اللوحة التشكيلية الإماراتية

فضاءٌ من التّوافق والأصالة

د. محمد سمير عبد السلام

يوازن الفن التشكيلي الإماراتي المعاصر بين صفاء اللغة الفنية التعبيرية التي تقدم العالم الداخلي للذات، ومساحات التجريب الواسعة أحياناً في تلك اللغة التعبيرية نفسها؛ حين تكشف عن تعدديتها الداخلية، أو طفراتها الذاتية الخيالية التي لا تنفصل عن حدس الأصالة؛ مثل تشكيلات الفنانة المبدعة نجاة مكي، أو حين يقوم الفنان بالتجريب في تفكيك مركزية العمل الفني، ودمجه بالفضاء الواقعي، وتحولاته التي تمنح كُلاً من المشاهد، والفنان حرية إنتاج المنظور، والمدلول خارج الأطر، وهو ما نجده في تكوينات الفنان الإماراتي العالمي الراحل حسن شريف، أو نعاين التشكيلات التعبيرية الذاتية حين تتصل بالتكوينات الهندسية الشبحية، وأطياف الموضوعات الاحتمالية الديناميكية داخل العمل التجريدي عند الفنان المبدع عبد الرحمن المعيني.

 

 ومن هنا ينحو الفن الإماراتي المعاصر إلى مواكبة الجديد، دون التخلي عن حالات الصفاء الذاتي، والروحي، وحدس الأصالة المستمد من فاعلية تراث المكان، وحكاياته القديمة، فضلاً عن استلهام حركية الحياة اليومية، وانعكاساتها التعبيرية التجريدية في احتفاء الفنان الإماراتي بمبدأي التعددية الداخلية، والتداخل بين الأطياف، والتكوينات الجزئية في العمل الفني.

وكأن سيولة تيار الحياة في ازدواجها بأطياف التراث الفني العالمي، وذاكرة المكان تنعكس في علامات اللوحة التعبيرية؛ مثل تداخلات الخطوط، والألوان، ولعبها، وديناميتها الخاصة في العمل، أو التموجات المائية التي تعزز من التمثيل المجازي للتحولات الداخلية في ذات المبدع، أو في تيار الحياة الذي يجمع أحياناً بين البهجة، والصفاء، والآلام معاً، أو بين تمثيلات الأصالة الكامنة في عودة الماضي، وأبنية النماذج والحكايات، وحركة اللون، وتموجاته التي تؤكد عنصر الأصالة الروحية، وعودته، وتجدده في الفنان، والمشاهد معاً، تلك العودة التي ذكرتني بمفهوم المتحف الخيالي الذي أبدعه أندريه مالرو، وتحدث عنه في كتاب أصوات الصمت؛ وذلك حين تنتقل الأشكال التمثيلية من الماضي، وتتجاور في المتحف، ويتجذر فيها الاختلاف عن الأصل، هكذا نعاين ذلك التنوع الكثيف في الأشكال، والأطياف، وتموجات اللون التي تضعنا أحياناً على أبواب الماضي بصور خيالية نسبية جديدة في الفن الإماراتي المعاصر؛ فتموجات الأخضر لدى نجاة مكي تزدوج بنوافذ الأبنية والحكايات التراثية الفاعلة، والتي تجدد الحنين إلى ما وراء هذه الفضاءات من أخيلة تشبه حكايات ألف ليلة مثلاً، ونجد انعكاسات اللغة التعبيرية تزدوج بتعددية الأطياف الخيالية العالمية في توجه عبد الرحمن المعيني التجريدي، كما ينفتح التكوين لدى الفنان العالمي حسن شريف على الشكل المخروطي الرمزي مثلاً، والقابل لإعادة التشكل في فضاء المشاهد الواقعي دون أطر؛ وكأنه يدعو المشاهد للمشاركة في اللعبة؛ وهو ما يذكرنا بملمح تداخل الفن والواقع، الذي أشار إليه جياني فاتيمو في كتابه نهاية الحداثة، أو حديث المفكر إيهاب حسن عن استمرارية حدوث العمل الفني في بعض الأعمال الفنية ما بعد الحداثة؛ ولم يكن نتاج حسن شريف تجريبيّاً محضاً أيضاً؛ لأنه ارتبط بواقعه، وتراثه في صفاء الألوان، والهارموني الذي يؤكد الاطمئنان، والبهجة، والاستقرار من داخل أسلوب اللعب، وتنشيط وعي المشاهد في تفاعله المستمر مع التكوين الفني، ومع الفضاء المخصص للعرض أيضاً.

توازن الفنانة المبدعة نجاة مكي بين الطفرات الذاتية الداخلية في سيميوطيقا اللوحة التعبيرية، وتجمع بين الصخب الداخلي للأحمر، وانفتاح الكينونة على التموجات البيضاء التي تعزز من الصفاء الروحي في عمل تعبيري لها قد انقسم إلى جزأين؛ فيحتفي الجزء الأسفل من لوحة نجاة مكي بصخب الأحمر، وكثافته الداخلية التي تشبه الألم الداخلي لتكوين المرأة؛ ثم تضع المتلقي في الجزء الأعلى من اللوحة أمام حالة من الطيران البهيج لتكوين المرأة في فضاء رحيب سماوي يشبه حالة التجدد المستمر لمدلول الهوية في العمل الفني.

لقد ارتكز عمل نجاة مكي –بدرجة رئيسة– على التباين بين إشارتي الصخب الداخلي الذي قد ينطوي على ألم، أو سكون مرتبط بأثر الذاكرة، وفاعليته الخفية، وعلاقته بتراث الحكايات المأساوية المحتملة، وحالة طفرة التحول باتجاه فضاء الكينونة الرحيب الذي يجمع بين الاطمئنان، وإمكانية تجدد الهوية الذاتية عبر وسيط الطائرة التي تذكرنا ببهجة الطفولة فيما وراء التكوين التعبيري.

وفي عمل آخر للفنانة نجد التموجات الخضراء التي توحي بالهارموني التشكيلي الموسيقي للون الذي يشبه تيار المياه الهادئ، وهي تحيط بحجر أو لوح؛ وكأنه يمثل الأصالة، والتاريخ الحضاري البشري، وهو قيد التشكل، والتأثير الجمالي المستمر في تموضعه وسط التموجات الخضراء التي تحتفي بالحضارة في تكوينها الحجري الكثيف.

وفي عمل تعبيري آخر للفنانة نجاة مكي نلاحظ نوعاً من التعددية التشكيلية التعبيرية التي تحتفي بالتكوينات المعمارية القديمة التي تنبع من الحكايات الخيالية، ومجموعة من الشرائط ملتفة في تكوين يشبه الجسد، ثم تنويعة روحية من تشكيل يشبه تراث الأرابيسك؛ وكأن اللوحة تضعنا أيضاً في تعددية حضارية تتجاوز السياق الزمني الواحد، وتجدد من بنية الماضي في اللاشعور الجمعي، ونماذجه الروحية التي تحدث عنها كارل يونج؛ فثمة نوع من الهارموني التشكيلي والموسيقي بين شرائط الجسد الذي يطمح لحالة التعالي الروحي، وأخيلة الفضاء، والمعمار القديم، وحدس الخلود الكامن في تكوين الأرابيسك، ودائرية تشكيلاته الممزوجة بتأثير اللون الأخضر الذي يشير هنا إلى دينامية الزمان والمكان، وإلى الاستقرار الروحي الداخلي ضمن تلك التعددية الجمالية في اللوحة.

أما الفنان عبد الرحمن المعيني فيضعنا أمام حالات من النشوء النسبي المتجدد للتكوينات، والأشكال الهندسية، والعلاقات الصاخبة البهيجة المتداخلة بين الألوان التي تبدو كثيفة في مركز اللوحة، وتميل إلى الانتشار المرح في أطرافها؛ فهو يضع المشاهد أمام أخيلة للتكوين الفني والجمالي، والتجدد في وعي المتلقي؛ فنعاين علامات قيد التشكل تشبه العيون، أو ورق الشجر، أو السلم الذي يؤدي للصعود الروحي الصاخب، وأطياف مثلثات متداخلة تضرب بعمق في الذات، وديناميكيتها الفنية الخفية؛ فضلاً عن كثافة التموجات اللونية المتداخلة في نواة اللوحة؛ وكأن الفنان يدعو المشاهد لرؤية تلك التداخلات الذاتية التعبيرية غير المحددة في وعيه، واللاوعيه، وفي ذاكرته، وعالمه الخاص أيضاً.

وقد يحيلنا الفنان عبد الرحمن المعيني أيضاً إلى لعب الشكل، ومرحه التعبيري الخاص في تكوينات طبيعية، وذاتية لها إيقاع موسيقي داخلي صاخب محتمل داخل المشاهد؛ مثل الوجوه، والطيور، والزهور التي تدخل في لعبة الشكل، واللون التعبيري؛ فهي مثل البازل الذي ينتظر من المشاهد إعادة تكوين الرؤية؛ ومن ثم ينسج عبد الرحمن المعيني ديناميته التعبيرية الخاصة الحية، والمتجددة في وعي المشاهد، واللاوعيه؛ كي يمنح الشكل التعبيري احتفاءً جديداً بحالات التكوين التي تقبل العلاقات البنائية المحتملة، والتحولات الإشارية في المسافة بين كل من وعي المبدع، ووعي القارئ، وفاعلية تراث التعبيرية التجريدية معاً في آن واحد.

وقد نسج الفنان المبدع حسن شريف تكويناً مخروطياً من الشرائط، والمربعات، والدوائر الملونة، ووضعه في الفضاء؛ وكأنه يدعو المشاهد لانفتاح المنظور، وأشكال رؤية العمل؛ ومن ثم يذكرنا باستخدام الفنان العالمي مارسيل دوشامب للمواد الجاهزة، والتجريب في طرائق الرؤية؛ التكوين المخروطي الجاهز المزدحم بالألوان عند حسن شريف، يوحي بصراعات داخلية، وتعددية كثيفة، وآلام، وضحكات، وأصوات مزدحمة في فضاء التاريخ، أو في فضاء الحياة؛ فهو يعيد إحياء كل هذه العوالم في وعي المتلقي، ومنظوره الذي لا يمكن أن يرتكز على نقطة واحدة مركزية للرؤية.
 

ويعيدنا حسن شريف إلى بهجة الطفولة في تكوين جاهز آخر من الكرات الملونة بألوان صاخبة، وكأن التكوين عبارة عن حيوان أليف غير مكتمل، يداعب أخيلة الطفولة في المتلقي، ويوحي أيضاً بثراء هذا العالم، وفاعليته في الذاكرة، وتحفز دائرية الكرات المتلاصقة –في التكوين- المتلقي على اللعب، وإعادة إنتاج الشكل في ذلك الفضاء الرحب الذي نسجه حسن شريف بين الداخل، والخارج، وقابلية المواد الجاهزة المستمرة للتشكل التجريبي في المعرض.

وهكذا يجدد الفن الإماراتي المعاصر ذائقة المتلقي، ويستقي من أشكال الذاتية والتجريب طفرات جديدة تحتفي بالأصالة، والعمق، وتنشيط عمل الإنتاجية الخيالية للمشاهد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها