بتلك السّهرة الميمونة، حيث القمر كان رفيق السّامرين ونديمهم، روى الشاب "شادي"، لعدد من أصدقاء الشلّة، ما جرى معه منذ أيام، قال:
• يومها كنت داخل المحلّ، الذي أبيع فيه حقائب نسائيّة، كما تعرفون، وقد أخذني التفكير إلى مطارح شتّى، وبينما أنا بذروة التّفكير والتّماهي، دخلت عليّ امرأة أربعينيّة، كانت بكامل أناقتها واحتشامها، طلبت منّي أنْ أعرض أمامها آخر تشكيلة من الحقائب الجديدة، ولمّا اختارت واحدة منها، قالت بالفم الملآن، وبلغةٍ فيها عذوبة الأنوثة كلّها:
"أعجبتني هذه الحقيبة المُزَرْكَشة، سأشتريها الآن لكن على شَرْط: سأعرضها على زوجي، إنْ أعجبَتْه، استبقيْتُها عندي، وإنْ لم تعجبه، أردّها إليك غداً، وآخذ المبلغ الذي دفعته، اتّفقْنا"!
وافقتُ أنا على هذا الشّرط، قلت لها بلطفٍ مماثلٍ:
"لكِ ما شئتِ سيّدتي، لكن أرجو عدم استخدام الحقيبة، بمعنى أنْ تعيديها إليّ بحالتها الرّاهنة".
وافقت المرأة على شَرْطي هذا، تركَت المحلّ بعدما دفعت الثمن، بقيتُ لحظتها أفكّر في فحوى هذا الشّرط الذي اشترطته المرأة عليّ، قبل شرائها الحقيبة المُزَرْكَشَة..
صباح اليوم التالي، ما لَكُم عَلَيَّ يمين، جاءتني المرأة، قائلة بأدبٍ جمٍ:
"اعذرني يا أخي، لم يتطابق ذوق زوجي مع ذوقي، بمعنى أنني سأعيد الحقيبة حسب الشّرْط والاتفاق، مع كامل الأسف والاعتذار".
قالت كلماتها، والخجل البادِي كان نهرَ عسلٍ ينثال من فمها الكرزيّ الجميل..
قلت لها:
• بسيطة، تكرمي، ما في مُشْكِل، الأهمّ أنّك لم تستخدمِيها..
قالت بثقة وأدب تامّين:
• صدّقني لم أستخدمها، ذهبت بها من المحلّ إلى البيت، ومن البيت إلى المحلّ.
وأردف لأصحابه:
• يا شباب رَدَدْتُ المبلغ لهذه المرأة، ذهبَتْ في حال سبيلها، والاحمرار يكلّل وجهها من أقصاه لأدناه من الخجل…
بعد ذهابها بربع ساعة أو أكثر، خطر لي أنْ أتفحّص الحقيبة، وأنْ أحشوَها بالأوراق، كما هي العادة، لتبقى في حالةٍ من الزّهو والانتفاخ وسلامة البدن، ولمّا تحسَّسَتْ يدي السحّابَ الكبير، وجدْتُ المكان منتفخاً قليلاً، لمّا فتحتُه، عثرت في جيبه – ويا للغرابة والمباغتة – على سِوارٍ ذهبيٍّ، يطلق عليه بائعو الذّهب "المَبْرُوَمَة"، وهي غالية الثمن، لأنّ وزنها مِحْرز.
في الحال.. تحرّكتُ نحو الباب الخارجي، شعرت بقشعريرة غريبة، وحيرة مُضاعَفَة، قلت لنفسي: "يا ربّ، عسى أن تعود هذه المرأة إلى المحلّ، لأعطيَها مبرُومتها الذهبيّة، وأرتاح ضميريّاً من هذه الأمانة التي كصخرة على كاهلي، وبقيتُ أخرج إلى الباب الرّئيس للمحلّ، أستجلي وجوه المارّة، علّي أصادفها بينهم، لكن أضغاث أحلام.. هاتفها ليس معي، لا أعرف منزلها، وهي قد جاءتني هذه المرّة اليتيمة، فمن أين لي معرفة مقرّ سكنها، أو رقم جوّالها، أو معرفة اسمها على الأقلّ، لكنّ شيئاً من هذا لم يتوفّر..
أخذ "شادي" نَفَسَاً طويلاً، أردف لزملائه، الذّين بدَوا كأنّهم يقولون له بصوتٍ جماعيٍّ متّحد:
"وماذا بعد؟ والنّتيجة؟ نرجوك وصِّلنا للمفيد، لقد طالت سِيرة المرأة وروايتها".
يا شباب مضى على هذا الأمر ثلاثة أيام ظننتُها دهراً، وكنت قد خبّأت المَبْرُوَمَة الذهبيّة في مكان آمن، وحصنٍ حصين..
في اليوم الرابع، وبينما كنت قريباً من باب المحلّ، أمسح الغبار عن البضاعة، لمحتُ المرأة ذاتها، تعبر الواجهة، على عَجَلٍ وبصوتٍ مسموع ناديتها:
"سيّدتي سيّدتي، تفضّلي إلى المحلّ، لكِ عندي مفاجأة"..
في البداية تمنّعت كثيراً من الدّخول، ربّما خافت، لكنّني أصررت على دخولها، ووعدتها ثانية وثالثة بالمفاجأة السارّة، وقتها دخلَتْ على حذر وترقّب وحيطة، بدت بحذرها كعصفور الدُّورِي، حين يرى شخصاً قادماً من بعيد.. بادرتها القول:
"الحقيبة التي رددتِها لي منذ ثلاثة أيام، أتذكرين شكلها، ولونها، والموديل؟
"نعم أعرف تفاصيلها، أعجبتني يومها جدّاً، لكن لم تُعجِب زوجي يا للأسف، فأعدْتها إليك، ورددتَ ليَ المبلغ، وانتهى الأمر، فماذا تريد منّي الآن، أرجوك"؟
"بصراحة، وللأمانة قد عثرتُ في الحقيبة، وأنا أحشُوها بالأوراق، كما هي العادة، على قطعة ذهبيّة، عبارة عنْ "مَبْرُوَمة" من الذّهب، وهي حقّ لك، بالتأكيد وزنها يقارب العشرين أو الأربعين غراماً، وربّما أكثر، وهي قطعة بالتأكيد غالية عليك".
• في تلك اللحظة، يا جماعة، ترنّحت المسكينة، طالبتها أن تهدّئ روعَها، رأيتُ بعض الدّمع ينثالُ فجأة من عيني المرأة المُحتشِمة، الذي خرّب لها الكحلَ الأسود، فانداح قسم منه على خدّيها المُورَّدَين، لكنها استعانت بمنديل لمسح ذلك التّخريب البادِي، الذي غزا وجهها النورانيّ المشعّ.. حين ناولتها المَصَاغ الذهبيّ، صدقاً يا إخوان، لم تكن تصدّق ما يجري، اندفعَتْ من غير وعيٍ لتقبّلني على خدّي، على يديّ، على جبيني، وهي تقول بعدما أعطيتها "المَبْرُوْمَة" الذهبيّة، وصارت طيّ يدها:
"والله يا أخي، وقسماً عَظَماً، هدّدني زوجي بالطلاق، إنْ لم أجد هذه المَبرُوْمَة خلال أسبوع، واتّهمني ببيعها من دون عِلمه أو موافقته، ويومها نامت أخته العانس "جليلة" عندنا، وَسوسَ لي الشيطانُ الخنّاسُ، فاتّهمْتُها بسرقة القطعة الذهبيّة، ولم أفطن إلى أنّني خبّأتها ليلتها داخل السحّاب الكبير للحقيبة، التي اشتريتها من عندك، والتي تُعيدها إليَّ الآن، بورِكت يا أخي على حسن أمانتك، وبياض تربيتك"..
• والله يا جماعة، لحظتها فتحَت المرأة حقيبتها النسائيّة، أخرجت مبلغاً معقولاً من المال، وهي تقول بأريحيّة ومودّة وفرح طاغٍ:
"خمسة وعشرون ألف ليرة، طالعة من خاطري، أرجوك لا تخجّلني، هي لك حلال زَلال، كما يقولون، لقاء أمانتك، وحسن تربيتك، وسلاح إيمانك".
قلت لها بإصرارٍ، وردّة فعل جاءت في مكانها الصحيح:
"يا خالة، (ناموس وفلوس) ما بيلتقو، الأمانة صعبة يا خالتي، ولو كان بنيّتي أخذ المَبْرُوَمَة، والاستيلاء عليها زوراً وبهتاناً، لأخذتُها وسكتّ، ولَمَا ناديتكِ وأنت تعبرين الرّصيف أمام بوّابة المحلّ، ووالله لو كنتُ أعرفُ بيتك، لذهبت إليك لأعطيك هذه الأمانة، أو لو كان رقم هاتفك/ جوّالك عندي لاتصلت بك في الحال، أو لو كان اسمك مقيّداً في دفتري، لسألتُ عنك النّساء اللواتي يتردّدن على المحل".
• يا جماعة، وقتئذٍ شعرت أنّ أمواج الفرح الأزرق تتناسلُ من عينيّ هذه المرأة الأربعينية، وهي تتسلّم من يدي القطعة الذهبيّة، التي كانت عندي في المحلّ أثقل من جبل قاسيون الأشمّ! يومها نمت على سريري قرير العين، نوماً هانئاً، لم أعشْ لحظاته الرّغيدة في حياتي كلّها.
انطلقت المرأة، والفرح طائرُ سعدٍ يماشي خطواتها، لتبلّغ زوجها بما جرى، عندها – بكلّ توكيد – اعتذرت من أخت زوجها على هذا التجنّي الظالم، كما اعتذرت من زوجها، على ما بدرَ منها من اتّهام باطل بحقّ "جليلة" أخته المحترمة، ويومها بكلّ تأكيد اعتذر الزوج عمّا بدرَ منه تجاه زوجته الأمينة، بهذا وسواه عادت المياه لمجاريها، وكأنّ ما جرى على أرض الواقع، كان مناماً، وقد انتهى الآن.