بلادُ الصِّيْنُ بعيون الرحَّالة العرب

عبد الرحمن مظهر الهلوش


إنَّ من يقلَب صفحات الماضي ويتقفَّى أمليات التاريخ وكتبه، سيقف بالضرورة على لحظات مشرقةٍ نابضةٍ تزدان بصورٍ بديعة تشرح تاريخ الحضارتين العربية والصينية، وتقف على عادات هذين الشعبين العريقين وتقاليدهما وعلاقاتهما المشتركة.
 

يتتبع الباحثان عبد الله شمت المجيدل الأستاذ في جامعة دمشق، والأستاذ الدكتور سعيد جمال الدين ما ينغ جغ رئيس قسم اللغة العربية في جامعة صون بات صن (الصينية). بواكير المجتمع الصينيِّ ونشأة الدولة، في كتاب (العَرَبُ والصِّيْنُ قِصَّةُ حَضَارَتِيْنِ)، الصادر حديثاً عن بيت الحكمة في بغداد (تشرين الثاني/ نوفمبر 2020).

ويناقش المؤلفان في الكتاب الجوانب الحضارية المختلفة التي ميَّزت الصينيين عبر التاريخ، ويتوقف الكاتبان بصورة خاصَّة عند ما قدمته الحضارة الإسلامية من قيم وعادات ومحفِّزات أسهمت في رقي الشعب الصيني، وأثَّرت تأثيراً إيجابياً في تخليصه من ربقة الموروثات القديمة التي كانت سائدة بين أفراده. كما سيعرض المؤلفان زيارات الرحَّالة العرب لبلاد الصين.

ويوضح كلٍّ من المجيدل وماينغ جغ بأَنَّ الصينيّين ينتمون إلى الرس المنغوليّ، وهو أحد الرسوس الثلاثة الكبرى للنوع البشريّ، فضلاً عن الأسود (الزنجيّ) والأوراسيّ. وذكر المسعوديّ، الجغرافي الرحالة من القرن العاشر: أن أهل الصين شُعُوب وقبائل، كقبائل العرب وأفخذها وتشعبها في أنسابها.

وصول الإسلام إلى أرض الصين

ومن الروايات التي يوردها بعض الباحثين الصينيّين، تلك التي تشير إلى أنّ أول ظهور للإسلام في الصين يعود إلى عهد السلطان (تايتسونغ)، وذلك في القرن السابع الميلادي.

وقد أشار الباحثان إلى أن جماعة من المسلمين قدموا إلى كانتون في مطلع حكم أسرة تانغ، وحصلوا من إمبراطور الصين على إذن بالبقاء، وشيدوا بيوتاً جميلة تختلف عن بيوت الصينيّين في طرازها. ويشرح الكاتبان كان انتشار الإسلام في الصين منذ القرون الهجرية الأولى مرتبطاً على حد بعيد بمعرفة مباشرة للمسلمين بجغرافية الصين والطرق المؤدية إليها، وهذا مؤشر على تواصل بين الحضارتين العربيّة والصينيّة منذ عهود مبكرة؛ إذ وصف الطبري مدينة الأبلة بمرفأ السفن القادمة من الصين.

ولكن أغلب الآراء ترجح أن ذلك تمّ في عهد الخليفة عثمان بن عفان 29ه، 651م، عندما أوفد الخليفة أول سفارة إلى الصين، وقد ورد ذلك في بعض المصادر الصينيّة مثل كتاب (تانغ القديم). ويؤكد مؤلفا الكتاب أنّ أول اتصال رسميّ بين الدول العربيّة الإسلاميّة، وبين الصين كان في سنة 651م في عهد الخليفة عثمان بن عفان.

القرآن الكريم باللُّغة الصّينيَّة

ويؤكد المؤلفان حاول بعض العلماء المسلمين أن يترجموا معاني القرآن، وكانت أول ترجمة صينيَّة كاملة لمعاني القرآن الكريم في أواخر القرن التاسع عشر، وهناك عمل آخر يعد ثاني أقدم الترجمات الكاملة لمعاني القرآن الكريم، تمت ترجمته على يد رجل غير مسلم أيضاً يدعى جي جيويه مي (1887-1964)، وهو راهب بوذي الأصل، ويضيفان أشرف على هذا العمل وموّله رجل عراقي يهودي يدعى (حاتن)، شاركته زوجته بهذا المشروع؛ إذ قاما بتدقيق الترجمة لمعاني القرآن الكريم والإشراف على طباعتها، ونشرها في شانغهاي تحت اسم (ترجمة القرآن باللُّغة الصّينيَّة) عام 1931م.

وكما يوضح المؤلفان أنَّ ترجمة السيرة النبوية إلى اللغة الصينية، ولكن عدد كتابات السيرة التي ترجمت من اللغة العربية إلى اللغة الصينية قليلة جداً، (ص: 146).

طريق الحرير

ويرى المؤلفان بِأَنَّ طرق التجارة التاريخية من البحر الأبيض المتوسط إلى الصين عبر آسيا الوسطى ،التي عُرِفتْ باسم طريق الحرير كان طريقاً مهماً للتجارة وللعلماء، وقد وصِفَتْ (ختن)، وهي بلاد بين الصين وتركستان بأنها كثيرة العلماء والفضلاء. ويؤكد المجيدل وما ينغ جغ وهذا ما شجع العرب على التواصل مع الصين، وتوطيد العلاقات التجارية معها من خلال الطريق التجاري الشهير المعروف باسم طريق الحرير الذي ربط بين الحضارتين العربية والصينية. ويؤكد مؤلفا الكتاب لقد أدى طريق الحرير التجاريّ دوراً بارزاً في ازدياد الحركة الاقتصاديّة بين المسلمين والصين، ولاسيما في عهد التانغ. ويرى الباحثان كان طريق الحرير يجلب بضائعَ هائلة من الحرير النّاعمِ، إلى البلاد العربية حيث كانت تُصدّرُه الصّين بمنتهى السرية خوفاً من أن يسرقوا منها أسرار الصّناعة.

ويوضح المؤلفان بِأَنَّ الدينار الفضي الإسلاميّ أصبح أهم عملة يتعامل بها التجّار على طريق الحرير، فعزّز هذا النظام المالي الجبايات والضرائب المتزايدة بين الصين والعالم الإسلاميّ. مما زاد في نفوذ الدولة الخزرية الواقعة على طريق الحرير، وتوسّعت دولتهم معتمدة على الضرائب المكتسبة من التجّار المسلمين، وبالتالي وفرت الحماية للقوافل والتجار. ويوضح كلٍّ من المجيدل وما ينغ جغ، ربط طريق الحرير منذ آلاف السنين بلاد الصين ببلاد العرب ربطاً وثيقاً، وترك تراثاً نفيساً يجسّدُ مجدَ الحضارتين الصينيّة والعربيّة وألقَهما (ص: 276). وكما يقول الكاتبان أصبحت الصين خلال حكم أسرة التانغ (613م-907م) من أعظم وأقوى دول العالم.

صناعة الورق

ويردُّ في الكتاب أنَّ معركة (تلاس)، أو ما يُعرف بمعركة نهر طلاس التي وقعت في شهر تموز/ يوليو من عام 751م، بعد تأسيس الخلافة العباسيّة بسنتين، بين الجيش العباسيّ والصينيّين، وأسفرت عن هزيمة الصينيّين وتكبدهم خسائر كبيرة في الأرواح، وأُخذ فيها عدد من الأسرى، كان بينهم خبراء بصناعة الورق، استفاد منهم المسلمون لإنشاء أول معمل للورق في الإسلام في سمرقند. مما يدل على انتقال فنون الصين إلى المسلمين في وقت سابق للعباسيّين.

وأشار المستشرق البريطاني/الأمريكي الجنسية برنارد لويس (1916-2018)، في كتابه (العرب في التاريخ)، إلى أنّه كان من بين الأسرى الصينيّين في تلـك المعركة بعض صناع الورق الذين نقلوا أسرار صناعته إلى العالم الإسلاميّ، فظهر الورق في مصر عام 800م، وفي الأندلس عام 900م، ثم بدأت صناعة الورق في الانتشار في أنحـاء العالم الإسلاميّ، ومنه إلى أوروبا والعالم.

رحَّالة في بلاد الصين

واستعرض الكاتبان الرحلات العربية إلى الصين حيث اهتمّ العربُ بالرحلات، وبالملاحة واكتشاف الأقاليم والبلدان والبحار، والمحيطات منذ زمن بعيد، ويرى الكاتبان أنّ هذا اللون من الأدب نشأ بداية في مدينة سيراف الواقعة على الخليج العربيّ.

ولفت المؤلفان بِأَنَّ سليمان التاجر يُعدُّ من أوائل الرحالة الذين وصلوا إلى بلاد الصين، وقد دوّن رحلته في مذكرات كتبها سنة 237 هجرية الموافق 851 ميلادية، وقام المستشرق الهولندي فراند، بنشر ترجمة جديدة لمخطوطة – سليمان التاجر- سنة 1921، مضيفاً فقرات من (مروج الذهب) للمسعودي ليكمل ما فيها من نقص. ثم عثر في السنوات الأخيرة الباحث التركي فؤاد سزكين (1924-2018) خلال دراساته على نسخة أكمل من هذه المخطوطة، وطبعها في ضمن النصوص العربيّة النادرة (ص: 241).

ويضيف الباحثان أَمَّا الرحالة أبو القاسم محمد ابن حوقل البغدادي الموصلي أو محمد بن علي النصيبيني(943-988م)، والذي بدأ رحلاته سنة 331هـ فقد ولد في مدينة نصيبين المحاذية لمدينة القامشلي بالجزيرة السورية بدايات القرن الرابع الهجري. لذلك يسمّى في بعض كتب السير (ابن حوقل النصيبيني)، وقد وصف أحوال المسلمين والتجار العرب في السند والهند وسيلان.

ويقول المجيدل وما ينغ من رحَّالة القرن الثامن الهجري الرحالة الشهير أبو عبد الله محمد بن عبد الله محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة (1304-1377م)، ويضيفان يُعدُّ ابن بطوطة من أهم الرحالة العرب الذين وصفوا بلاد الصين في كتابه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار). ونشرت ترجمة كاملة للرحلة بالإيطالية، كما تُرجمت إلى البرتغالية والألمانية والتركية. إذ أطلق عليها بعض الرحَّالة (جنة المؤرخين)، نظراً لغنى الموروث الحضاريّ الذي ظلّ لآلاف السنين مركز اهتمام الباحثين والمؤرخين.

تأثير الحضارة العربية في الحضارة الصينية

وقدَّم المؤلفان قراءة مطولة لأهم الجوانب التي كان للعرب وحضارتهم أثر كبير في الحضارة الصينية، ويمكن تلخيص تلك الآثار في عدد من المجالات من أبرزها: علم الفلك (ص: 228). وكما يُبيّن المؤلفان أنّ الرياضيات العربية انتقلت مع علم الفلك العربي إلى الصين في آن واحد. ويؤكد الكاتبان أنّ العقاقير العربية قد استخدمت في أوساط الطب والصيدلة في الصين على نطاق واسع، ويرى المؤلفان أنّ الفنون العربية بما فيها العمارة والموسيقى والرسم والزي تركت أثراً في الأقليات القومية الإسلامية في الصين بدرجات متفاوتة. كما يؤكد المؤلفان أنّ هناك أثراً للفن المعماري العربي، والرسم بصورة جلية في مباني المساجد والجوامع، ويضيفان أنّ اللغة العربية دخلت إلى الصين مع دخول الإسلام إليها. وأنّ الويغور والقازاق وغيرهما من الأقليات التي تنطق لغة الترك، ظلت تكتب لغاتها بالأبجدية العربية.



التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها