الألفاظ أشباه المعاني
في باب "إمساس الألفاظ أشباه المعاني" بلور ابن جني مفهوم الصلة بين اللفظ ومدلوله، بمعنى أن ألفاظ الوحدات المعجمية تحاكي أصواتا شبيهة بما يحدث في الواقع الطبيعي، يقول ابن جني بهذا الصدد: "اعلم أن هذا موضع شريف لطيف، وقد نبه عليه الخليل وسيبويه وتلقته الجماعة بالقبول له، والاعتراف بصحته، قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدا فقالوا: صر، وتوهموا في صوت البازي تقطيعا، فقالوا: صرصر، وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة نحو النقزان والغلبان والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال.
ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حداه ومنهاج ما مثلاه، وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة، والصعصعة والجرجرة والقرقرة، ووجدت أيضاً الفَعَلى في المصادر والصفات إنما تأتى للسرعة نحو البشكي والجمزي والولقي"12.
أنواع المحاكاة:
وردت في ثنايا "الخصائص" أنواع المحاكاة التي تدخل في إطار إمساس الألفاظ أشباه المعاني، ويمكن إجمالها فيما يلي:
1ـ محاكاة الصوت: ومن ذلك تسميتهم الأشياء بمسمياتها، "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات؛ كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل"13.
2ـ محاكاة طبيعة الأشياء والأحداث: يرى ابن جني أن العرب يجعلون الحروف على سمت الأحداث المعبر عنها، يقول في ذلك: "فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ونهج مُتلَئِب عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيراً ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها، فيعدلونها بها ويحتذونها عليه، وذلك أكثر مما تقدره وأضعاف ما نستشعره، من ذلك قولهم: خضم وقضم، فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها ونحو ذلك، فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس، حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث "14.
3ـ محاكاة الحركة: نذكر في هذا السياق إشارة ابن جني السابقة إلى ما تدل عليه المصادر التي هي على وزن "فَعَلاَن" من اضطراب وحركة، نحو: الغلبان ـ الغثيان ـ النقزان، ودلالة الألفاظ الرباعية على التكرير، نحو: زلزل ـ زعزع ـ قلقل.
4ـ محاكاة قوة الأحداث أو كثرتها: فتكرير العين في هذه الأفعال: كسَّر ـ قَطَّعَ ـ فَتَّحَ ـ غَلَّقَ، دليل على تكرير الفعل.
5ـ محاكاة ترتيب الحدث: فالعرب، حسب ابن جني، قد يأتون بالأصوات المعبرة عن الحدث، أولا بأول، وآخرا بآخر، "سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب"، ويستدل ابن جني على هذا بالوحدة المعجمية "بحث"، فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض، والحاء لصحلها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب ونحوهما إذا غارت في الأرض، والثاء للنفث والبث للتراب"15.
الهوامش: 1. محـمد عابد الجابري: اللفظ والمعنى في البيان العربي، مجلة فصول، العدد الأول، 1985، المجلد السادس، ص: 21.┇2. عبد الحي العباس، كلية اللغة العربية، جامعة القاضي عياض مراكش.┇3. الصَّقَبُ لغة تعني القرب، نقول: مكان صَقَبٌ وصَقِبٌ، أي قريب، وهذا أصقب من هذا، أي أقرب، وفي الحديث: "الجار أحق بصَقَبِهِ" ـ لسان العرب، ابن منظورـ باب الباء، فصل الصاد.┇4. الخصائص، الجزء الثالث، ص: 11.┇5. سورة مريم، الآية: 83.┇6. سورة مريم ـ الآية 25.┇7. الخصائص، ابن جني، الجزء الثالث، ص: 12.┇8. المصدر نفسه. ص: 12.┇9. المصدر نفسه. ص: 12.┇10. لسان العرب، ابن منظور، مادتا سحل وصهل.┇11. الخصائص، ابن جني، ص: 12.┇12. المصدر نفسه. ص: 12-13.┇13. المصدر نفسه. 46- 47.┇14. المصدر نفسه. 14.┇15. المصدر نفسه. ص: 15
.