السينما مـا بعد كورونا

من أجل صورة جديدة للعالم

د. الحسن أسويق

  في الكتاب السابع من الجمهورية يحكي أفلاطون قصة أشخاص مكبلين بالسلاسل داخل كهف مظلم عاشوا فيه دائماً ولا يعرفون شيئاً عمّا يوجد خارجه. لا وجود داخل الكهف لنور طبيعي، ووراءهم توجد نار. للكهف كوّة تطل على الطريق، تمر عليها حيوانات وأشخاص حاملين أمتعتهم.

سجناء الكهف المكبّلين، شاخصين بأبصارهم إلى جدار الكهف، منبهرون بالظلال المنعكسة على جدار الكهف المواجه للكوّة المطلة على الطريق. يتناقشون حولها بزهو وحماس معتدّين بمعرفتهم وحكمتهم ظناً منهم أن هذه الأشباح والظلال هي الحقيقة.

◄  على جدار الكهف الأفلاطوني من الكتاب السابع للجمهورية تمر صور طبيعية، وعلى شاشة الفن السابع، الذي ابتكره أفلاطون قبل أن يظهر في شكله الصناعي الحديث في بدايات القرن العشرين، تمر صور صناعية وجدت بفعل صانع، وتعد امتداداً لأفكار صانع تلك الصور ومخرجها في قالب محدد. ومن ثمة، فهي ليست محايدة أو بريئة؛ إنها الصور التي تصنع تمثّلاتنا؛ والتي تقع في صميم سياق حرب الصور التي تجعل من الصورة تلعب دور الدفاع والهجوم، مصداقاً لقول فيلسوف السينما الفرنسي جيل دولوز:

 L'image c'est ce qui agit sur d'autres images et ce qui réagit à l'action d'autres images

  لقد استطاعت الصناعة السينمائية الغالبة والسائدة، رغم أنف السينما البديلة، أن تصنع مخيالاً جماعياً ونموذجاً يحتذى للسعادة. هذا المخيال الذي صار يؤطر سلوكات الجماهير الغفيرة عبر المعمورة؛ بل ويؤطر سياسات اقتصادية واجتماعية لدول بأكملها؛ وهذا النموذج للسعادة، كما وصفه بوئيثوس، قائم على أركان أربعة: الثروة، والسلطة، والأبهة، والشهرة؛ وهي كلها عناصر زائفة لنموذج مدمر يصنعه ويرعاه المهووسون بالشهرة من المتبجحين والأنذال.

السينما الغالبة، سينما تمجد الأنشطة المُعزيّة والمسلية، الهزلية والتافهة، التي يُبيحها الإنسان لنفسه من أجل الهروب من القنوط والملل، عبر طلب اللهو؛ أي كل الأنشطة التي تجعله يحس بالسعادة ولو على سبيل الوهم، والتي تنجيه من "الالتقاء بنفسه"، أي تنجيه من "البينونة" بالمعنى الذي يرتضيه أبو حيان التوحيدي.

غير أن مفارقة اللهو، يقول بليز باسكال، تكمن في أنه الشيء الوحيد الذي يواسينا في مآسينا؛ لكنه، في نفس الوقت، هو مأساتنا الكبرى، لكونه يمنعنا من التفكير في ذواتنا، ويلقي بنا إلى الضياع دون أن نحس بذلك، كما تكمن في أن الإنسان يأخذ اللهو، بما هو لهو ولعب، مأخذ الجد.

◄  ألم تساهم السينما إذن، والحالة هذه، في إنتاج الأزمة الصحية الفتّاكة التي يعيش العالم على وقعها الآن؟

 يا له من سؤال غريب؟ لكن أليست هذه الجائحة نتاج سلوكات إنسانية؟ ثم ألا تحاكي هذه السلوكات نموذجية البطل السينمائي، حتى وإن كانت في جزء كبير منها، مضرة بالصحة العامة، وتحمل الكثير من معاني الاعتداء على حقوق الطبيعة؟

فعلاً، إن جائحة كورونا هي في جزء منها أزمة صحية - بيئية ناتجة عن سلوكات يؤطرها مثال السعادة الموجهة؛ سلوكات ليست صادرة عن الواجب الأخلاقي المطلق؛ بل سلوكات تتغيى تحقيق أعلى درجات المتعة؛ ولكونها كذلك، فقد أحدثت خللاً فظيعاً في "المركب الرباعي" الوجودي للعالم الأصيل؛ تلك الوحدة الأصيلة للأرض والسماء من جهة، والله والإنسان من جهة أخرى، بحسب التصور الهايدغيري (نسبة إلى مارتن هايدغر).

إن السعي الإنساني الحثيث نحو عالم الرفاهية والبذخ والاستهلاك المفرط تأسياً بصورة البطل السينمائي، جعل من العالم مجرد خزان للطاقة قابل للاستنزاف إلى أقصى الحدود. وقد سبق للفيلسوف الروماني بوئيثوس، السالف الذكر، أن حذر -قبل قرون- من الشطط في استغلال خيرات الطبيعة بقوله: "لا يجب أن تطمع في أن تتكرم عليك الطبيعة بما هو زائد عن اللزوم؛ لأن الطبيعة تكتفي بالحد الأدنى وبالمقدار الأقل، وإذا شئت أن تستزيد وتطالبها بما يفوق طاقتها، فإنك تفرط وتبالغ، هذه نتائج سيئة وفي غاية الضرر".

  صحيح أن الصورة السينمائية المتحركة على الشاشة الكبيرة تمنحنا متعة الفرجة كما منحت الظلال لأهل الكهف على الجدار قدراً منها؛ لكننا، كلنا، لا نعرف أننا ندير ظهرنا للحقيقة. وأن ما يوجد أمامنا ليس سوى إيديولوجيا لها شفراتها اللامرئية التي تحتاج لنظارات خاصة لكشفها؛ تلك هي نظارات جون نادا في فيلم "They Live" أو"Invasion Los Angeles" لجون كاربنتر John Carpenter.

يحكي هذا الفيلم قصة جون نادا.( باللغة الإسبانية كلمة Nada تعني لاشيء). وبالطبع لم يتم اختيار اسم الشخصية بشكل عشوائي، خاصة إذا علمنا أن جون نادا ليس إلا ذلك المتشرد، العاطل عن العمل، يذرع شوارع لوس أنجلوس جيئة وذهاباً بحثاً عن وظيفة. في أحد الأيام دخل خربة مهجورة ووجد صندوقاً غريباً مليئاً بالنظارات الشمسية.
عندما يرتدي جون نادا تلك النظارات، يكتشف شيئاً غريباً: يكتشف أن النظارات عبارة عن مصفاة كاشفة للصور الزائفة؛ إذ تمكن من رؤية الرسالة الحقيقية الموجودة وراء الإعلانات الإشهارية؛ نظارات تكشف اللامرئي؛ نظارات تفضح السلطة الغاشمة التي تعشعش في قلب الديمقراطية والتي تدعم المظاهر الزائفة والخداعة التي نعيش بها وفيها؛ إنها تكشف الإيديولوجيا؛ أي ذلك السياج السميك من الصور الموّجّهة للتحكم في مخيال الجماهير، والتي جعلتنا جميعاً أسرى وضحايا اقتصاد الفضلات والمرميات، نغرف من نفس حاوية الأزبال الإيديولوجية.
 


سلافوي جيجيك Slavoj Žižek
 

◄  وإذا كان هذا شأن النظارات في العالم الافتراضي؛ عالم الخيال العلمي التي تنتمي إليه فيلموغرافيا كاربنتر؛ فإنها في العالم الواقعي الفعلي هي غشاوة نحملها على أعيننا منذ الولادة؛ إنها الايديولوجيا التي أصبحت، كما عبر عن ذلك الفيلسوف السلوفاني سلافوي جيجيك Slavoj Žižek، عبارة عن نظارات نحملها منذ ولادتنا ولا نرى الأشياء على حقيقتها إلا إذا تخلصنا منها. إنها الإيديولوجيا الرأسمالية؛ أي مجموع التمثلات التي تشكل وسطنا المعيشي وتجعلنا راضين عنه، كما أنها مجموع الصور التي تجعلنا عبيداً ليس لرغباتنا فحسب، بل لأحلامنا أيضاً، "والمأساة الكبرى، يقول جيجيك، هو أننا مخطئون عندما نعتقد أننا نتحرر من هذا عن طريق أحلامنا؛ لأن هذه الأحلام نفسها لا تنفلت من عقال الإيدولوجيا والسياج السميك من الصور المبرمجة.
إننا كلنا، ضحايا الظلال المنعكسة على الجدار التي تمنعنا من الالتفات نحو الحقيقة؛ أهل الكهف لأنهم مقيدون بالسلاسل، ونحن لأننا مقيدون بالإيدولوجيا، علماً أن الإيدولوجيا في عالمنا الراهن هو نفسه العالم السفلي في أسطورة الكهف.

  بقي أهل الكهف على حالهم إلى أن استطاع أحدهم أن يفك أغلاله وينطلق إلى الهواء خارج الكهف؛ سيذهل ممّا يرى، وسيشاهد الناس الحقيقيّين والموجودات الحقيقية، وستعتاد عيناه على رؤية الضياء كما اعتادت من قبل على رؤية صور الأشباح والظلال، وسيعود إلى أصحاب الكهف المخطئين يريد مساعدتهم؛ لكن هؤلاء لن يبالوا به ولا يعيرون لمسعاه اهتماما، وأمام إصراره سيقررون قتله.
وليتجنب نفس المصير، يقرر جون نادا المواجهة العنيفة، لإيمانه بأن إنتاج صور جديدة غير زائفة حول العالم حتى نعيد له بهاءه ورونقه وسحره الذي انتزع منه انتزاعاً Désenchantement، لا بد من قرار أليم.

 كم يلزمنا من الألم حتى نتعافى... نتعافى من الوباء.


▲ هذا المقال في الأصل نص لـ"درس السينما" الذي شاركت به في الدورة التاسعة من "المهرجان الدولي لسينما الذاكرة المشتركة، الذي ينظمه "مركز الذاكرة المشتركة للديموقراطية والسلم" سنوياً بمدينة الناظور. وقد انعقدت هذه الدورة تحت شعار: "المغرب وأمريكا اللاتينية: السينما والذاكرة المشتركة زمن كورونا" في الفترة المتراوحة بين 30 نوفمبر و6 ديسمبر 2020 برحاب الكلية متعددة التخصصات، التابعة لجامعة محمد الأول بوجدة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها