
أحمد كريم حسين بلال كاتب وناقد مصري، ولد في مدينة "ملوي" بصعيد مصر عام 1974، وتخرج في دار العلوم جامعة القاهرة 1996، وحصل منها على درجتي الماجستير والدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، له العديد من الكتب والأبحاث، منها:
✧ جدلية الرمز والواقع، دراسة نقدية في رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، مدارات الخرطوم 2011.
✧ أصداء السيرة والفجوات الدلالية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 2011.
✧ الرؤى الثورية في القصة والرواية "قيد النشر".

حصل على خمس جوائز في النقد الأدبي، وهي:
جائزة إحسان عبد القدوس في النقد القصصي القاهرة 2011، وجائزة الطيب صالح العالمية في النقد الأدبي القصصي من السودان – الخرطوم، وجائزة وزارة الثقافة المصرية "الهيئة العامة لقصور الثقافة" في المقال الأدبي 2012، وجائزة جريدة الجمهورية في النقد الأدبي، وجائزة مجمع اللغة العربية – القاهرة عن كتاب النزعة الدرامية في الشعر العربي المعاصر، وجائزة كتارا عن دراسته النقدية التطبيقية عن "المحظورات في الكتابة الروائية" كتارا للنشر والتوزيع 2020.
✦ البيئة والنشأة والوراثة مقومات أولية لثقل الموهبة والتفكير المنطقي والإبداعي، فما مدى تأثير كل ذلك على مسيرتك الإبداعية؟
الحقيقة أنا مدين بالفضل الأول لوالدي رحمه الله تعالى، فقد كان أزهرياً مُحباً للعربية، تخرج في كلية اللغة العربية في حقبة الستينيات، وهكذا وجدت نفسي في طفولتي أسمع منه أبياتاً يرددها من عصور أدبية متعددة، من كعب بن زهير إلى المتنبي إلى أحمد شوقي الذي كان يحبه كثيراً، فضلاً عن كونه خطيباً مفوهاً يخطب الجمعة ببيانٍ فاتنٍ يستحوذ على الألباب، ولا يفتأ ينشد قصائد الشعر والكلمات الحماسية في المناسبات المختلفة في الإذاعة المدرسية، وفي المناسبات الاجتماعية المتعددة التي تشهدها قريتنا في الصعيد المصري، أورثني والدي محبة العربية وأول ما طالعت من كتب كان ضمن مكتبته الثرية، وقد ترك والدي –رحمه الله تعالى– فيَّ أثراً كبيراً دفعني إلى محبة العربية والتخصص فيها.
✦ أعقب ظهور العديد من المناهج النقدية موجة من التعقيد، والتغريب للنقد الأدبي فهل تغيرت الأسس، والمعايير التي يعول عليها الناقد في تحليله للنص؟
لا يخفى على متابعي الدراسات النقدية أن النقد الأدبي يشهد أزمة كبيرة بسبب موجة التغريب، وأن الوجه العربي الناصع طالما احتجب عن الكتابات النقدية المتخمة بالألفاظ الأعجمية المـُعرَّبة أو المنقولة كما هي، وأن كثيراً من الناقدين يضعون العربة أمام الحصان (كما يقال)، عندما يُسَخـّرون النص الأدبي لخدمة المنهج لا العكس، مع أن المناهج النقدية مجرد أدوات لمعالجة النص، وُجد المنهج للكشف عن ثراء النص، ولم يوجد النص ليستعرض الناقد من خلاله معارفه وأدواته المنهجية، آخر من يفكر فيه النقاد هو القارئ البسيط، مع أن المُفترض أن النقد موكول به إقامة جسور تواصل، يعبر من خلالها القارئ إلى النص الأدبي، وذلك كله فضلاً عن ترويج طائفة من الناقدين للأدب الرديء، وتقديمه للقارئ باعتباره النموذج الأمثل في مغالطات فكرية وثقافية، متحصنة بترسانة المنهج النقدي التي لا يتجاسر أحد على المساس بها. كل هذه الأمور مما جعل النقد الصحفي البسيط هو الأكثر رواجاً وقبولاً لدى القارئ؛ لأنه هو الذي يلبي –بالفعل– احتياجاته المعرفية المتعلقة بفهم النصوص الأدبية والاستمتاع بها.
✦ لا شك أن النقد يمثل شريكاً فعلياً وفاعلاً ومؤثراً، كما أنه موجهٌ لرؤية الكاتب الإبداعية، فكيف يؤثر النقد في وعي وتوجهات المتلقي؟
إذا كان النقد قائماً على ميثاق من الأمانة والموضوعية فإنه –بطبيعة الحال– قادر على الارتقاء بذوق القارئ، وإكسابه ملكة التذوق الأدبي والقدرة على تمييز الأعمال الجيدة وتتبعها، وتسليط الضوء على الأدباء المُجيدين الذين لم يكن لهم حظ كبير من الإشهار الإعلامي، وعلى سبيل المثال قدم الناقد الكبير رجاء النقاش أدباء شبان مجهولين أصبحوا –فيما بعد– من أكبر الأصوات الأدبية في العالم العربي، منهم: الشاعر الفلسطيني محمود درويش، والروائي السوداني الكبير: الطيب صالح، ولولا الحفاوة النقدية بأعمال هؤلاء المبدعين الصغار (في وقتها) لتأخر ظهورهم، ولما تعرف القارئ عليهم وانتبه لروعة أعمالهم.
✦ كيف ترى العلاقة بين الأديب والمتلقي؟
أساس العلاقة بين الأديب والمتلقي –من وجهة نظري– هي (التواصل)، ومن خلال التواصل يركز الأديب على ما يشغل المتلقي ويثيره ويمتعه في آن واحد، مع حفظ التوازن بين (الانقياد المطلق لرغبات المتلقي)، و(الاستجابة لرغبة الأديب في التجريب والمغامرة الأدبية)، فالانقياد المطلق لرغبات المتلقي والاستجابة لأفق توقعاته على الدوام، قد تدفع الأديب لإبداع أدب رخيص أو سطحي أو نمطي، كما أن تطلع الأديب بشكل دائم لخوض غمار التجريب الأدبي والمغامرة في اختبار أشكال التعبير المختلفة قد يوقعه في مأزق التغريب ويؤدي إلى القطيعة مع المتلقي؛ ولهذا قلت إن التواصل بين الأديب والمتلقي لا بُدّ أن يتحقق من خلال التوازن والتناغم بين هذين القطبين اللذين ذكرتهما.
✦ هناك نصوص وأعمال كثيرة مصنفة بأنها الأكثر قراءة ورواجاً، فهل هذا يعني أنها تحظى بالرصيد الأوفر من الجودة والإبداع؟
الذيوع والشهرة لا يعنيان –بالضرورة– تمام الإجادة والإبداع الفني، فقد تروج قصيدة شعرية ما بسبب ارتباطها بحدث معين، يكون له تأثير وجداني كبير على المتلقي، وتكتسب القصيدة من خلاله هذا الوهج الحميمي الكبير فتروج وتنتشر، وقد ظهرت نصوص شعرية كثيرة في ثورة يناير المصرية 2011 كانت ذات تأثير ورواج، فلما مضى الحدث الجلل مضت معه تلك الأعمال، وتلاشت قدرتها على التأثير، وذلك لأنها اكتسبت رواجها وتأثيرها من حدث تفاعلت معه الناس لا من بنائها الفني الجمالي، وعلى جانب آخر كُتبت قصيدة: (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) للشاعر أمل دنقل في أعقاب هزيمة 1967، ولا شك أن الهزيمة مما جعل للقصيدة حضورًا كبيرًا في حينه؛ لكن القصيدة ما زالت معدودةً من عيون الشعر العربي المعاصر حتى الآن؛ لأنها خالدة ببنائها الجمالي وتكوينها الفني لا بموضوعها الذي تطرحه، وقس على ذلك فيما يروح من أعمال أدبية متعددة، فكم من عمل يجعل العناصر الخارجية بوابةً لنجاحه ورواجه، ويزول رواجه مع زوال تلك العوامل، وكل عمل يكتسب قيمته من تكوينه الفني الذاتي فهو باق وخالد.
✦ في ظل سطوع نجم الرواية والقصة هل ما زالت القصيدة تحقق الحضور والدور المطلوب منها؟
تيار الشعر الذي يقدمه النقد ويروج له ويعلي من شأنه –من وجهة نظري الخاصة– لم يعد ملبياً لاحتياجات المتلقي على نحو ما كان منوطًا به في الأزمنة السابقة، فالرواية الآن هي ديوان العرب المعاصر، وفيها صورة المجتمع الفعلية وانتصارات الشخصية العربية وانكساراتها، أما الشعر فأغلبه محتجب متعالٍ على القارئ، ولا يفلت من هذا التصنيف إلا الشعراء الذين استطاعوا تحقيق التواصل مع جمهورهم، والتعبير عن القضايا التي تمس وجدانهم، وهم كثيرون لكنهم مغيبون عمداً لصالح قصيدة النثر وتيار الحداثة الغربي، وأحسب أن المتنفس الوحيد لهؤلاء الشعراء هو منصات التواصل الاجتماعي، وأتوقع أن الشعر سيعود قوياً إلى موقعه الطبيعي الذي كان فيه: (فن العربية الأول)؛ إذا استطاع هؤلاء الشعراء إثبات وجودهم، وفرض مدرستهم من خلال هذه المنابر الإعلامية الجديدة، التي لا تخضع للرقابة أو التوجيه.
✦ اشتملت دراساتك النقدية ومنها "الرؤى الثورية في القصة والرواية" على نماذج عملية لكبار الكتاب منهم نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، والطيب صالح، وعلاء الأسواني، وغيرهم فلمن من هؤلاء وغيرهم من المبدعين والنقاد تحب أن تقرأ؟
بالنسبة للإبداع لا أحب التحيز للأديب بشكل مطلق؛ وعندي أن الإشادة بالنص الأدبي أجدى من الإشادة بالأديب، وللأسواني مثلاً رواية عنوانها: أوراق عصام عبد العاطي كانت أول رواياته، وهي من وجهة نظري أفضل أعماله، وتفوق كل ما كتبه بعدها رغم أنها لم تنتل شهرة، ورواية: (أمام العرش) مثلاً لنجيب محفوظ لو قُدِّمت غُفلاً من اسم مؤلفها؛ لأخرجها النقاد من فن الرواية جملةً وتفصيلاً. أما النقاد فأنا مدين بالفضل للأساتذة الكبار: محمد غنيمي هلال، وعلي عشري زايد، وعز الدين إسماعيل، وإحسان عباس، ومن هم على شاكلتهم من الناقدين الذين يمثلون مدرسة ومنهجاً في العمق والثراء مع البساطة والوضوح، وأتمنى أن أكون امتداداً لمدرستهم النقدية الرائدة.
✦ تؤكد الجهات المنظمة للمسابقات والجوائز ولجان التحكيم على دورهم الفاعل في تنشيط وإثراء الساحة الإبداعية؛ وقد كثر التساؤل حول المعايير والتقييمات التي تمنح الجوائز على ضوئها.. من وجهة نظرك ما أهم هذه المعايير التي من الواجب اتباعها ومراعاتها؟
الجوائز الأدبية –من وجهة نظري– سلاح ذو حدين، فهي بالفعل تثري الساحة الأدبية، وتدفع المبدعين للتنافس في إنتاج أعمال جيدة؛ لكنها –على جانب آخر– قد تكون الشغل الشاغل والهدف الأوحد للمتقدمين إليها، وقد تدفع إلى ساحة التنافس أنصاف الموهوبين، وربما يتقدم إليها غير المنشغلين بالكتابة الأدبية أصلاً منساقين إلى بريقها وإغرائها المادي، ولذا علينا ألا نتعجل في الحكم بأن الأعمال الأدبية الضخمة التي تتقدم للجوائز تُعبر عن ثراء وازدهار فني وأدبي؛ لأن ثلثي هذه الأعمال –تقريباً– ربما تُصفى في المستوى الأول، بسبب الضعف الشديد في مستوى الكتابة الذي يبدو في المستوى اللغوي المتردي، أو في غياب البناء الفني المُحكم الذي تحدده معايير الجنس الأدبي موضع التنافس، وما يتجاوز هذه المرحلة يُعرض على محكمين متخصصين من ذوي الخبرة في جنس العمل الأدبي المتنافس عليه، وهنا لا يكفي أن يكون العمل مُحكماً من الناحية الفنية لينال رضا المـُحكمين؛ وإنما يجب أن يمتاز بقدر كبير من الأصالة الفنية التي لا تجعله تكراراً لأعمال سابقة، أو إعادة صوغ لموضوعات تداولها الكثيرون من قبل؛ لا بُدّ أن يكون العمل لافتاً جداً للانتباه، يطرح شيئاً جديداً ومثيراً من ناحية البناء الفني أو المضمون الموضوعي، ويجب أن يضع المتقدم لهذه الجوائز في اعتباره أن المحكمين يراعون –بالفعل– المعايير الفنية التي تؤهل العمل للفوز؛ لكنهم –أيضاً– قارئون لهم أذواقهم وميولهم الشخصية التي يتفاوتون فيها، صحيح أن هناك أعمالا جيدةً جداً تفرض نفسها بقوة على المتلقين مهما تفاوتت ميولهم وأذواقهم؛ ولكن هذا شيء نادر، فطبيعة التذوق الأدبي تجعل الناس يتفاوتون في قبول الأعمال وترجيحها والمفاضلة بيها، وإن كانت –في مجموعها– جيدةً ومُتقنة، ولذا أقول: إن عدم فوز عمل أدبي توافرت فيه عوامل الإجادة لا يعني بالضرورة أنه عمل رديء، والجوائز قد تكون مؤشراً كبيراً لكون الأعمال الفائزة أعمالاً جيدةً جداً بالفعل؛ لكنها –على جانب آخر– لا تعني أن كل الأعمال التي لم تفز أعمال رديئة أو دون المستوى.

✦ ما أهم النصائح التي يمكن أن تهديها للكتّاب، وهم في بداية حياتهم الأدبية؟
أغلب المهتمين بالأدب يتطلعون دائماً إلى الشهرة والرواج، وهذا تطلع مشروع ولا بأس منه؛ لكنهم يتعجلون ذلك الأمر قبل أن تكون لهم حصيلة ثقافية ومعرفية تؤهلهم لذلك، فهم لا يهتمون كثيراً بالقراءة في مجالات متعددة، وبناء ثقافتهم الذاتية التي ترفد فنهم، وتجعل له ثقلاً ورصانة، كما أنهم لا يقرؤون لغيرهم في مجال كتابتهم الأدبية، واطلاع الأديب على إنتاج غيره مفيد جداً له، فهو يكتسب منه خبرات متعددة، يمكن أن يعيد توظيفها في كتابته فضلاً عن متعته الأدبية وثرائه المعرفي، أقول لكل من تطلع إلى الكتابة الأدبية؛ إن الشغف الروحي الذي تحققه كتابة الأدب هو المكسب الأول للأديب، وعليك أن تتشبع بهذا الشغف الروحي، فأنت أعجز ما تكون عن إسعاد الآخرين بما تكتب إذا لم تسعد به أنت أولاً.