كان غريباً ما يحدث لي، في الليلة الأولى كان مجرد حلم عابر، لكن في الليلة الأربعين أصبحتْ كل الوجوه لي. وجه اليتم كنت أنا، فمنذ رحيل والدي وحتى مع مرور الكثير من الوقت ازداد تمسكاً بي، عبوساً، فقد معنى الأمان ولذة الحياة. من يفقد عزيزاً ولا يفقد ابتسامته ورونقه؟
تنهش فيّ مصائب الدهر فأنحني لها.. فحائط صدى الأول غادر منذ حين.
داهمني وجه حبيبتي التي تغيرت كثيراً، لا أفهم سبب ذلك، تصفني بالجبان وأنا الشجاع دائماً (في نظري)، المتمرد على كل شيء في الحياة، تتهمني بعدم المسؤولية وأنا أحمل أعباء العالم فوق ظهري.
تأتي أخريات، يدعين أني أذيت مشاعرهن، وأنا الذي لم أقابلهن يوماً، تهرب حبيبتي بعيداً تتهمني بالخيانة ولا تنتظر محاكمتي.
تزداد الأصوات وتتصارع كل الوجوه من حولي وأنا الحائر بينهم أرى الجميع يحمل وجهي فكيف تحولوا جميعاً وما سبب هذه الضوضاء والمشاحنات؟
وقف المدعي العام، رجل بملامح حادة ونظرة ثاقبة، وقال:
"هذا الرجل يدّعي الطيبة، لكنه قاسٍ عند الغضب. يقول إنه يحب العزلة، لكنه يموت شوقًا للناس. يتحدث عن الصدق، لكنه يراوغ عند الحاجة. أليس هذا نفاقًا؟ أليس هذا جريمة ضد ذاته"؟
نهض المحامي الذي يحمل وجهي حد التطابق، لكنه أكثر هدوءاً وثقة. قال بصوت رخيم:
"معارضتي واضحة، سيدي القاضي. هل يُحاكم الإنسان لأنه متناقض؟ أليس التناقض هو جزء من الطبيعة البشرية"؟ فريقان كنا في قاعة المحكمة الكبرى. يتهمني البعض بالضعف والخذلان والخيانة، ويصر الآخرون على نبلي وشجاعتي، فمن أنا؟ وجه شبابي هنا أيضاً، حيث الثورة والأحلام والتمرد، يدّعي أنه أنا، تراكمت عليه فقط بعض الشوائب لكن ما زلت أنا نقي تماماً متوسد بالأمل، مليء بالمخاطرة والتضحيات.
يأتي صديقي وحافظ أسراري أراه متلعثماً، خائفاً من هول الوقوف أمام القاضي، هل يفشي أسراري المؤتمنة أم يصمت ليحميني؟ يردد: "إنه شخص جيد... لكنه محيّر. أحيانًا يشعرني أنه صادق حتى النخاع، وأحيانًا أشك أنه يخدع نفسه قبل أن يخدعنا". يأتي أخي يقول كلاماً منمقاً يذكر مواقف شتى بعضها نسيته أصلاً مع مرور الزمن، لكنه هو وحده يذكر كل ذلك، يقف أمامي ينال سبّات الخصوم، يتحملها كلها عني ويتوسل إليهم أن يتركوني وشأني.
تأتي أمي تحتضني بقوة وتطبع قبلة على وجهي وتنذر القرابين وتقسم على نقائي الخالص وطيبتي العظيمة، تهرب الدموع من عيني ووسط كل هذا يظهر هو، بكامل رونقه البهي وجماله الأخاذ يشد على يدي بقوة ويهمس لا تخف أنا هنا، أَنسى كل شيء، يزول كل خوفي وأنزع كل الوجوه وأصرخ أبي أرجوك انتظر.
يرفع القاضي مطرقته، مردداً:
"الحكم سيصدر الآن"!