رحلة الشَّاعر "محمَّد إقبال" إلى مهبط الوحي

محمد عبد الشّافي القُوصي


ترك الشاعر العلاَّمة (محمد إقبال) سيرةً طيبة، ومسيرةً عطرة على مر الليالي والأيام! ولِمَ لا؟ فهو شاعر باكستان، وشاعر القارة الهندية، بلْ شاعر الإسلام، بلْ شاعر الإنسانية ... إنه الشَّاعر الذي ملأ الدنيا، والفيلسوف الذي شغل الناس! نعم؛ محمَّد إقبال (1877- 1938م) الذي نال ما لمْ ينله أحد سواه –في القرن العشرين- من البحث والشرح والدراسة والنقد والتحليل.

وعلى الرغم من كثرة الدراسات الأدبية والأكاديمية التي تناولت حياة (إقبال) وجهاده؛ إلاَّ أنه ما زالت هناك مساحات شاسعة في حياته لمْ تنل حظها من البحث، وهناك مناطق مجهولة لمْ يطرقها أحد من الأدباء والكتَّاب، وهناك محطَّات في حاجة إلى تسليط الضوء عليها... من هذه المحطَّات المهمة في مسيرة "إقبال" رحلته الحجازية؛ التي خلَّدها بأشعار مغسولةٍ بالدمع، وقصائد تقطر دماً... فالشِّعر عنده هو الذي يمدُّ الإنسان بإلهامٍ لا ينقطع، ويقوِّي ذاتيَّته التي هي مقصود الحياة، وهذه الروح أسهمت في جعل كثير من قصائده أقرب إلى الفلسفة منها إلى الشِّعر –كما يقول النقَّاد!


مَن هو محمد إقبال؟

في مقالة رائعة بعنوان: "تحية لذكرى إقبال"، كتبها الأديب الكبير/ أحمد حسن الزيَّـات –رئيس تحرير مجلة الرسالة- قال فيها: "لقد نبتَ جسمه في رياض كشمير، وانبثقتْ روحه من ضياء مكة، وتألَّفَ غناؤه من ألحان شيراز: إنسان لدين الله في العجم، يفسِّر القرآن بالحكمة، ويصوِّر الإيمان بالشِّعر، ويدعو إلى حضارة شرقية قوامها الله والروح، وينفّر من حضارة غربية تقدس الإنسان والمادة".

ثمَّ أبرز الأستاذ/ الزيات دور إقبال في الدفاع عن الرسالة المحمَّدية، فقال: "إذا كان حسَّان شاعر الرسول؛ فإنَّ "إقبال" شاعر الرسالة، وإذا كان لحسَّان مَن نازعه شرف الدفاع عن النبيّ محمَّد –صلوات الله عليه- فليس لإقبال مَن ينازعه شرف الدفاع عن الرسالة المحمدية في عصرنا... وإذا كان في الشعراء الصوفيِّين من عطَّر مجالس الذِّكر بفضائل الإسلام، وشمائل النبوة، فليس فيهم مَن بلغَ مبلغ "إقبال" في فقه الشريعة، وعلم الحقيقة، والتأمُّل في كتاب الله، والنظر العلمي في كلام الرسول، والجمع بين قديم الشرق وجديد الغرب في قوة تمييز، وسلامة فهم، وصحة حكم ...".

ولعلَّ الشيخ (الصّاوي شعلان) من أفقه الناس بأدب إقبال، وأعلمهم بشِعره، بلْ إنه أفضل مَن ترجم روائع إقبال إلى العربية... لذا؛ فقد كانت شهادته ذات دلالةٍ بعيدة، وقيمةٍ كبيرة؛ إذْ يقول: "لمْ يهتم شاعرٌ أعجميّ قبل (إقبال) بأمجاد العرب والإسلام اهتمامه بهما، فهو الَّذي فتح الباب على مصراعيه في هذا المجال أمام الَّذين عاصروه ومن جاء بعده من الشعراء. تكلَّم عن مجد العروبة، وأثر الإسلام في رقيِّ الأمم، وتناول قضايا عربية بحتةً، مثل قضية فلسطين، وسجَّل أمجاد العرب في صقلية، وقرطبة، ونعى على العرب تفرقهم، ووجَّه إليهم في دواوينه أكثر من خطاب...".

أمَّا عملاق الفكر والأدب الأستاذ/ عباس محمود العقَّاد- فقد ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه زملاؤه في تحليل جوانب العبقرية في شخصية إقبال، فقال: "إنَّ إقبـال هو طرازُ العظمة الّذي يتطلبه الشرق في الوقت الحاضر، وفي كلِّ حين؛ لأنها عظمةٌ ليست بالدنيويَّة المادِّيَّة، وعظمة ليست بالأخروية المُعرِضة عن هذه الدنيا، وهو زعيم العمل بين العدوتيْن من الدنيا والآخرة، قوَّام بين العالمين كأحسن ما يكون القوَّام".

القرآن الكريم في حياة "إقبال"

نشأ (محمَّد إقبال) في بيت طاهر لأبويين صالحيْن؛ فكانت أمه نموذجًا رائعًا للتقوى والورع والالتزام بتعاليم الإسلام، قال عنها يوم موتها: (عندما آتي إلى تراب مرقدك؛ سوف أصيح: مَن ذا الذي يذكرني في الدعاء في منتصف الليل)؟!

 أمَّا والده "نور الدين إقبال" فكان هو المعلم الأول له، فقد كان واسع الثقافة في علوم الدِّين، وقد حثَّه على قراءة القرآن وحفظه وتدبره منذ صغره، وكان يقول له كلما رآه يكثر من قراءة القرآن: "إذا أردتَ أن تفقه القرآن؛ فاقرأه وكأنه أنزل عليك". فأخذ إقبال منذ ذلك الحين يتدبر آيات القرآن الكريم، ويتفهم معانيه ويغوص في بحار علومه؛ حتى انطبع نور القرآن في قلبه، وفاض على لسانه، وأصبح دليله ومرشده في جميع خطوات حياته.

هذا؛ وقد ربَّي "نور الدين إقبال" ولده تربيةً إسلامية قويمة، عمادها: الكتاب والسنَّة والقدوة الحسنة، فكان يوقظه صغيراً ليصلى الفجر، وكان يرشده دائماً لعمل الصالحات، والمسارعة في الخيرات... حكى إقبال في كتاباته قصة جليلة عن والده تكشف عن عمق إيمان الأب وعن أسلوب التربية الإسلامية، قال: "جاء سائل، فطرق بابنا بعنف، فزجرته بعصا كانت بيدي، فتناثر ما جمعه، فتألَّم والدي وسال الدمع من عينيه وقال: (يا بنيَّ؛ غدًا تجتمع أُمَّة خير البشر أمام مولاها، ويُحشر أهل الملة: الحكماء والشهداء والعلماء والعصاة، ويأتي هذا السائل المسكين صائحاً شاكياً، فماذا أقول إذا قال لي النبيُّ الكريم: لقد أودعك الله فتىً مسلمًا، فلماذا لمْ تؤدبه بأدبي؟ فانظر يا ولدي عتاب النبي الكريم، ومقامي وخجلي بين الخوف والرجاء، أتفضح أباك أمام مولاه؟! يا ولدي كن برعماً في غصن المصطفى، وكن وردة من نسيم ربيعه، وخذ من خلقه الطيب بنصيب).

نشأة "إقبال" الإيمانية

لا جرمَ أنَّ بيئة "إقبال" ونشأته في رحاب الإيمان، وتحت مظلَّة الإسلام؛ أمطرته بوابلٍ صيِّب من الإبداع الطيِّب، والألق الفنِّي، والتألُّق الشِّعري منقطع النظير؛ الذي تسجد له القلوب، وتهيم به الأرواح... إذْ يقول عن نفسه: "لمْ يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي ويُعشِيَ بصري؛ لأني اكتحلتُ بإثْمِد المدينة المنوَّرة.. إنَّ تُربة المدينة أحبُّ إليَّ من العالم كله".

لقد عاش "إقبال" حياته مشبوب الحنين مستطار اللُّب، هائماً بأمجاد المسلمين، يرسل شِعره كما الغيثُ الذي ينزل على الأرض الجُرُزِ، فتخرجُ به زرعاً يانعاً، وثمراتٍ مختلفاً ألوانها.. وفي هذا المعنى، يقول: "إنني هائم في شِعري وراء الشعلة التي ملأتْ العالم أمس نوراً وحرارة، وقد قضّيتُ حياتي في البحث عن تلك الأمجاد التي مضت، وأولئك الأبطال الذين رحلوا، وغابوا في غياهب الماضي.. إنَّ شِعري يوقظ العقول، ويهزّ النفوس، ويُربّي الآمال في الصدور.. ولا عجب إذا كان شِعري يملأ القلوب حماسةً وإيماناً، وكان وقعه في النفس كبيراً وعميقاً، فقد سالتْ فيه دموعي ودمائي، وفاضت فيه مُهجتي".

أجل؛ لقد أيقظ شِعر "إقبال" العقول، وهزَّ النفوس، وفتح أبواب الأمل، وبشَّر بغدٍ مشرِق، ومستقبلٍ واعد لأمَّتهِ... مما جعل الملايين تلتف حول دعوتهِ الإصلاحية، من كل حدبٍ وصوب، باختلاف الأوطان والمذاهب والثقافات!

"إقبال" في جزيرة العرب

بمجرد أن وطئ (إقبال) أرض الجزيرة العربية؛ استدعى الماضي الجميل، والمجد التليد، فقال- متشوقاً لذاك التاريخ الذي صنع حضارة الأمة:
والمجد مشتاقٌ، وأمَّةُ أحمدٍ ... ومحاور الغزلان ملء تلالها
يتهيأ التاريخُ لاستقبالها ... هضباتُ نجدٍ في مغانيها المها

ثمَّ توجه نحو (المدينة المنورة) وهناك وصف مشاعره الإيمانية، وأحاسيسه الوجدانية في قصيدة بعنوان (إلى مدينتك يا رسول الله) وهي القصيدة التي ترجمها إلى العربية سماحة الشيخ/ أبو الحسن الندوي- يقول فيها إقبال: ( يا رسول الله زرتك البارحة في المنام ... إليك أشكو ظلم الهنود ... وأشكو ماذا فعلوا برسالتك!! إنهم -يا رسول الله- حولوا رسالتك إلى تمائم وتعاويذ ورقصات .. إن رسالتك يا رسول الله انبعثت من المدينة؛ فأحيتني وأحيتْ أمثالي .. لكن لازال الهنود في غياهب الجهل والظلمات- يا رسول الله).

ثمَّ وصف خروج الرسالة من (طيبة) وذهابها إلى العراق، ثم إلى الأتراك، ثم إلى الهنود، وأنها ترتفع بإذن الله لتغطي الدنيا، يقول:
مِن ثراها قد نثرنا النور في دنيا الوجود
حكمة الإيمان من "طيبة" سارت للعراق
وعلى أهدابها صغنا مغان من خلود
وسل الأتراك؟ ثمَّ سارت سريعاً للهنود!

يقول المؤرخون: عندما زار (إقبال) مكة المكرمة، طاف بالكعبة المشرفة، وتعلَّقَ بأستارها، وبكى طويلاً، وهنالك أنشد قصيدته (تاجـك مكة) التي تعجَّب فيها من جيل الصحابة -رضوان الله عليهم- وقال: سبحانك يا رب! هؤلاء كانوا يطوفون بالأصنام، ثمَّ أصبحوا يطوفون بالبيت العتيق ِلله رب العالمين، ثمَّ انطلقوا يحملون راية (لا إله إلا الله) إلى العالم أجمع، فقال:

وأصبح عابدو الأصنامِ قدما ... حماةَ البيتِ والركن اليماني

هذه "القصيدة" اعتبرها النقَّاد من عيون شِعر إقبال! ومن روائعه الخالدة؛ وقد جاءت ضمن ديوان "صلصلة الجرس"؛ إذْ جمعتْ بين حرارة الإيمان وصفاء التأمل العقلي، فجاءت الحقائق الفلسفية في أبياتها ممزوجة بالعواطف، متحررة من قيود المادة، متطلّعة إلى السماوات العلى، وقد ترجم هذه القصيدة إلى العربية الشيخ "الصاوي شعلان"، واعتبرها النقَّاد من روائع الأدب العالمي، قال فيها إقبال:
مَن ذا الذي رفع السيوفَ ليرفع اسمك
كنَّا جبالاً في الجبال وربما سِرنا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا
لمْ تنسَ إفريقيا ولا صحراؤها
وكأنَّ ظِلَّ السيف ظِلّ حديقةٍ
لمْ نخشَ طاغوتاً يحاربنا ولوْ
ندعو جهاراً: لا إله سوى الذي
ورؤسنا يا ربِّ فوق أكُفّنا
كنَّا نرى الأصنامَ من ذَهبٍ
لوْ كان غير المسلمين لحازها
فوق هامات النجومِ منارا
على موج البحارِ بحارا
قبل الكتائب يفتح الأمصارا
سجداتنا والأرض تقذفُ نارا
خضراء تنبتُ حولنا الأزهارا
نصب المنايا حولنا أسوارا
صنع الوجود وقدَّر الأقدارا
ترجو ثوابك مغنماً وجوارا
فنهدمها ونهدم فوقها الكفَّارا
كنزاً وصاغ الحليّ والدينارا

"إقبال" لحظة وداع البيت العتيق!

عندما ودَّع (إقبال) بلاد الحجاز، ومهبط الوحي، وأرض المعجزات؛ هطلتْ دموعه بغزارة، ولمْ يتمالك نفسه من دفقات الشوق والحنين التي انتابته حينذاك... وفي تلك الأثناء؛ جادت قريحته بقصيدته الخالدة، الممزوجة بالحكم الرفيعة، والمعاني الساحرة الجميلة، التي استهلَّها قائلاً:
إذا الإيمانُ ضاع فلا أمان
ومَنْ رضيَ الحياة بغيرِ دينٍ
تساندتْ الكواكبُ فاستقرت
وفي التوحيد لِلَّهُمَّ اتحاد
ولا دنيا لمن لمْ يحيي دينا
فقد جعل الفناءَ لها قرينا
ولولا الجاذبية ما بقينا
ولن تبنوا العلا متفرقينا

أخيراً؛ رضيَ الله عن (شاعر الإسلام) الذي أنشأ دولة، وحمل على عاتقه الدعوة إلى الوحدة والتضامن، ونبذ الفُرقة والتشرذم... وفي سبيل ذلك؛ ما ترك باباً إلاَّ طرقه، ولا سبيلاً إلاَّ قصده، ولا طريقاً إلاَّ سلكه... حتى مات وعرقه يتصبَّبُ عليه، وتراب الطريق على قدميْه.

نضَّر الله وجه (فيلسوف الإسلام) القائل: "أعطني القوة لأقول: لا، وأعطني العقل لأعرف كيف أقولها، وأعطني الكفاية لأعرف متى أقولها".

رحم الله (قيثارة الإسلام) الذي قال عنه سماحة الشيخ/ أبو الحسن الندوي: "إنَّ إقبال أنبغ عقلٍ أنتجته الثقافة الجديدة، التي ظلت تشتعل وتنتج في العالم الإسلامي طوال قرنٍ كامل، وأعمق مفكر أوجده الشرق في عصرنا الحاضر، إنَّ جُلّ ما أعتقده أنَّ إقبـال شاعرٌ أنطقه اللهُ ببعض الحكم والحقائق في هذا العصر، أنطقه اللهُ الذي أنطق كل شيء، أنطقه كما أنطق الشعراء والحكماء، قبل عصره، وفي غير عصره".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها