فيلم " Baraka 1992"

التقاء الروحي بالمادي والفيزيائي بالماورائي

تيمور العزاني


من هذا المعنى الفريد الذي أبدعه الشاعر العربي أبو منصور "صرَ درَّ" علي بن الحسن البغدادي (المتوفى 465ه)، يمكننا أن ننطلق في قراءتنا لفيلم "Baraka 1992"، هذا العمل غير التقليدي الذي يُغير من رؤيتنا للواقع من حولنا ويُشعرنا بجلال هذا الكوكب الذي يحملنا بالكَره أحياءً وموتى. ويدعونا لتأمل جوهر الكون اللانهائي لنستشعر هذا الثقل الذي يقصده "الشاعر". صورٌ بالغة النقاء تهيئنا للغوص الأعمق في موضوع علاقة الإنسانية بالخلود وفلسفة هذه العلاقة القديمة الجديدة.

يُصنّف هذا الفيلم على أنه فيلم وثائقي؛ لكنني لا أستطيع أن أجازف باعتماد هذا التقسيم الذي أراه مُجحِفًا. فعمل فريد مثل "بركة" يجب ألَّا يُصنف؛ لأنه تجربة مشاهدة فريدة تخرج منها مختلفًا عما كنته قبل ساعة وسبع وثلاثينَ دقيقة، أكثر إحساسًا بكوكبك الأم وأكثر نقاءً وروحانية واتصالًا بكل ما يسمو بروحك.

الفيلم عملٌ غير تقليدي، لا يضم أي سرد تعودنا عليه، ويقدم لقطات لأشخاص وأماكن وأشياء من جميع أنحاء العالم، أشبه برحلةٍ صوفية تتحرر فيها من جسدك الفاني لتسافر في عوالم الطبيعية والتكنولوجيا. عملٌ لا يتحرج من إظهار الجانب المظلم للإنسانية.

يُعدّ فيلم "Baraka 1992" امتدادًا لفيلم "Koyaanisqatsi 1982" الذي أخرجه " Godfrey Reggi" كبادرة لأفلامٍ تحتفي بالصورة والصورة فقط، وتمزج بين التغذية البصرية والتوعية البيئية بعيدًا عن البساطة والمباشرة في الطرح، يتحدث مخرج "Koyaanisqatsi" عن كون الفيلم لا يحتوي أي نص في وصفٍ صادم: "لم يكن سبب الاستغناء عن الحوار هو خيبةُ الحب للُّغة المنطوقة؛ بل لأن لُغتنا من وجهة نظري في حالة فضيحة كبيرة، فلم تعد تصف العالم الذي نعيش فيه". أيَّةُ هوةٍ ابتلعتنا وألجمت لغاتنا عن وصف عالمنا وواقعنا؟ هذا هو ما يحاول "Baraka" على خطى "Koyaanisqatsi" التعبير عنه بعيدًا عن فجوات اللغات ومشاكلها. بهذا الوصف الذي يعبر عن رؤيته للحالة المأساوية للّغة والحضارة الإنسانية في مواجهة الطبيعة. إن الفيلم "بالنسبة لبعض الناس فيلمٌ بيئي، وبالنسبة لبعضهم قصيدة للتكنولوجيا. والبعض الآخر قد يراها قطعة من القرف، كل هذا يعتمد على من تسأل. إن الرحلة هي الهدف". وهي رحلة تستحق الخوض.

جاء الفيلم بدون حبكة ولا شخصيات أو حتى بنية سردية، بلا أبطال، وبلا ممثلين، ومن غير راوٍ مصاحب كالذين نعرفهم في الوثائقيات، لا شيء غير الموسيقى التصويرية المتفردة والتي أبدعها "Michael Stearns" وفريق "Dead Can Dance" وغيرهم من المؤلفين والفنانين العالميين. موسيقى تمزج بين الأنماط والثقافات وتعكس الاختلاف والتناقضات في العالم، وتلعب دوراً هاماً في إيصال رسالة الفيلم التي تدعو إلى التأمل وتقدير الجمال والتوازن في الحياة، ولتتكامل مع مَشاهده في إيصال رسالة مفادها: كم هي جميلة الطبيعة التي لم نتدخل فيها كبشر، وكم هي جميلة أيضاً مدُننا الحضرية وإنجازاتنا، وكم هي بشعة الكوارث التي نصنعها والحروب التي نشعلها، وكم هو جميل حُبنا لبعضنا وتقبلنا للآخرين على مشاربهم وأديانهم وثقافاتهم المختلفة. فيلمٌ قامت فيه الكاميرا بقول كل شيء حين غاب النص المحكي وحضرت الصورة والموسيقى، ليطرح علينا أسئلة كثيرة، ويروي قصصا أكثر من دون أن يقول كلمة واحدة.

ساهم "Ron Fricke" مخرج فيلم "بركة" في مهام الكتابة والتحرير والتصوير السينمائي في فيلم "Koyaanisqatsi 1982" الذي كان نواةً للفكرة التي اختمرت في ذهنه طويلًا ليُخرِج بعد عشر سنوات فيلم "Baraka 1992"، الفيلم الذي نهل من معين سلفه وتجاوزه في كل شيء تقريبًا، ولينتج لنا هذه البهجة البصرية المذهلة، والتي بحث عنها كثيرًا في 24 دولة في القارات الست، وإذا ما كان هنالك فيلمٌ يمكن أن يكون خريطة جغرافية فإن فيلم "بركة" مؤهل جدًا بكل هذا الثراء والتنوع.

ينقُلنا "رون فريك" من خلال شاشة السينما أو شاشاتنا المنزلية لقمم الجبال المهيبة والحياة البرية والاحتفالات والعادات الدينية والثقافية، والظواهر الجيولوجية، والمناظر الطبيعية والسكن البشري، وكيف يؤثر كل ذلك على الطبيعة والصناعة والحياة الحضرية، لنُشاهد الفقر والأسلحة العسكرية وآثار الحرب وفظائعها، والفن والعمارة. إنها مشاهدُ عميقة تخطف الأنفاس، وصور آسرة لكوكبنا، تظهر لنا أماكن ربما لم يسبق لنا رؤيتها من قبل أو حتى تَخَيُّل وجودها، مشاهد قد تبدو عشوائية من الوهلة الأولى لكنها مترابطة بشكل فريد، متنقلةٌ بسلاسة في التناقضات، بين النور والعتمة، بين الحياة والموت، بين النظام والفوضى، من شوارع نيويورك، إلى القبائل في أفريقيا، إلى الغيوم العائمة فوق الجبال في اللامكان، وكيف يبتعد بنا العالم الحديث عن روحانية أسلافنا، ويحولنا أو يكاد إلى روبوتات منهمكة في أجواء العمل وفي هذا الواقع الهش الذي أنشأناه لأنفسنا، هذه الانتقالات الآسرة ستخلق فينا عددًا لا يحصى من الاستجابات العاطفية؛ سوف تنيرنا وتزعجنا في ذات الوقت، وستجبرنا على التفكير والتساؤل. إنها صور للتطور والحياة ستتركنا في رهبة مطلقة من عالمنا الطبيعي ومدى تطورنا وتجنينا عليه.

اختار المخرج اسم "بركة" هذا المصطلح الصوفي المتجاوز للّغات ليدل على "النعمة أو روح الحياة التي تشكل مصدر التطور والانبثاق. فهي في العربية تعني النماء والسعادة وفي الإسلام تعني البركة "الهبة [والزيادة في الخير] التي يمُن بها الله والتي تستطيع أن تنتقل إلى الأشياء أو إلى البشر". وفي التقاليد اليهودية، هي "نعمة يُحتفل بها". وفي الفرنسية تعني "الحظ السعيد". أما في الصربية والبلغارية فتعني "المأوى" إنها كلمة صوفية قديمة تُتَرجم إلى "نعمة، أو نفس، أو جوهر الحياة، مفردة عابرة للغات، يكاد يصل مدلولها لكل إنسان مثلما يتجاوز فيلم "بركة" حاجز اللغة المنطوقة والمكتوبة. ويظل المعنى الحقيقي لها متروكًا للمشاهد ليكتشفه.
 

حصل "بركة" على إشادات فنية واسعة منذ إطلاقه عام (1992)، حيث فاز بالعديد من الجوائز بما في ذلك جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان مونتريال السينمائي (1992)، وجائزة المحررين السينمائيين الأمريكيين (1994)، وجائزة (SIYAD) في (1997)، وجائزة (Felix) لأفضل فيلم وثائقي في عام (2013). ويمكن رؤية تأثيره في العديد من الأفلام اللاحقة مثل Samsara 2011)) الذي أخرجه ""Ron Fricke نفسه وتم تصويره باستخدام تقنيات مماثلة لتلك المستخدمة في "بركة" بما في ذلك التصوير الفوتوغرافي بفاصل زمني والتي استخدمت بشكل احترافي في الفيلم.

✦✦✦

يمكننا القول: إن "بركة" تجربة سينمائية تجريدية غير عادية، لها تأثيرها الدائم ليس فقط في صناعة الأفلام الوثائقية، ولكن في السينما بشكل عام نظرًا لنهجها المبتكر تجاه سرد القصص غير السردي جنبًا إلى جنب مع المرئيات المذهلة من جميع أنحاء العالم في مقابل الموسيقى التصويرية المفعمة بالحيوية. إنه فيلم يوفر للمشاهدين فرصة للتفكير في حياتهم من خلال الصور المحفزة على التأمل والتي تستكشف الموضوعات ذات الصلة بالبشرية جمعاء بغض النظر عن الثقافة أو الجنسية، مما يجعله مشاهدة أساسية لأي شخصٍ مهتمٍ باستكشاف التجربة الإنسانية وتعقيداتها، واستكشاف جمال العالم الطبيعي، وتأثير التكنولوجيا والصناعة عليه. إنه تذكيرٌ قويٌ بأهمية الحفاظ على كوكبنا والحاجة إلى إيجاد توازن بين الروحي والمادي داخل هذا الكون الشاسع الذي نعيش فيه، الكون الذي يتجاوز حدود اللغة أو الجنسية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها