التفاهة "على محمل الجِدّ"

مقاربة نقدية في رواية الكاتب ميلان كونديرا "حفلة التفاهة"

د. عبده منصور المحمودي



في الحادي عشر من يوليو/تموز 2023، تُوفِي الكاتب والروائي الفرنسي ذو الأصول التشيكية ميلان كونديرا Milan Kundera، صاحب الرؤى السردية المغايرة، التي تُعدّ واحدةً من أهم سمات مشروعه الكتابي، على امتداد تجربته السردية، التي أسدل الستار عليها بروايته الأخيرة "حفلة التفاهة".
 

ترجم هذه الرواية إلى العربية معن عاقل، وصدرت عن المركز الثقافي العربي، في الدار البيضاء، 2014م، وعليها استقر اختيار هذه المقاربة النقدية، ليس لأنها آخر أعمال الكاتب الروائية فحسب؛ وإنما لاستيعابها تجليات أسلوبه الخاص، بشكل أكثر تركيزًا وكثافة، وهو ما جعلها أكثر أعماله استدراجًا للرغبة الكتابية، الهادفة إلى استكناه أبرز خصائص فلسفته السردية.



المعمار السردي

بنى الكاتب معماره السردي -في هذا العمل- على أنساقٍ سرديةٍ، تواردت فيها صورٌ محدودةٌ من حياةِ عددٍ من الشخصيات، أهمها شخصيات: (رامون، دارديلو، شارل، كاليبان، وآلان). كما تخلّق من سياقاتِ الأحداث استلهامٌ لشخصية الزعيم الشيوعي (ستالين)، وعدد من أفراد بطانته وأركان حكمه.

وقد قامت سردية العمل، على الاهتمام الملحوظ بفكرته الرئيسة (مركزية التفاهة في الوجود)؛ إذ تبلورت هذه الفكرةُ، من خلال سلسلةٍ من الأحداث، المتنامية بتداعي الشخصيات نحو إنجاز أبعادها، في حيِّزٍ مكانيٍّ خاص (حديقة لوكسمبورغ)، ضمن الحيز المكاني العام (مدينة باريس).

توَزّعت أحداث الرواية ومضامينها، على سبعة أجزاء، استهلّ الجزء الأول "الأبطال يتعارفون" تشكيلَ المعمارِ الروائي بإضاءتهِ لسياقات العلاقة بين الشخصيات. كما روى الجزء الثاني "مسرح العرائس"، حكايةً نسبها سياقُه إلى فترة حكم (ستالين)، تضمّنت قصة الطيور الأربعة والعشرين، التي فوجئ بها -هذا القائد- وهو في واحدةٍ من رحلات صيده، لم يكن حينها في حوزته سوى اثنتي عشرة رصاصة، اصطاد بها من الطيور ما يساوي عددها، ثم استكمل اصطيادها، بعد أن عاد متزوّدًا بالذخيرة الكافية. وقد استلهمت الشخصية (شارل) هذه القصة، فكانت تأسيسًا لحلمها في كتابة مسرحية، صاغتها -فيما بعد- مستأنسةً بشخصياتها التاريخية.

وتضمّن الجزء الثالث "آلان وشارل يفكران بأمهاتهما دومًا"، حِكَايَتَي (آلان/ وشارل) المتعلقتين بإسراف كل واحدٍ منهما في التفكير بأمه. وعرّج الجزء الرابع "الجميع يبحثون عن روح الدعابة"، على الدعابة، وتحولاتها في ذهنية المتلقي، وما يتعلق بها من مؤشرات ذبول. وفي الجزء الخامس "ريشة تحلق تحت السقف"، وردت المشاهد الأولى من مسرحية (شارل)، اسْتُحْضرت فيها شخصية (ستالين)، وشخصيات بعض معاونيه. ثم توالت مشاهد أخرى في الجزء السادس "سقوط الملائكة"، وفيه أحالت رمزية الملائكة، على تحولاتٍ جوهريةٍ، في مجالات الحياة، سيما ما يتعلق منها، بأبطال المسرحية التاريخيين والشخصيات الرئيسة في جمهورها.

أمّا الجزء السابع وهو الأخير "حفلة التفاهة" ـــ الذي من عنوانه استمدّ العمل عتبته النصية الخارجية ـــ فقد تضمّن ذروة النضج، في هذه الفكرة المتعاطية مع (التفاهة)، بوصفها مكوّنًا حيويًّا في الحياة؛ إذ كانت مضامين هذا الجزء تجسيدًا مُرَكَّزًا لرؤية الكاتب في التفاهة، وتكثيفًا ارتقى بالعمل إلى أن يكون تتويجًا لفلسفة الكاتب، التي قامت على التماس أدبية العبث وحيويته الفنية والموضوعية، في الكتابة السردية.

ومن جهةٍ أخرى، مثّلَ هذا الجزء استدارةً فنية، ربطت ما بين نهاية العمل وبين بدايته (بين الجزء الأخير وبين الجزء الأول)، من خلال استثمار تقنية الاسترجاع الداخلي، الذي استعاد حيوية الحيز الأول (الحديقة)، بتفاصيلها التاريخية والأثرية، الواقعية منها، والمتَخَلِّقة في فضاء الخيال السردي.

"مَحْمَل الجِد" وسياقات الوهم

إلى "محمل الجد"، أعاد الكاتب فشلَ التعاطي الإنساني مع مجريات الحياة، مُلقيًا تعليلَه هذا على لسان (رامون)، في سياق حديث هذه الشخصية إلى (كاليبان): "أدركنا أنه منذ زمن طويل إنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام، لم يكن هناك سوى مقاومة واحدة ممكنة، ألّا نأخذه على محمل الجد" [ص: 75].

يحيل هذا التعليل على وصول الكاتب ـــ من خلال تجاربه في الحياة والفكر والفن ـــ إلى هذه الفلسفة، التي يكون فيها استيعاب الحياة متَّسقًا مع جوهرها وخصائصها العصيّة على التجيير، غير المستجيبة لمحاولات التقنين الهادف إلى فرضية ارتقاء الإنسانية. وعلى ذلك، فلم يصل الكاتب إلى هذه الفلسفة في وقت مبكر، ففاته أن يتّخذ سبيلًا مناسبًا للتعاطي مع ماهية الحياة، بعد أن تعاطى مع تدفقاتها "على محمل الجد".

وتُشخّص الأنساقُ السردية العاملَ الفاعل في تحفيز الذات الإنسانية، على أن تأخذ مجريات الحياة هذا المأخذ الجاد، مختزلِةً ذلك العامل في (الحلم) كخاصيةٍ بشرية، مجبولةٍ على هذا النوع من التعاطي، الذي لا تصل الذات الإنسانية من خلاله ـــ بعد أن تستنفد إمكاناتها وحيويّتها ـــ إلّا إلى مستوىً من الهُلامية التكوينية، لاحتمالية أن يكون الآتي صورًا من الحياة الزاهية، على اختلاف توصيفات الزهو وتفسيراته، وهي ـــ في كل الأحوال ـــ احتماليةٌ مفرَغةٌ، من لذة الحلم الفاتنة.

وأسقط العمل هذا التشخيص على حال شخصية (ستالين)، الحالم بالزهو المستقبلي الإنساني، المتوائم مع رؤيته الخاصة للإنسانية، مؤثِّثًا سياقات حلمه باشتغالاته على معطيات الحاضر (حاضر استالين نفسه)، مستثمرًا في ذلك حيويته وإرادته. وبعد أن يصل إلى ما كان حلمًا، لا يجد في الحقيقة سوى رتابةٍ غير متّسِقةٍ مع تجليات الحلم البرّاق. وبهذه الرتابة عزز النسق السردي ـــ بطريقة غير مباشرة ـــ فكرة العمل المؤكِّدة أن "محمل الجد"، تعاطٍ غير موفقٍ مع مسارات الحياة.

كذلك، قدّم العمل (الحلم) ــــ بعد التحام الأحلام بالحقيقة ــــ في صورة مفرغةٍ من لذة الإنجاز؛ إذ لم يكن الحلم فيه سوى سياقٍ وهميٍّ، كانت (الفردية) أبرز أشكاله، فهي سرعان ما تتلاشى باستقصاء التشابه المطّرد في الجوهر، استقصاءً تذوب فيه أعراض التفرد الوهمي. وفي سياق ذلك، تلتقط الذهنية السردية غيابَ سمة الفردية في العضو البشري "السُّرة"، ذي الإيحاءات الأيروتيكية، التي لم تحجب الغاية الرمزية في الإحالة على ما في هذا العضو من تجانس الأجيال البشرية الممتد فيها، حتى بدايتها الأولى المُتَمَثِّلة في الأم (حواء)، فهي وحدها من تقتصر عليها سمة (الفردية)؛ لاختلافها عن البشر كلهم، وعدم تشابهها معهم في هذا العضو الجسدي، الذي يؤكد غيابُه فيها مصدريتها للتناسل البشري، كما تؤكد ملازمته لكافة الناس وَهْمَ الفرديةِ، واطِّرادَ تشابههم العائد بهم إلى مصدريتهم الأولى، في حلقاتٍ متعاقبةٍ من عملية التناسل المتقادمة.

الرؤية السردية والتحوّل المباغت

تنتصر الرؤية السردية ـــ في هذا العمل ـــ لأخذ مجريات الحياة (على محمل التفاهة)، لا "على محمل الجد"، مستندة في ذلك، على ما في (التفاهة) من ديمومةٍ في صيرورة الحياة، وحتمية في تفاصيلها وجوانبها المختلفة؛ فالتفاهة "جوهر الوجود، إنها معنا على الدوام وفي كل مكان، إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه، في الفظائع، في المعارك الدامية، في أسوأ المصائب، وهذا غالبًا ما يتطلب شجاعة للتعرف عليها في ظروف دراماتيكية، ولتسميتها باسمها، لكن ليس المقصود التعرف عليها فقط، إنما يجب أن نحبها، التفاهة، يجب أن نتعلمها"، [ص: 108].

لم يقتصر انتصار الرؤية السردية للتفاهة ـــ بوصفها عنصرًا بالغ الفاعلية الوجودية ـــ على تعزيز وعيها وتأكيد حتميتها، وإنما انطلقت بها إلى مصافِّ تلك المعطيات، التي تتضافرُ في استيعابها العاطفةُ والمساراتُ الذهنية والسلوكياتُ العملية: بدءًا بالاعتراف بها، ثم التماهي الوجداني في حبّها غير المشروط وغير المهدَّد بعوامل التلاشي، وصولًا إلى إعمال القدرات العقلية فيها، وصياغة سُبُلِ اكتسابها، واجتراح منهجية العمل على تعليمها واستيعابها وتمثّلها. وهنا ارتقى تسريد الفكرة الروائية بـ(التفاهة)، من فضائها المأهول بمعاني اللامبالاة والعبث، إلى فضاء مختلفٍ، يقوم على نوعٍ من النُّظُمِ المتناغمة في أدواتها، بما يفضي إلى نجاحِ تعليمِ ما يُراد تعليمه، وبذلك فقد وصلت الرؤية السردية بـ(التفاهة)، إلى اندماجها في سياق المتغيرات التي تؤخذ "على محمل الجد". وهو ما يوحي به نسق هذا الاشتغال السردي على التفاهة (اعترافًا/ ثم حبًّا/ ثم تعليمًا). وفي خضم ذلك تظهر إشكالية النسق، كامنةً في مواربةٍ لا يمكن من خلالها الاستئناس به، ولا الاستناد إليه في تأويل نوعٍ من القصدية الإيحائية. وعلى ذلك، فإن ما تُمْكِنُ بلورته من هذا التحول غير القصدي والمباغت ـــ أو قل الذي رشح من بنية اللاوعي ـــ أنه تجلٍّ لهيمنة النسق الذهني "محمل الجد"، على ديناميكية التفكير والكتابة، وبذلك؛ فهو تجلٍّ بالغُ المخاتلةِ في مشاكسته للرؤى السردية ـــ وغير السردية ـــ التي تُعْلِي من سياقات العبث واللامبالاة، بوصفها بدائلَ تعاطٍ ناجعةً مع الحياة وتقلباتها ومستجداتها، بما في ذلك تشابكات أنساقها، على اختلاف تحولاتها العَرَضية والجوهرية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها