قُورينا الليبية.. أثينا إفريقيا

خلف أحمد محمود أبوزيد



قورينا هو الاسم القديم لمدينة شحات الأثرية الليبية، على أرضها تعاقبت الحضارات وتلاحقت الثقافات، فقد ترك الإغريق والرومان والمسلمون بصمتهم الواضحة في أجزاء مختلفة من هذه المدينة العريقة، وصفها الشاعر الجميل بندار بقوله: "بنيت على الصدر الرّفّاف، جبل حول ينبوع يتدفق قوياً على حجر جيري، هنا أقام "بو للو" عِرساً أسطورياً على الحورية قورينا". زارها هيرودوت واستوحى من هذه الرحلة كتابه الرابع المسمى كتاب" ليبيا"، وشد الرحال إليها الفيلسوف الشهير أفلاطون، لزيارة فيلسوفها الأشهر في ذلك الوقت "ثيودوروس القورينائي"، الفيلسوف وعالم الهندسة الكبير. وعلى مدى عصور مختلفة لم تفقد الطبيعة في هذه المدينة جمالها وفتنتها، فهي معروفة بمناخها وبيئتها الخصبة، وكثرة عيون المياه الطبيعية بها، وتنوع النباتات والأشجار فيها، إضافة إلى أنها تعد من أعلى المدن الليبية من حيث مستوى هطول الأمطار سنوياً، لدرجة أنها وصفت بالمدينة ذات السماء المثقوبة لغزارة أمطارها، زارها منذ ما يربو على مائة عام الرحالة الفرنسي "جان ريمون باشو"، وكتب عنها في كتابه "رحلة إلى مرمرة وقورينا"، واصفاً جبلها الأخضر بأنه لولا أشجار النخيل التي ترشق رؤوسها في الأفق لظن نفسه موجوداً في شواطئ "الكوت لازور"، حيث أجمل مناطق الجنوب الفرنسي.


 

موقع قورينا

تقع مدينة قورينا الأثرية، فوق هضاب الجبل الأخضر بالجزء الشرقي من ليبيا، على بعد ثلاثة عشر كيلو متراً للداخل من ساحل البحر الأبيض المتوسط، على قمة هضبة كلسية من الحجر الجيري، بارتفاع 600 متر فوق جبال شامخة، ينبسط تحت أقدامها بحر لُجيّ، وتمتد جنوبها صحراء مترامية الأطراف، وتعد قورينا ثاني أكبر مدن محافظة الجبل الأخضر بعد مدينة البيضاء، التي تبعد عنها بمسافة 10 كم، وهي واحدة من أجمل مدن ليبيا تاريخاً وحضارة، كما تعد من أجمل عشر مدن عربية.
 

أصل كلمة قورينا

وقد تعددت الروايات حول تسمية المدينة بقورينا، فهناك روايات تدخل في عالم الخيال وتخرج من بواعث الأسطورة، فهناك رواية أسطورية تقول إنه كانت هناك فتاة ليبية تدعى قورينا، تصارع الأسود في غاباتها وأنقذت ملكاً إغريقياً من أسد متوحش فبنى لها المدينة كاملة، كي يعيش معها وسمّاها باسمها، إلا أن هناك تصوراً واقعياً يرجح أن اللبيين هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم، نسبة إلى القورا أو القوري، وهو الاسم الليبي لنبات الزنبق البري الذي كان ينمو بكثرة في المنطقة، ومنه جعل الإغريق اسم مدينتهم الجديدة قورينا، أما التسمية الحالية للمدينة "شحات" فيرجعها البعض لشح المياه، حيث كان يوجد بها عيون نضبت فيها المياه، لهذا كانت تعرف بالعيون الشاحات، وبمرور الزمان اختصر الاسم إلى شاحات، ثم حرف إلى الاسم الحالي للمدينة " شحات".
 

تاريخ المدينة

وتذكر المصادر التاريخية، أن مدينة قورينا قد أسست في عام 631 قبل الميلاد في مرتفعات الجبل الأخضر، على يد المستعمرين الإغريق القادمين من جزيرة " ثيراسانتوريني" بقيادة باتوس الأول، وأصبح اسم المدينة مصدراً للاسم القديم للمنطقة الشرقية لليبيا قورينائية برقة، حيث تحولت المدينة إلى جمهورية عام 414 قبل الميلاد، وعاشت عصرها الذهبي في تلك الحقبة التاريخية الهامة، ثم استسلمت طوعاً للاسكندر الأكبر عام 332 قبل الميلاد، وانتقلت السيادة عليها إلى دولة البطالة الإغريقية، التي سلمتها للرومان في عام 96 قبل الميلاد، وظلت خاضعة لهم حتى احتلها البيزنطيون في عام 342 للميلاد، وبقيت قورينا في أيديهم حتى فتحها العرب المسلمون عام 643 للميلاد، في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخلال ذلك التاريخ الطويل ازدهرت قورينا في ميادين عدة، حتى أصبحت أهم مدينة في الشمال الإفريقي، خلال عصر الإغريق، حيث نالت مكانة اقتصادية بارزة بإنتاجها لنبات السلفيوم الذي ينمو بشكل خاص في هذه المنطقة، وكان من السلع النادرة التي تصدر إلى اليونان وغيرها، وكان يتمتع بأهمية اقتصادية تعادل أهمية الذهب والفضة في ذلك الوقت، بالإضافة إلى ذلك كان اقتصاد قورينا يعتمد بشكل كبير على المنتجات الزراعية الأخرى، حيث كان يصدر أهلها القمح والبقول والفاكهة والتوابل كالكمون والزعفران الذي كان تزين به مذابح بو للو في الصيف، وكذلك كانوا يصدرون منتجات الخراف والماعز وجلود الأبقار والجياد، وكانت هذه الصادرات بهذا التنوع الكبير وهذه الكميات الوفيرة، تتيح لقورينا استيراد أهم احتياجاتها، مع التمتع بأثمن منتجات العالم القديم.
 

مدينة الحضارة والتاريخ

وتزخر قورينا بتراثها الحضاري والتاريخي لحقب تاريخية متتالية، خاصة الحقبة الإغريقية، حيث نشأت بها حضارة كانت صنواً للحضارة الأم في أثينا، وما زالت شواهد هذه الحضارة باقية إلى اليوم، حيث تعد قورينا من أكبر المدن الأثرية في العالم بمسارحها الأربعة ومعابدها الكثيرة وأسواقها وحماماتها ومقابرها، فيوجد بها أكبر معبد في العالم "بو للو" المؤله الإغريقي الذي عهد إليه اليونانيون القدماء برعاية فنون الموسيقى والشعر والنبوءات، وما زال بهو الأعمدة الرخامية لهذا المعبد صامداً يتحدى الزمان، ومعبد زيوس الذي يعود تاريخ إنشائه إلى القرن الخامس قبل الميلاد، حيث تم تشيده آنذاك بأعمدة ضخمة على الطراز الدوري الكلاسيكي مما جعله يعد أكبر معبد إغريقي في شمال إفريقيا، وثاني أكبر المعابد في العالم القديم، ومبنى الأكروبول وهيكل زيوس، مقر إيداع السجلات العامة، ومقر إقامة جيسون ماتتوس، أحد أبرز وجهاء المدينة، ومعبد آمون وجوبتير، وتماثيل لأرباب وملوك من الحضارات القديمة المختلفة، إضافة للحمامات الرومانية بطرازها المميز.

ورغم الطابع الغالب للحضارة الإغريقية والرومانية في هذه المدينة، إلا أن هناك آثاراً تركها الليبيون القدماء من بينها كهوف وادي الكوف الشهيرة، ذات القيمة الأثرية الكبيرة، حيث يرجع بعضها إلى تسعين ألف عام، وكانت موضع دراسات لعلماء وباحثين أضاؤوا من خلالها مراحل مجهولة من التاريخ الإنساني، كما أن هناك آثاراً بالمدينة ترجع إلى المسيحية من أهمها كنسية القديس مرقص، صاحب الإنجيل الثاني وأول أسقف للإسكندرية، ومؤسس الكرازة المرقسية في مصر، وهي أحد أول الكنائس في العالم، كما تزخر المدينة أيضاً، بالعديد من المواقع الأثرية العربية والإسلامية ومعارك الجهاد الإسلامي، مثل ضريح الصحابي رويفع الأنصاري، ومعارك شيخ الشهداء عمر المختار، وغيرها من التراث الحضاري والتاريخي الصامد الذي يتحدى الزمان، ويشير إلى ثراء وتنوع وشموخ التراث الإنساني والحضاري، الذي تضمه قورينا بين أرجائها.
 

تاريخ المدينة فكرياً وثقافياً

تاريخ المدينة الفكري والثقافي لا يقل أهمية عن تاريخها الحضاري، فقد اشتهرت قورينا بأكاديميات العلم والفلسفة وبشعرائها وفلاسفتها وعلمائها الكبار، حيث كانت المدينة مهداً للمدرسة الفلسفية الشهيرة القورينية، التي أسسها ابنها أرستيبوس في القرن الرابع قبل الميلاد، وكان أحد تلامذته سقراط، ومن مآثره التي وصلت إلينا قوله: "خير للمرء أن يكون بلا ثروة من أن يكون بلا علم؛ لأنه في الحالة الأولى لن يفتقد غير المال، بينما سيحرم في الحالة الثانية مما يجعل الإنسان إنساناً". و"كاليماخوس Callimachus" القوريني الكاتب الموسوي، الذي تميز بثقافته العلمية والأدبية واللغوية الواسعة، ويبدو ذلك في ديوانه "الأسباب"، حيث كان يميل إلى كتابة الشعر القصير أكثر، وانتقل في مرحلة لاحقة إلى الإسكندرية، ليكون أميناً لمكتبتها التي كانت أعظم مكتبة في العالم، وكان له دور كبير في ترتيب وتبويب كتبها، إذ ينسب إليه أول فهارس وببليوغرافيا مكتبية في التاريخ.

وكذلك إراتوستينس الذي درس الرياضيات والجغرافيا الفلكية بنجاح، وهو أول من قام بحساب محيط الأرض عام 250 قبل الميلاد، كذلك كان من مشاهير قورينا من الشخصيات النسائية، آريتي السيرينية ابنة الفيلسوف أرستيبوس، التي تلقت مبادئ الفلسفة على يد والدها، وأمضت 33 عاماً من عمرها في تدريس الفلسفة الطبيعية والماورائية في الأكاديميات والمدارس الفلسفية المختلفة، وكتبت أكثر من أربعين كتاباً، وأيضاً أنيكارـ س، الذي بلغ من الشهرة وتقدير الأفكار، أن تكونت جماعة الأنيكاريون نسبة لاسمه، والتي حملت مذهبه الفلسفي، والفيلسوف الليبي القوريني الأصل والمنشأ كرنيا، ألمع ممثلي المدرسة الأفلاطونية، ويجمع كبار الفلاسفة والمفكرين القدماء على اعتباره مع خريزيبوس من أهم الفلاسفة في الفترة الفاصلة بين أرسطو وأفلاطون، ونظراً لكثرة عدد مفكري وفلاسفة قورينا، سميت آثينا إفريقيا، وما يزال هناك الكثير مما يمكن تعلمه عن الحياة الفكرية والفنية والاجتماعية في قورينا، وما أبدعه فلاسفتها من إنتاج ثقافي وفكري طوال ما يربو على ألف وخمسمائة عام، وقد نشر الفيلسوف الكبير الدكتور عبد الرحمن بدوي ثلاثة كتب عن تاريخ المدينة الفكري وأشهر فلاسفتها ومفكريها، الأمر الذي أماط اللثام عن الكثير من الحياة الفكرية والثقافية للمدينة.

 

قورينا المعاصرة

والآن تعد قورينا موقعاً أثرياً مهماً، يقصده الزوار، من مختلف دول العالم، للتمتع برؤية تراثها الحضاري العريق، الذي يرجع إلى عصور تاريخية مختلفة، كما تشتهر المدينة اليوم بإقامة مهرجانات ثقافية وأنشطة رياضية، حيث حصلت على جائزة السياحة العالمية كأفضل معلم أثري سياحي (2009)  بين أكثر من 160 مدينة في العالم، شاركت في معرض لندن، حيث اعتبرها مانحو الجائزة، نموذجاً متكاملاً للمدينة الأثرية على مستوى شمال إفريقيا، كما أسست فيها مؤخراً صحيفة تدعى "سيريني"، وافتتح بها أيضاً محطة راديو قريني المحلي، الذي يعرف بالتراث الثقافي والفكري والحضاري للمدينة، هذا إلى جانب أنها مدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، نظراً لمحافظتها على تراثها الحضاري وحسن إدارتها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها