توليتُ الدّفاع عن رجل خمسيني قتلَ جارَه دون سابق إنذار.
سألتُه:
- لماذا قتلتَ جارك؟
- لأنه يستحق الموت، كان نذلاً كبيراً؟
- ماذا فعل؟
- جمعتْه بزوجتي علاقة آثمة.
- هل ضبطتهما بالجرم المشهود؟
- ما كان ينقص غير ذلك!
- يا أبا هشام، قتلتَ رجلاً على الظن، وبغياب عذر مخفف، لن يتردد القضاة لحظة واحدة بإصدار حكم الإعدام.
- هذا ظلم.
- ألا تدرك أنك أنهيت حياة إنسان، وحرمت عائلته منه؟
أنا متعاطف معك، ولكن يجب أن تساعد نفسك. مأزق المتهم كبير، فتحريات قاضي التحقيق أثبتت أن القتيل كان ذا سمعة حسنة، ولم تبدِ وجود علاقة زنا بينه وبين أم هشام. لم يكن بين الجارين نزاع إلا ما قد يحدثُ من خلافات عادية بين الأولاد، أو سيارة تركن أمام باب الآخر، أو غيرة بين النساء. عزمتُ أن أبحث في كل ما يحيط بهما، وأتحرى بنفسي عن بواعث الجريمة.
طلبتُ من أم هشام أن تقول الحقيقة، بكت المرأة بمرارة، وحلفت بأنها لم تخن زوجها يوماً، وأنه أصبح شكاكاً بكل تصرفاتها منذ سنوات، بل أضافت أنه هو من حاول التحرش بجارتهم.
ذهبتُ بنفسي إلى منزل القتيل، غطى البؤس وجوه خمسة أطفال أعمارهم بين الثالثة والسادسة عشرة، ثيابهم رثة، بدا الفقر على الأرملة وأركان بيتها.
- تفضل يا أستاذ؟
تفحصتُ وجهها، لم تكن فائقة الجمال، امرأة عادية، بعكس أم هشام الحسناء، أدركت أنني أمام قضية محيرة، لا مكان فيها للمنطق، حاولت فهم دوافع أبي هشام لعشق هذه المرأة العادية ذات الزوج والأطفال الخمسة. هل هو فقط الرغبة في التغيير، أم ضعفاً أمام زوجته، وهروباً إلى حضن أخرى غير؟
استقر تقديري على أن الجار هو من كشف علاقة أبي هشام بزوجته، وليس العكس، وأن موكلي رجل سافل، ذهبت للاستماع إلى الأرملة قبل أن أصدر قناعتي النهائية.
- يا أستاذ، استحلفك بالله، ألم تأتِ إلى هنا لتبرأ المجرم الذي قتل زوجي المسكين؟
- أردتُ استفزازها لتخرج ما لديها:
- لا شك أنه مسكين، فهل كنت ترينه كذلك قبل موته؟
- صمتت المرأة، وسلقتني بنظرة احتقار ظاهر:
- ماذا تعرف عن زوجي، وماذا أنتظر منك؟
أنت هنا لتحول الضحية إلى مجرم.
- يا سيدتي، أنا هنا لأعرف الحقيقة، وأرجو منك أن تخرجي الأطفال من الغرفة، فلا أريد أن يسمعوا ما سنقول.
ليس لدي ما أخفيه، أو أخجل منه أمام أطفالي.
- عرفتُ بتجاوزي الحد:
- لا أريد أن أؤذي مشاعر أطفالك، أفضِّلُ أن نتحدث بحرية، ودون حرج، وأعدك بألّا أقلبَ الحقائق.
نظرت الأرملة إلى الأرض، وكظمت غيظها، فركت شفتيها الواحدة بالأخرى.
أشارت إلى أولادها بالخروج، وعادت لإطلاق سهامها على رأسي:
- لا أعرفُ أي تهمة توجهها إليَّ، المجرم قتل زوجي، أي ذنب اقترفنا، ألأننا فقراء، تستبسلون في إدانتنا؟
- سأكون صريحاً معك؟
- هذا ما أريده فحسب.
- لم أسمع عن زوجك إلا كل خير، لكن أم هشام ادَّعت أن زوجها تحرش بك، وهي تشك بوجود علاقة بينكما.
- تنفست السيدة ببطء، جهدت ألا تكون عدوانية:
- والله، يا سيدي، أنا بريئة.
سأروي لك كل شيء منذ أن سكنا هنا قبل خمسة عشر عاماً، واحكم بنفسك.
تابعت الأرملة:
- كان ذلك بعد ولادة ابنتي الكبرى، أردنا أن نشتري منزلاً كبيراً، نملأه بالأطفال، كان وضعنا المادي حسناً، تدهور مع الوقت لكثرة الأولاد، ورغم جهود زوجي في أكثر من عمل، ومساعدتي له بالخياطة والعمل على آلة التريكو، لكننا غرقنا أخيراً في الفقر والديون، ومع ذلك كنا سعداء، ونحن نرى أطفالنا حولنا بصحة جيدة ومتفوقين في دراستهم.
لم ينغص عيشنا شيء، جيراننا كانوا كالإخوة لنا، أبو هشام على الأخص كان رجلاً محترماً، استدان منه زوجي المال لفترات قصيرة، وأعاده له دون تأخير.
غلبتُ نفسي على الصمت، وأكملتِ المرأة حديثها:
- قبل خمس سنوات، ساءت علاقتنا بالجيران، عبث الكبر برأس جارتنا، ترفعت عن زيارتنا، انشغلت بمشاكل لا حدّ لها مع زوجها، توقفنا عن التعامل معهم إلا بالسلام الفاتر.
أبو هشام، الرجل الشهم، صار مع الأيام شخصاً غريباً، أكادُ أقول إن دماغه قد استبدل. لا تسخر مني يا أستاذ، شاهدتُ فيلماً يروي حكاية رجل أنكره فجأة كل من عرفه، لنعرف في نهاية الفيلم أنه خضع لعملية تغيير دماغ قام بها فريق أبحاث علمية، وخرج الموضوع عن سيطرتهم، ليعود الرجل ويقتلهم جميعاً.
المهم أن أبا هشام صار بخيلاً، وتحوّل من رجل متحفظ إلى بذيء لا يوفر أحداً بسبابه. وصف زوجته بالعاهرة، ونعت زوجي بالجبان الحقير.
لا أخفيك أنه مرة كان برفقة زوجته، دنا مني، لمسني من منطقة حساسة.
ذهلتُ ونظرت إلى زوجته لتردعه، لم تنكر تصرفات زوجها، ولم تعترف بحقيقة وضعه المخزي، رمتِ اللوم يمنة ويسرة، وأغلب الظن أنها كانت تخافه.
يا أستاذ، الرجل كان قبل سنوات نادر الكلام، لا ينطق إلا بما يرضي الله، صار بعدها ثرثاراً بذيئاً، وتصرفاته غريبة بوجه عام.
- لم يكن بينك وبينه علاقة محرمة؟
- لا، كنت أحبُّ زوجي، ولم أخنه، لا مع جارنا ولا مع غيره.
قبل أن أخرج، اعتذرت لها عن أسلوبي الفج:
هدفي هو الحقيقة، ولن أوفر جهداً للوصول إليها.
اتصلتُ دون إبطاء بالدكتور علاء الراعي، صديقي المقرب، طبيب الأمراض النفسية والعصبية، وطرحت له المشكلة العويصة.
وافقَ على معاينة أبي هشام، شرحتُ الوضع للنائب العام، وبعد أخذ ورد، قال إنه لا يجد غضاضة في ذلك.
لم تستغرق المعاينة أكثر من أربعين دقيقة، اتصل بي الطبيب، وقال: طلبتُ تصويراً بالرنين المغناطيسي لدماغ موكلك، وبعد النتيجة سأكتب تقريري.
كان الدكتور علاء خبيراً معتمداً من قبل المحاكم الجنائية، ساهم في كشف ملابسات كثير من القضايا، برع بتحليل تصرفات وذرائع المتورطين في قضايا اغتصاب وقتل متسلسل وسرقات غريبة.
في مقابلتي التالية مع أبي هشام، نظرتُ إليه بعين مختلفة.
كان بالفعل بذيء اللسان، لم يتورع عن ذكر زوجته بالعاهرة التي لم تزره منذ أسبوع، والقاضي بابن الحرام الذي سيدينه من أول جلسة.
وعدته بتخفيف الحكم عنه، لم أطمعه بالبراءة، فهو قد اعترف، والجريمة حدثت في وضح النهار وتحت نظر الشهود، وحينما وصل الأمن الجنائي كان جالساً قرب بوابة منزله، والسكين التي طعن بها جاره ما زالت في يده، لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه، إلا بعد أن هدده رجال الأمن بأنهم سيطلقون النار عليه إن قام بأي حركة.
انتظرتُ أن أنال حظّي من شتائم أبي هشام لكنه لم يفعل، شكا لي من صداع لا يفارقه منذ عام، واشتدَّ عليه مع دخوله السجن، وأضاف:
- يا أستاذ، فقدت حاسة الشم منذ دخلت إلى السجن، أتقبل أي طعام يوضع لي لأنني لا أشمُّ أي رائحة ولا أميّز بين الأطعمة.
مازحته:
- قد لا يكون أمر فقدان الشم سيئاً، ولكن مشكلة الصداع ممكنة الحل، سأطلبُ من الدكتور علاء أن يصف لك مسكناً.
خرجت من السجن، واتجهت إلى مكتبي، بالطريق رنَّ هاتفي الجوال، لم أرد عليه، أغلقته وأنا أدخل المكتب، وانشغلت بالاستماع إلى أهل موكل آخر، وقد اعتدت التركيز وإلغاء المؤثرات الخارجية.
فتحت جوالي لأجد عشر مكالمات فائتة، سبع منها من علاء مع رسالة صوتية يقول فيها: اتصل بي فوراً، الأمر لا يحتمل التأخير.
كالمتُ الدكتور علاء الذي عاجلني بنبأ ساحق:
- عمرو الذيب، أبو هشام، ليس مجرماً، أنه مريض، استطرد الطبيب: كما توقعتُ، أظهر الرنين المغناطيسي إصابته بورم ضخم في الفص الجبهي يمزّق العصب الشمي. أغلب الظن أن بدء حدوثه يفوق السبع بل العشر سنوات وأنه يشرحُ غرابة سلوكه، وبذاءة ألفاظه المستجدة، والصداع واضطراب الشم، والأسوأ قتل جاره دون أي سبب.
لم تستغرق محاكمة عمرو الذيب إلا جلسة واحدة، أصدر القاضي حكماً بعدم مسؤوليته، وتعويضاً لعائلة القتيل من مال الدولة.
خضع المتهم لعمل جراحي لاستئصال الورم الضخم من دماغه، ومات بعد أسبوعين من مضاعفات الجراحة.
أعدمَ المرض أبا هشام، ولكنه مات وقد رفعت الجريمة عن كاهله، رغم بشاعة ما فعل.