مريوم "مغامرة سردية شديدة البلاغة"

عفت بركات



لم تكن تجربتي الأولي في قراءة الأعمال الروائية للدكتور عمر عبد العزيز، لكنها أكسبتني متعة أكبر قياساً بما حصدته من تجربتي السابقة في قراءة نصوصه. قليلة تلك الأعمال الروائية التي تقودك إلى السير حتى النهاية، وهذا ما صنعته "مريوم". الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة في تسعين صفحة من القطع المتوسط. المكان في الرواية يعتبر مسرحاً للأحداث والحيز الذي يتحرك ويعيش فيه شخوص الرواية.
 

من هنا تنشأ العلاقة المتبادلة بين المكان والشخوص فتُمنح الرواية خصوصيتها، فكل نص سردي ناجح له دلالاته المكانية وهي أول ما يشد القارئ للرواية. لذا هو العنصر الرئيس لأي عمل سردي، وهو الهيكل الذي يحكم عملية السرد وتتم استنادًا عليه ألية البناء، خاصة، وإن كان العمل الروائي سيرة مكانية في المقام الأول. والتنقيب في الذاكرة العربية مجالا، لا ينضب ونبعاً لا يجف، ومريوم تفتش في ذاكرة المكان، وتعج بفكرٍ فلسفي وثراءٍ ثقافي في قالبٍ أدبي شفيف. مريوم سردية ماكرة لديها القدرة على اجتذاب مشاعرك لتنساق وراء عالمها كرمال بحر ناعمة تقودك برقة إلى الداخل دون مقاومة منك. لذا انجذبت وراء فعل الحكي الرشيق.

وهي ثيمة مكانية اهتم فيها السارد بوصف التفاصيل الدقيقة في محيط دورانها، تنهداتها، وإيماءاتها، وردود أفعالها بين المحيطين. السارد يعشق التفاصيل والمنمنمات الحية كما تعشق ريشته الألوان. في مجمل أعماله يتماهى مع التفاصيل الصغيرة ويمتزج بها. فنجده مشغولا بوصف المكان بملامحه النقية الطبيعية البكر باستفاضة، الجدران، الأحجار، الطيور، ملامح الناس، القوارب، وصدأ الأشياء والأرواح.

ورغم بساطة نسيجه للشخصيات إلا أنها تدخلك في طلاسم كونية وفلسفية ليست بالهينة، وقد تستعصي على الفهم أحياناً فتضطر لإعادة القراءة من باب الاستمتاع والارتواء أيضاً. تتشابك البلاغة بالثقافة العميقة التي يتمتع بها الدكتور عمر، فتتجلى للقارئ تشبع نهمه المعرفي والأدبي أثناء القراءة.

فمريوم تلك الفتاة الشابة اليانعة كبجعة سوداء ناصعة السواد والجمال، ممشوقة رشيقة مترعة بالشبق، لا تستطيع أن تمسكها بيديك حين القراءة زئبقية تلهث وراءها على الورق، تراها ولا تستطع الإمساك بها. وهي الزهرة الياقوتية اللون في مشتل للزهور الباتولينا البيضاء التي تمادي السارد في وصفها. هي المجذوبة كما يصفها الناس. والطيبة في علاقتها بقطتها إذ صارت بها علامة للشارع. دفعه لرسم مشهد وداع مريوم لقطتها ومراسيم دفنها، مع أطفال الحارة في رقة متناهية. وهي العاشقة في مناجاتها للحبيب، والهاربة من قسوة من لا يفهم كنهها وهي البلاد والتاريخ في مواجهة أطماعٍ لا تنتهي.

في الحقيقة إن هذا التميز اللفظي واللغوي، لا يمكن فصله عن ماهية العمل السردي، الذي يقدمه د. عمر هو أحد الأعمدة الأساسية لتجربته الكتابية، لذا يمكننا القول: إن مجمل هذه الفرادة في استخدام المفردات والاشتقاقات والصور التعبيرية الخاصة، تأتي من ضمن العوامل التي تجعل نصوصه نصوصاً استفزازية، باستخدامها المكثف للاسترجاعات، والتداخلات المعرفية بمختلف أجناسها، ومستويات تعقيداتها، وحداثتها الفلسفية أو العلمية. والمتتبع لهذه الظاهرة، يستطيع أن يدرك أن الكاتب لا يتردد في استخدامها في أول فرصة متاحة، أو أول إشارة سانحة، ليخلق لنا فضاءً موازيًا مشبعًا بكل ما يرغب في أن يطرحه على القارئ من معارف علمية أو جدالات فلسفيةٍ أو أبيات شعرية، أو استدراكات تاريخية، قادر على ترويض اللغة وتراكيبها يستطيع أن يرسم لوحته بمفردات اللغة، كما اعتاد الرسم وهو عاشق الألوان. الاسترجاعات هنا تاريخية بحتة تفتش فيما حدث لمريوم/ المكان والأم والدولة التي استهلكتها الحروب كما استهلكت مريوم تدخلات الناس وتقييدها.

مَنْ لا يُحبُّ مريم؟

كثيرة تلك المشاهد التي أتقن رسمها بلغته داخل الرواية علاقة مريوم بقطتها منذ استطاعت اصطيادها من الحارة ومشهد فراق القطة ومراسم دفنها، الأقمشة البيضاء والأبخرة والأطفال الذين انتظموا وراءها واعتمروا الكوفيات، وعليها العُقُّل المُقصَّبة بألوان الذهب والفضة. وعلاقة مريوم بالبحر والميناء الزاخر بقوارب الصيادين الخشبية... تلك العلاقة الملهمة التي تدخل القارئ في حيرة حتى نهاية الرواية. مريوم الباسقة القوية المقيمة في زمن البياض، الأنثى بملامحها الخلاسية كثيرة الملابس البيضاء تعشق البساطة وتتصرف على سجيتها بكامل حريتها.

رغم كل تلك المشاعر المتباينة الفياضة في الرواية رمزية المتن. فمريوم هي تلك الأرض البكر التي كُتب عليها كل المفارقات السياسية التي ضمتها الرواية. التوازي بين مفهوم الظلم والتدخلات في حياة مريوم، والعدوانية في العلاج، هي عمليات السلب والنهب التي تكاثرت على اليمن، تلك الحسناء التي أبهرت العالم القديم بقدرتها على بناء القصور في قمم الجبال وزراعة المدرجات، وأقامت أول سد في التاريخ الإنساني، وذكرت في الكتب المقدسة كالتوراة، وفي الكتب الإغريقية والرومانية القديمة، ووصفتها باليمن السعيد لكثرة مياهها، وخضرتها، وخصوبة أراضيها. ونسب لنبينا ورسولنا محمد صل الله عليه وسلم قوله: أهل اليمن هم مني، وأنا من أهل اليمن، في إشارة إلى ما أثبته المؤرخون؛ أن عدنان جاء إلى مكة من اليمن من أصل عربي، وهو من العرب العاربة، وليست المستعربة، ومن نسله نبي الله إبراهيم، عليه السلام، ثم إسماعيل وقبيلة قريش، فهم عرب أقحاح، وقد هاجرت قبيلة جرهم قديماً واستوطنت بقاع مكة. وفي السياق السياسي الحداثي؛ فإن اليمن كان من أوائل الشعوب التي تفصل الدين عن السلطة.

غوص في وجع الأرض!

يصطحبنا السارد إلى 1915 في مشهد يربط بين مرض الجدري الذي أصاب مريوم، والحمي التي ألمت بها وأشعلتها فدفعتها إلى ملح البحر لتتخلص من المرض أو تموت، وبين الحرب التي نشأت حين وقع الأدارسة في جازان على معاهدة مع الإنجليز لقتال الأتراك في مقابل الاستقلال، فور انتهاء الحرب العالمية الأولى، وما تلا ذلك من سيطرة الإنجليز على الساحل التهامي عام 1920، وحقبة الثلاثينيات وما تضمنته من جنون في الحرب السعودية اليمينة، ثم حركة تمرد تنظيم القاعدة حين يشير إلى الصراع العسكري بين الحكومة اليمنية التي تدعمها الولايات المتحدة، وبين تنظيم القاعدة والجماعات التابعة لها في اليمن كجزء من الحرب العالمية على الارهاب، والتي بدأ في 2001 وتصاعدت في يناير 2010م.

مريوم التي تنجذب لقاعدة داروين، وتنجذب لزمن النانو تكنولوجي قانعة أنها تمتلك طاقة التحول الخلاقة، لتتحول إلى مرام فتاة في العقد الثالث ليهيم بها المؤلف الافتراضي، الذي يصفه السارد بالحلاجي مستشهداً ببعض أبيات الحلاج شاعر الصوفية؛ فيقول هامسًا لنفسه للتعبير عن تقديره لذاته كي يتخلى عن انسياقه وراء معشوقته مرام التي لا تبالي بعشقه:
عليك يا نفسُ بالتّسلّي .. العِزُّ في الزُّهدِ والتّخلي

وفي موضع آخر للتعبير عن عشقه يقول:
والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت .. إلا وحبّك مقرون بأنفاسي

فليست مصادفة أن يتغني السارد بأبيات الحلاج أهم أعلام الصوفية في عالمنا العربي منذ الدولة العباسية، فيتجلى عشق السارد الصوفي لمرام في سرديته؛ لتقرر مرام الفرار نحو البحر والهروب من هذا الحبيب الذي لا يتوقف عن المناجاة والبوح بعشقها.

استطاع السارد تضفير قصائد الحلاج في نسيج منظوم يشبه غزل شباك الصيد الناعمة التي لا يشوبها نتوء.. ولم لا والسارد هو نفسه ابن البحر والموانئ.. ليست اللغة هي العنصر الوحيد الذي تتميز بها أعمال الدكتور عمر عبد العزيز؛ لكونها شديدة الخصوصية في زخمها بالتراكيب البلاغية ومفرداتها النابعة من صدق مشاعره، وتشبعه بالمروية السردية في كل مرة يصحبنا معه. بل هي لغة خاصة به وحده، وقاموس يستقيه من عالمه الممزوج بالسحر والبحر في رواياته. التي تتشابك أحياناً بشخصيات تحس حين القراءة بأنك تعرفها جيداً، مفرداتٌ هي ميراثه في حارة البحر والنوارس.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها