تحت المطر

يونس محمود يونس

عندما أيقظه جرس الهاتف الذي كان يرنّ بإلحاح.. انتابته عاصفة من الرعب.. ذلك لأنّ الساعة لم تكن قد تجاوزت الخامسة صباحاً، والمطر المتساقط يثير جلبة ترتجف لها الأبدان. لكن ما إن علم أنّ الاتصال من امرأة يعرفها حتى تركز تفكيره بها.

- نعم!

بهذه الكلمة أجاب على الاتصال دون تردد.. فجاءه صوت صديقته (م) من الطرف الآخر.

◅ أريد منك أن تخرج معي الآن.. سأنتظرك في ساحة الحرية.

 فسألها باستغراب:
- إلى أين، وما المسألة؟

◅ إلى شاطئ البحر.. هذه هي المسألة.

- الآن؟

◅ أجل الآن، وسأعطيك نصف ساعة لتصل إلى الساحة، وإن لم تأت سأتصل بصديق آخر. أرجو ألا تضطرني إلى ذلك.

 قالت ذلك وأغلقت هاتفها. فإذا به ينهض ويفكر.. الكثير من الأفكار تزاحمت في رأسه. ذلك لأنّ معرفته بها لم تكن بعيدة في الزمن، وهو وإن كان يعيش وحيداً، إلا أنه رسام، وقد مرّ في ذهنه أنّ كل الألوان تعرفه وتتبعه. فهل ينبغي عليه أن يتبع هذه المرأة؟

آنذاك؛ وخلال برهة من الزمن شاهد برقاً ساطعاً يحرق كل الأفكار التي تزاحمت في رأسه، باستثناء فكرة واحدة تردّد صداها مرة بعد أخرى.

"إذا كانت هذه المرأة مجنونة، وأظن أنها مجنونة.. فيجب أن أرافقها. لماذا؟ لا أعرف". أضاء مصباح الكهرباء، ثم ارتدى ثيابه وحذاءه، ولم ينسَ أن يحمل معه معطفاً واقياً من المطر. بعد ذلك غادر مسكنه ومشى متلمساً طريقه إلى ساحة الحرية. فلما وصل وجدها بانتظاره.

◅ كنت أعرف أنك ستأتي.

هذا ما قالته عندما رأته يقترب منها. فقال:

- أتيت لأوفر عليك البحث عن صديق آخر، وكما ترين.. الطقس ليس في صالحك. المطر غزير، وأنت لا ترتدين واقياً. خذي هذا من فضلك.

◅ لا.. لن أرتديه..

- لماذا؟

◅ لأني تبللت وغرقت تماماً، وأريد أن أتبلل أكثر لأذوب إن استطعت.

- يا إلهي.. ما هذا الجنون؟

◅ سمّه ما شئت.

فسألها وهما يسيران.
- كيف جاءتك هذه الفكرة.

قالت:
◅ لم أستطع النوم، ورأيت أنّ حياتي فارغة لا معنى لها. فقررت أن أخرج متحدّية كل ما يعترض سبيلي.

- ولماذا لم تذهبي وحدك، أو لماذا لم تبحثي عن امرأة مثلك؟

◅ أولا لن أجد امرأة مثلي، وثانياً. رأيت من الضروري أن يكون معي صديق أثق به.

- وأنا هو الشخص الذي تثقين به؟

◅ أجل.

- أظن أنك تعلمين مسبقاً أنني جاهز لصحبة المجانين، وكما بقول المثل (جني لأفرح لك).

قال ذلك وضحك.. فأجابته:
◅  طالما أنك معي. قل واضحك ما شئت. لا يهمني.

وأخذا يسرعان الخطا وهما يجتازان الشوارع شارعاً بعد آخر.. يحتميان تارة بالشرفات، ويغوصان تارةً أخرى في مياه الشوارع المتدفقة كالسيول. إذ كانت الأمطار المتساقطة لا تعرف إلى أين تتجه.

خلال هذا المسير المضني. قالت له:
◅ أنت رجل غريب حقّاً. أراك تسرع وتجبرني على مجاراتك. علماً أننا ذاهبان لنقف تحت المطر.

- معك حق. إذ لا ينبغي على المرء أن يكون خفيفاً في ظرف خطير كهذا الظرف.

◅ أين هي الخطورة التي تتحدث عنها.

- ليس الأمر مهمّاً؛ لأني أريد أن أعرف لماذا قررت الخروج  هكذا؟

◅ قلت لك.

- بل أزعم أنّ هناك أمرا آخر.

◅ وحياتك لم أخف عنك شيئاً. لكن المفروض أنني امرأة لا شرقية ولا غربية، وهذا الوسط الضعيف الذي نعيش فيه لا يقدّم لي الهوية التي أعتدّ بها، ولا يقدم لي الحماية أيضاً. لذلك أشعر أنّ الجذب والضغط الذي يأتيني من الجهتين يكاد يسحقني ويفتتني.

- وهل هذا الجذب والضغط موجه إليك وحدك؟ إنه يؤذينا جميعاً. نحن نعيش في قلب العالم، والعالم مريض، وقلبه مريض.. فهل ينبغي أن نخرج جميعاً لنسير هكذا.. أم تظنين أنّ السير تحت هذا المطر أرحم؟

◅ نعم إنه أرحم.

- آمل ألا يرانا أحد.

◅ اطمئن سنعود قبل أن يرانا أحد.

- حذائي أصبح ثقيلاً بسبب الماء، وأنت تبللت كما ترغبين. سنمرض لا محالة.

◅ إذا مرضنا من هذا المطر.. سننسى مؤقتاً أمراضنا الأخرى.

- أية أمراض؟

◅ إذا كنت لا تعرف. دعنا نتحدث في أمر آخر.

قالت ذلك وهي تسرع الخطا. إذ كانا قد وصلا إلى الشاطئ، ولعل ضجيج الموج المرتفع وارتطامه بصخور الكورنيش جذبها لأجل لعبة التحدي التي جاءت من أجلها؛ ولأنّ صديقها كان يدرك كل ما يعتمل في نفسها فقد تبعها بصمت ودون أي تعليق..

أخيراً وقفا أمام البحر، وأخذ الموج الغاضب يلطمهما بذؤاباته العالية على وجهيهما، ليسقط بعد ذلك على الرصيف كيفما اتفق. فقد كان البحر غاضباً جداً، والأمواج تشرئب وتجري في سباق محموم لتتكسر على الشاطئ، والسماء كانت غاضبة هي الأخرى.. إذ كانت ملبّدة بالغيوم الماطرة، والمطر يسقط مدراراً..

ومضت بضع دقائق عرفا خلالها الشعور الكامل بالتلاشي من جهة، وبالعظمة من جهة أخرى. إذ كانا مثل إلهين صغيرين منفيين من رحمة هذا الوجود، أو لعلهما كانا تحت رحمته مباشرة صامتين ومنتصبين، وطبعاً لم ير أي منهما دموع الآخر.

هو تحمّل الموقف، وأصرّ أن يبقى معها إلى آخر لحظة، وهي أدركت قراره بحدسها. فأخبرته في لحظة ما بضرورة العودة. من المرجح أنها كانت منهكة وقانطة.. فعادا دون أن يتبادلا كلمة واحدة، ثم افترقا في الساحة نفسها ليذهب كل منهما إلى مسكنه.

هو دخل الحمام فور وصوله. فاستحم وعاد إلى سريره دون إبطاء، ولم يستيقظ إلا بعد أن نام بضع ساعات. استيقظ بتكاسل شديد، وأعد قهوته وهو يفكر بكل ما حدث، ثم دخل مرسمه وأعد لوحة نظيفة؛ ليرسم المشهد الذي استقر في ذهنه عندما وقفا أمام الموج. لكنه اتصل بها ليطمئن على حالها. فلم يسمع صوتها.. فقط سمع (الهاتف مغلق). أخذ يرسم ويتصل، وبقي الجواب هو نفسه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها