التّناص.. في البلاغة العربية والنقد الحداثي

عبد المنعم الفَيا

التناص أو التناصص intertexuality مصطلح حداثي لفظاً، قديم مفهوماً. وهو استدعاء الشاعر لنصوص تاريخية أو دينية أو ثراثية وأسطورية أو نصوص من أشعار آخرين في قصيده. ويسمى هذا الاستدعاء في الإنجليزية allusion، ويترجمه بعضهم إشارة أو إحالة. وأما في البلاغة العربية فيعرف بالاقتباس والتضمين.

 

 التناص في البلاغة العربية 

ويندرج الاقتباس والتضمين في علم البلاغة العربية تحت باب المحسنات البديعية. ويميز بعض البلاغيون العرب بين الاقتباس والتضمين. فهم يخصون الاقتباس بالإحالة إلى القرآن والحديث، بينما يخصون التضمين بالإحالة إلى شعر الآخرين، وإلى الأخبار واالقصص والسير التاريخية.

جاء عند الخطيب القزويني في معنى الاقتباس البلاغي: "الاقتباس أن يُضمّن الكلام شيئاً من القرآن أو الحديث، لا على أنه منه. وهو ضربان: الأول ما لم يُنقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي، والثاني بخلافه. ولا بأس بتغيير يسير للوزن أو غيره"(1).

يقصد بنقل النص المقتبس عن معناه، اختلاف الدلالة التي ورد فيها المقتبس في الأصل عن دلالته في السياق الذي استعمله فيه الشاعر، ويمثلون لذلك بقول ابن الرومي في الهجاء:
لئن أخطاتُ في مدحــ ... ــــــك ما أخطاتَ في منعي
لقد أنــــزلتُ حـــــاجــــــاتي ... بـــــوادٍ غيـــــــــــر ذي زرعِ

ومعلوم أن عجز البيت الثاني نص قرآني ورد في خبر أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، حينما ترك ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة وحدهما في بيئة قاحلة. ولكن الشاعر أعاد توظيف الخبر لخدمة معنى خاص به، وهو الإشارة إلى بخل الممدوح الذي لم يظفر من مدحه بشيء.

ومن الأمثلة على خروج النص المقتبس عن معناه الأصلي قول أبي العلاء المعري يصف نار الفريق (الحي) بالبادية:
حمراء ساطعة الذوائبِ في الدجى ... ترمي بكل شـــرارةٍ كطـِــراف

فقد أخذ الشاعر كبر حجم شرر نار جهنم من قوله تعالى: {ترمي بكل شرارة كالقصر}، وشبّه بها شرر نار فريق البادية، كناية عن القِرى وكثرة الرماد دلالة على الكرم. والطِراف من بيوت البادية.

وأما التضمين عندهم فهو: "أن يُضمّن الشعر شيئاً من شعر الآخرين، مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهوراً عند البلغاء، ولا يضر التغيير اليسير"(2). ومن ذلك قول الحريري:
على أني ســأنشـِـدُ عند بيعي ... أضاعوني وأي فتىً أضاعوا

عجز هذا البيت مقتبس من قول الشاعر الأموي عبد الله بن عمرو العرجي:
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليــومِ كريهـةٍ وســـــدادِ ثغـــرِ

هذا، ولم يقف الاقتباس والتضمين في النقد العربي القديم عند حدود التناص مع النصوص الدينية وشعر الآخرين؛ وإنما شمل ذلك التناص مع القصص والأخبار التاريخية والسير. فقد أورد الخطيب القزويني في (المفتاح) بباب الاقتابس والتضمين، نوعاً من التضمين أطلق عليه اسم (التلميح) وقال عنه: "هو أن يُشار إلى قصة"(3) من غير ذكر تفاصيلها.

ويلاحظ هنا أن القزويني استعمل نفس المصطلح المستخدم في النقد الغربي الحداثي، للدلالة على التناص مع القصص والأساطير والآثار الأدبية والدينية، وهو مصطلح allusion أي تلميح أو إشارة أو إحالة. وقد مثّل القزويني (للتمليح) بقول أبي تمام:
فرُدّتْ علينا الشمسُ والليلُ راغمٌ ... بشمسٍ لهم من جانب الخدرِ تطلعُ
فــو الله مــا أدري أأحــــلام نائـــمٍ ... ألمتْ بنا أم كان في الــرّكبِ يوْشَـــعُ

قوله: "أم كان في الركب يوشع"، إشارة إلى قصة يوشع بن نون المعروفة في التراثين الإسلامي واليهودي. فقد جاء في الحديث النبوي: "إن الشمس لم تُحبس لبشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس". انتهى.
وفي التوراة أن يوشع هو من قاد بني إسرائيل في التيه بعد موسى، ودخل بهم (أورشليم) بعد حصارها، وعندما أوشك على النصر كان الوقت عصراً، فدعا يوشع الرب ألا تغيب الشمس حتى يتحقق له النصر فكان له ما أراد.
 

 التناص في شعر الحداثة 

التناص بالمفهوم المشار إليه، قديم قدم الأدب نفسه، فالأدب الإغريقي والروماني مثلاً تناصص مع الأساطير والقصص الملحمي. وأدب شكسبير في معظمه تناصص مع الآثار الأديبة القديمة والتاريخ الأوربي إجمالاً. وكان شعراء الحركة الرومانتيكية الأوروبية قد أكثروا من التناص مع الآثار الأوروبية والرومانية القديمة، خذ مثلاً (بروميثيوس طليقاً) للشاعر الإنجليزي شيلي وغيرها.

غير أن شيوع التناص على النحو الماثل في الشعر الحداثي، يعود إلى الشاعر الإنجليزي الأمريكي الأصل تي اس إليوت والذي اشتهر به في قصيدته (الأرض الخراب)، والتي تناصص فيها وأحال إلى نحو خمسة وثلاثين نصاً وأثراً قديماً وحديثاً.

وكان إليوت قد أسس مذهبه في الاقتباس والتضمين على نظرية "الحس أو الوعي التاريخي"  historical senseالتي طرحها في مقالته الشهيرة: (التراث أو التقاليد والموهبة الفردية)، والمنشورة بكتابه (الغابة المقدسة: مقالات في الشعر والنقد)، والذي صدر لأول مرة سنة 1920م.

يقول إليوت في هذه المقالة المركزية: "إن الحس التاريخي يملي على المرء حين يكتب، أن يحس لا بجيله فقط يسكن عظامه، بل يحس أن أدب أوروبا كله منذ هوميروس، ومعه أدب بلاده، يشكلان وجوداً ونظاماً متزامنين ومتلازمين.. هذا الحس التاريخي الذي هو مزيج من الإحساس بالمطلق اللازماني، وبالزماني التاريخي في نفس الوقت، هو ما يجعل الشاعر واعياً بالتراث، وواعياً في ذات الوقت وعياً حادّاً بعصره وراهنيته وبموقعه في الزمن"(4).

إذاً؛ "ليس ثمة شاعر أو فنان يمتلك معناه بمفرده، فالشاعر أو الفنان لا يأخذ قيمته الحقيقية إلا إذا وضعته في مقارنة مع أسلافه من الشعراء والفنانين القدامى، أعني ذلك بمفهوم النقد الجمالي والأدبي، وليس فقط بالمفهوم التاريخي"(5).

فهو عندما يقول إنه لا شاعر يمتلك معناه بمفرده، يعني أن المبدع يبني على ما سبقه، ولا يبدأ في فراغ غير أن أفق الإبداع والإضافة والتجديد يظل أمامه مفتوحاً.

وهذا، ولا بد من التنويه بأن مفهوم الاقتباس والتضمين المسنود بنظرية (الحس التاريخي) عند إليوت ونقاد وشعراء الحداثة، يختلف عن مفهوم التناصص عند منظري ما بعد الحداثة: جوليا كريستيفا وفوكو، وجاك دريدا ورولان بارت. إن التناصص في منظور "ما بعد الحداثة" لا يقصد به إشارات وإحالات الكاتب الواعية إلى النصوص الأخرى؛ وإنما يعني أن أي كتابة أدبية، هي حتماً وجبراً إعادة كتابة لا واعية، لكتابات سابقة لكتّاب آخرين، وكل النشاط الأدبي ما هو إلا عملية "تدوير" لا واعية للكتابات والنصوص السابقة.

وكان الشاعر العربي القديم قد اهتدى بفطرته إلى النظرة الجدلية للإبداع الإنساني بين القديم والجديد. وفي ذلك يقول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى:
ما أرانا نقول إلا مُعاراً ... أو مُعاداً من لفظنا مكرورا

وبهذا القول سبق الشاعر العربي المعاصرين من القائلين بالتناص، سواء فهمنا التناص بمعنى الاقتباس والتضمين والإحالة كما عند أنصار الحداثة، أو بالمفهوم الذي يطرحه دعاة ما بعد الحداثة، والذي يحيل الإبداع الأدبي إلى محض تكرار لما سبق أن قيل.

وكان ابن رشيق قد ناقش علاقة القديم بالحديث بكتابه (العمدة)، تحت باب (في القدماء والمحدثين)، والذي بدأه بالقول: "كل قديم من الشعراء مُحدِث في زمانه بالإضافة إلى ما كان قبله"(6). كاشفاً بذلك عن حس تاريخي متقدم. وهو كان يرد بذلك على جامعي اللغة الأوائل: أبو عمرو بن العلاء والأصمعي وغيرهم، والذين كانوا لا يحتجون في اللغة إلا بأشعار الجاهليين والمخضرمين، ولا يعتدون بشاهد لغوي مما جاء بعدهم [ص: 80].

واستشهد ابن رشيق في حجته بقول ابن قتيبة: "ولم يُقصِر اللهُ العلمَ والشعر والبلاغة، على زمن دون زمن، ولا خصَّ به قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كلَّ قديمٍ حديثاً في عصره"(7).

ثم استأنس ابن رشيق برأي آخر يقول عنه: "ولم أر في هذا النوع أحسن من فَصْلٍ أتى به عبد الكريم بن إبراهيم فإنه قال: قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيحسن في وقت ما لا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عن أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجد فيه وكثر استعماله عند أهله، بعد أن لا تخرج من حسن الاستواء وحد الاعتدال وجودة الصنعة، وربما استعمِلت في بلد ألفاظ لا تستعمل كثيراً في غيره(8). انتهى.

ويورد ابن رشيق في هذا السياق قول علي بن أبي طالب: "لولا أن الكلام يعاد لنفد". وهو قول يمكن أن يعد قولاً (ما بعد حداثياً) بامتياز كونه يلخص في إيجاز بليغ فحوى نظرية جاك دريدا Iterability التكرارية.

ثم يستدل ابن رشيق بقول عنترة حين وقف حائراً يتساءل من أين يبدأ القصيد والشعراء لم يغادروا شيئاً ولم يتركوا قولاً لقائل:
هل غادرَ الشعراءُ من متردم ... أم هل عرفتَ الدارَ بعد توهم

ولكن برغم ذلك أتى عنترة في هذه القصيدة، يقول ابن رشيق: "بما لم يسبقه إليه متقدم ولا نازعه إياه متأخر"(9). ثم جاء إمام المُحدِثين أبو تمام ووجد علماء اللغة والنحو لا يستشهدون إلا بأشعار الجاهليين حتى جرى على ألسنتهم القول "ما ترك الأول للآخر شيئاً" فنقض ذلك بقوله:
يقول منْ تقرعُ أسماعَه ... كمْ تركَ الأولُ للآخرِ

"وقال في مكان آخر فزاده بياناً وكشفاً":
فلو كان يفنى الشعرُ أفناه ما قرتْ ... حياضُكَ منه في العصورِ الذواهبِ
ولكنـــه صــوب العقــول إذا انجــلتْ ... ســـحـــائــبٌ منــــه أُعقِبتْ بســـــحــائـــبِ

هذا وقد تأثر شعراء الحداثة العرب تأثيراً عميقاً بنظرية (الحس التاريخي) عند إليوت في توظيف الاقتباس والتضمن، واستدعاء الرموز التراثية والدينية والأسطورية والشعرية، ومنهم على سبيل المثال: السياب والبياتي، ويوسف الخال وأدونيس، وخليل حاوي وصلاح عبد الصبور، وأمل دنقل وغيرهم. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى أو يمثّل لها والقارئ المطلع لا شك ملم بالكثير منها، ولكنّا نشير فقط هنا على سبيل المثال لا غير، إلى قصيدة (ليتَ) للشاعر اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح، وقد تناصص فيها مع بيت شعر تميم بن مقبل الشهير:
ما أطيبَ العيشَ لو أن الفتى حجرٌ ... تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ

يقول عبد العزيز المقالح في قصيدته (ليتَ):
يا صدرَ أمي
ليتني حجرٌ على أبواب قريتنا
وليت الشِّعرَ في الوديان ماءُ أو شجر
ليت السنين الغاربات
حكايةٌ مرسومةٌ في نهدِ راعيةٍ عجوز
ليت السماءَ قصيدةٌ زرقاء
تحملني إلى المجهول
تغسلني من الماء – الترابْ
ليت القلوبَ ترى وتسمع
والعيونَ نوافذٌ مسدودةٌ
من لي بعينٍ لا ترى
من لي بقلبٍ لا يكف عن النظرْ.

 

 التناص والمفارقة البلاغية 

المفارقة paradox من التقنيات البلاغية التي تمتاز بها قصيدة الحداثة. وهي حيلة جمالية متمردة على نظرية "المحاكاة"، التي تستند عليها الصورة البلاغية القائمة على زعم أن المشبه به أو المستعار منه هو عين المشبه أو المستعار إليه.

فإذا كان الشاعر وفقاً للنظرية التقليدية في التخييل، يستمد أخيلته وصوره الشعرية من الطبيعة ومنطق الأشياء في الواقع؛ فإن الشاعر الحداثي بالإضافة إلى ذلك ينحو أحياناً في خلق صوره إلى قلب منطق الأشياء في الطبيعة، مفارقة لما هو مألوف بغية إحداث أثر جمالي ما.

والمفارقة بهذا المفهوم هي أحد أغراض الشاعر من الاقتباس والتضمين. فالشاعر الحداثي عندما يستدعي نصاً ما فهو لا يطمح من وراء ذلك بالضرورة إلى تكراره وإعادة تأكيد ما يقوله؛ وإنما يطمح في كثير من الأحيان، إلى توظيفه وإعادة إنتاجه، وربما برؤية مختلفة قد تنتهي به إلى التجاوز والمفارقة.

وقد تنبه بعض علماء البلاغة العرب القدماء إلى أن للتضمين والاقتباس وظيفةً أبعد من مجرد الاستدعاء بغرض التكرار لتقوية الأثر الفني، ومن هؤلاء الخطيب القزويني الذي يرى أن: "أجود التضمين وأحسنه ما زاد في البيت المضمن نكتة بلاغية كالتورية والتشبيه"(10).

وهو يشير بلا شك بالنكتة البلاغية هنا إلى إحداث مفارقة دلالية مع النص المقتبس أو المضمّن. ويدلل القزويني على ذلك بقول ابن أبي الأصبع:
إذا الوهمُ أبدى لي لمَاها وثغرها ... تذكرتُ ما بين العُذيبِ وبارقِ
ويُذكـــرُني مِـــن قدِّها ومدامعـــي ... مَجرَّ عوالينا ومجرى السوابقِ

عجز البيت الأول وكذلك عجز البيت الثاني هما في الأصل يشكلان معاً على التوالي البيت الأول من قصيدة للمتنبي يمدح فيها سيف الدولة، ويصف فيها أحداث غزوة من غزواته لبعض القبائل العربية. يقول المتنبي في مطلع القصيدة:
تذكـــرتُ مـــا بين العُذيبِ وبارقِ ... مجــرَّ عـوالينا ومجــرى الســـوابقِ
وصحبةُ قومٍ يذبحون قنيصَهم ... بفضلة ما قد كسّروا في المفارقِ

يستهل المتنبي القصيدة بالنسيب. والعُذيب وبارق موضعان بالكوفة مرتع صبا المتنبي. يريد أنه يتذكر في تلك المواضع جريان المياه من الأعالي في الوديان ومطاردة الفتيان للصيد (القنيص) على الخيل (السوابق).

ولكن ابن أبي الأصبع أعاد إنتاج قول المتنبي لخدمة غرضه الخاص على سبيل المفارقة، فأحال دلالة تذكر العُذيب وبارق الواردة بصدر بيت المتنبي، لتدل على تذكره لعذوبة تقبيل فاه الحبيب وحلاوة لمَاه، وبياض أسنانه التي تلمع كالبرق. كما أحال في نفس الوقت دلالة جريان السيل وتسابق الفرسان الواردة بعجز بيت المتنبي، لتدل على تحدر وتلاحق دموعه حزناً على فراق الحبيب وهجرانه.

وفي الشعر الحديث كثيراً ما يكون الغرض من التناص (الاقتباس والتضمين) المفارقة، فقد برر إليوت تناصصه مع دانتي مثلاً في الجزء الأول (دفن الموتى) من قصيدة الأرض الخراب بقوله: "استعرت أبياتاً من دانتي في محاولة لإعادة إنتاج، أو قل لإثارة ذكرى المنظر الذي صوره دانتي للجحيم في ذهن القارئ؛ لكي أقيم مقارنة بين جحيم العصور الوسطى وجحيم الحياة المعاصرة"(11). ويشير بذلك إلى قوله بالقصيدة:
يا مدينة الوهم!
تحت الضباب الأغبش في فجرٍ شتائي
على جسر لندن تدفقت أعدادٌ غفيرة
لم أكن أتصور أن الموت قد حصد كل هذه الحشود
يصدرون تنهيدات قصيرة متقطعة
وقد ثبت كل منهم بصره أمام قدميه.

الشاعر هنا يصف بحسب قوله: "منظر الموظفين وهم يتدفقون من محطة القطار عبر كبرى لندن، متجهين إلى مكاتبهم قد أثار في نفسي قول دانتي: ما كنت أظن أن الموت قد أهلك كل هذه الحشود من البشر. وقد حورت قول دانتي: كانوا ينفثون تنهدات قصيرة متقطعة. وقد أثبت في هوامش القصيدة المصدر حتى أجعل القارئ يتعرف على الإشارة؛ لأنني على يقين بأنه إذا لم يلتقط هذه الإشارة سوف لن يدرك الغرض من استدعاء قول دانتي"(12).

إذن؛ القصد من التناص هنا كان بغرض المقارنة وإبراز المفارقة بين زمنين، أوروبا العصور الوسطى أيام دانتي، وأوروبا مطالع القرن العشرين زمن كتابة القصيدة.

ومن شعراء قصيدة الحداثة العرب الذين برعوا في توظيف التناص على سبيل المفارقة البلاغية الشاعر أمل دنقل (1940-1983)، والغرض عنده من المفارقة دائماً الرفض والاحتجاج وذلك من خلال إبراز التناقض بين الواقع والمثال، بين الصورة التي يرسمها النص المقتبس والمتناصص معه وبين النص المبدَع، بين الماضي والحاضر.

وأمل دنقل لا يكتفي بالزج بالنص المتناصص معه في ثنايا النص الشعري، بل يتجاوز ذلك إلى هضم وتمثيل النص المقتبس وتفجير طاقاته الإيحائية حتى إنه يكاد يختفي ويتحول إلى مجرد خلفية في الذاكرة الجمالية، تضيء فضاء النص الإبداعي.

ففي قصيدة (لعبة النهاية) يستلهم أمل دنقل أسطورة كيوبيد إله الحب عند الرومان، لكنه لا يذكره بالاسم، بل يوظف مفهوم الأسطورة، ويحوله إلى مفهوم لملك الموت على سبيل المفارقة الأسلوبية. والقصيدة من قصائد (أوراق الغرفة 8)، وهي الغرفة التي كان يرقد فيها الشاعر مريضاً بالسرطان بمستشفى "المعهد القومي للأورام" بالقاهرة. و(لعبة النهاية) إشارة إلى دنو أجل الشاعر، حيث يقول في مطالع القصيدة:
في الميادينِ يجلس
يطلق -كالطفل- نبلته بالحصى..
فيصيبُ بها من يصيبُ من السابلهْ!
يتوجه للبحر
في ساعة المد:
يطرح في الماء سنارة الصيد
ثم يعود..
ليكتب أسماءَ من علقوا
في أحابيله القاتلهْ!
...
أمس: فاجأته واقفاً بجوار سريري
ممسكاً -بيد- كوب ماءْ
ويد - بحبوب الدواءْ
فتناولتها..!
كان مبتسماً
وأنا مستسلماً
لمصيري!!

التناصص هنا لا يقف عند حدود اقتباس أو تضمين نص آخر؛ وإنما يتجاوز ذلك إلى استحضار حالة أو حادثة تستغرق كل قصيدة، لا لتكرار ما تقوله، وإنما لإعادة توظيفها للتعبير عن حالة ماثلة ليس بالضرورة أن تكون مطابقة لتلك الحالة أو الحادثة.

وقد أكثر أمل دنقل من استدعاء رموز التراث العربي والإنساني إجمالاً، واستخدامها (معادلاً موضوعياً) للتعبير عن رؤاه الشعرية من خلال مفهوم المفارقة، إلى درجة أنه خصص لذلك دواوين كاملة مثل (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، وديوان (أقوال جديدة عن حرب البسوس) والتي شملت قصائد مثل: حديث خاص مع أبي موسى الأشعري، ومن مذكرات المتنبي في مصر، ومن أوراق "أبو نواس"، وخطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين، وبكائية على صقر قريش، وغيرها من القصائد.

أما ديوانه (العهد الآتي) فيخصصه جله للتناصص مع العهد القديم من الكتاب المقدس. بل ويقسم القصائد إلى مقاطع شعرية يسمي كل مقطع "إصحاح"، على طريقة تقسيم نصوص الكتاب المقدس. واسم الديوان نفسه (العهد الآتي) فيه مفارقة واضحة مع اسم (العهد القديم) من الكتاب المقدس.

وفي قصيدة (سفر التكوين) يتناصص الشاعر مع أول سفر بالعهد القديم (التوراة)، وهو مخصص لسرد قصة خلق السماوات والأرض وما فيهما وفقاً للتوراة. وكان الرب بحسب التوراة بعد أن يكمل خلق كل شيء ويحسن تقويمه، ينظر إليه فيراه حسن، ويقول: "إن ذلك حسن". فمثلاً عن خلق الليل والنهار، يقول الرب: "فليكن نور، فكان نور، ويرى الرب أن ذلك حسن". وتكرر عبارة "ذلك حسن" في كل مرة يخلق فيها الرب شيئاً جديداً. غير أن يد الإنسان قد عبثت بهذا الجمال والتناسق والانسجام فأصاب الكون الفساد لذلك ينظر إليه الشاعر فيراه "غير حسن".

وتعد قصيدة (الخيول) بديوان (أوراق الغرفة 8) من أجود القصائد في توظيف التناصص، حيث يتخذ الشاعر من رمزية الخيول (معادلاً موضوعياً) لحال للعرب، ويقارن بين ماضي الخيول وحاضرها لإحداث مفارقة جمالية، فيقول:
الفتوحاتُ –في الأرضِ– مكتوبةٌ بدماءِ الخيولْ.
وحدود الممالكْ
رسمتها السنابكْ
والرَّكابان: ميزان عدل يميل مع السيف.
حيث يميلْ!

...
اركضي أو قفي الآن أيتها الخيلْ:
لستِ المغيراتِ صبحاً
ولا العادياتِ -كما قيل- ضبحاً
ولا خضرة في طريقك تُمحى
ولا طفل أضحى
إذا ما مررتِ به .. يتنحى

.....


الهوامش:
1 - الخطيب القزويني، تلخيص المفتاح: في المعاني والبيان والبديع، ص: 217. ┇ 2 - المصدر السابق، ص: 218.┇ 3 - المصدر السابق، ص: 220.
4 - T. S. Eliot, Tradition And The individual Talent,The Sacred Wood, Faber & Faber, London 1997,p.41 
5 - Ibid, p.41 
6 - ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر ونقده، ص: 80. ┇  7 - ورد هذا النص بالصفحات الأولى من كتاب ابن قتيبة (تأويل مُشكِل القرآن). ┇  8 - ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر ونقده، ص: 81. ┇  9 - المصدر السابق، ص: 82. ┇  10 - الخطيب القزويني، تلخيص المفتاح، ص: 218.
11 - T. S. Eliot, To criticize the Critic, University of Nebraska Press, 1992, p. 125
12 - Ibid, p.125 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها