مهرجان المسرح الصحراوي السابع

حكايات جديدة وجماليات مبتكرة

محمد سيد أحمد


للمرة السابعة تزدان منطقة الكهيف، بأضواء مسرحيات عربية صحراوية.. تجسيداً لرؤية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي نحو مسرح يشكل عامل توحد إنساني، يستطيع من خلاله الإنسان أن يغلف العالم بالمحبة، ويفتح آفاق الحوار بين مختلف الأجناس، والأعراق والألوان، ليكون عاملًا مضافاً في تقبل الآخر على ما هو عليه.

عروض الدورة السابعة تسهم في تنزيل التنظير، حول المسرح الصحراوي، إلى واقع مسرحي جديد، يجترح طرقاً فنية إبداعية جديدة، تؤسس لنوع جديد من فنون العرض المسرحي، عروض تقول: إن الصحراء العربية هي أيضاً بيئة صالحة لنبتة المسرح الإنسانية الساحرة.. هنا في صحراء الشارقة يلتقي المسرحيون العرب، يجربون شكلًا جديداً ورؤيا مستحدثة ترفد حراك المسرح العالمي، وتعلن بكل قوة عن ميلاد مسرح نوعي مختلف ومبتكر وجديد.
 

عروض الدورة السابعة، جاءت من الإمارات بعرض الناموس، من تأليف سلطان النيادي، وإخراج محمد العامري. وعرض موريتانيا بعنوان: أولاد العالية، من تأليف وإخراج سلي عبد الفتاح، وعرض منيفة الأردني من تأليف أحمد الطراونة، ومن إخراج فراس المصري، وعرض الذيب من سوريا من تأليف وإخراج سامر محمد إسماعيل، وعرض ترنيمة الصحراء، من تأليف وإخراج انتصار عبد الفتاح.
 

مسرحية الناموس

من تأليف سلطان النيادي وإخراج محمد العامري، والناموس مفردة شعبية إماراتية، هو الشرف ونيل جائزة وقصب السبق لفرد من أفراد المجتمع كمدخل لتناول العرض، نبدأ بأبيات للشاعر مؤلف المسرحية:
بينا نوفي عهود وذمة
عنا لا تقولو خلفنا الوعايد
إن نوينا على شي نتمه
لو رمينا في نار الوقايد

نحن قوم نفي بالوعود، ولا نخلفها حتى لو تعرضنا للمصاعب.. مقولة للشاعر جسدها العرض، في سلوك الشخصيات صاحبة القيم. العرض يتناول حكاية قبيلة عربية في الصحراء، يتعرضون لهجوم وغزو من قبيلة أخرى، في مواجهة الغزو، يتقاعس أبناء القبيلة، ويقضون الوقت في الثرثرة والاختلافات، ينقلنا المخرج إلى عدد من الخيم، وكل شخصية في الخيمة تبدي أسباباً تقود للخذلان وعدم النفير للحرب والدفاع عن القبيلة، وحتى بعد وضع أصحاب القبيلة المعتدية اقتراحاً بإقامة سباق الفائز فيه لن يتعرض للغزو، لا يستعد أفراد القبيلة حتى انقضاء أجل السباق. المخرج محمد العامري استخدم أسلوباً مسرحياً فيه الاستعراض، وتطويع جماليات الإضاءة، والإلقاء الشعري والموسيقى مستعيناً باكسسوارات أيقونات ديكورية صحراوية، مثل الخيمة والنار، والخيول والأزياء، اختار للسينوغرافيا أربعة خيام صغيرة بأطراف المشهد، وخيمة أكبر في الوسط، استعان بالراوي أحمد الجسمي، وسميرة أحمد لربط الأحداث، وإرسال رسائل الحكمة والموعظة بالأشعار البدوية مثل:
جيل ورا جيل ورا جيل
يتبادلون الدرب ولو طال المدى
وإن طاح جيل يسنده جيل
وإلهم عظيمات الفعايل
في مجدهم قرت روايات وأخبار
وتشهد بعلياهم دواوين وسطور
من توسد اليمنى على عز وثرى
كن الثريا تدنت له مكان
ومن بغى العليا ما تهني بالكرى
يرضف اليولة لين يوصل مبتغاه

بحلوله الإخراجية الذكية نجح العامري في السيطرة على جموح المكان الشاسع، وعمل على تأطير مكان الحدث، عن طريق البقع والمستطيلات الضوئية أمام الخيمة الوسطى مركز الأحداث، انسجاماً مع فكرة التركيز على أسباب الهزيمة الداخلية، فالغزو الخارجي، لم يكتب له النجاح إلا بالانقسامات والصراعات الداخلية، لذا فقد جسد مشهداً وحيداً لمعركة الغزو الخارجية، وكثّف باقي الأحداث بين شخصيات وأفراد القبيلة داخل خيامهم ومضاربهم، رسائل وشفرات النص أطلقت عبر إلقاء الأشعار من الراوي والراوية، ثم عاد المخرج لإعادة عبارات مفتاحية، تحمل مضامين مركزية. تميز الفنان أحمد الجسمي بأدائه الصوتي القوي، كفارس صنديد من فوارس الصحراء، والفنانة القديرة سميرة أحمد بتلويناتها الصوتية الدرامية، المعبرة عن المشاعر، والمحفزة لاستنهاض الهمم والعزائم.

كالعادة ينجح المخرج محمد العامري في تقديم مشاهد جمالية مدهشة، مثل مشهد تدمير خيام القبيلة أثناء الغزو؛ إذ حرك الخيم بواسطة حبال في حركة مفاجئة سريعة ساعدت تصاعد الغبار، وحجبتْ تفاصيل الحركة من عين المشاهد ليصبح في مواجهة تغير كامل واختفاء للخيم في ثوانٍ، وكذلك قدم مشهداً يخدم دراما الأحداث، عندما نقل النيران المشتعلة بعيداً إلى مكان قريب من الخيمة الوحيدة الباقية؛ وكأنها إشارة بأن الحريق وصل لمضاربكم وأنتم في خلافاتكم. لا تفوت على فطنة المشاهد الإسقاط وخطاب العرض الذي يقول: ما حدث للقبيلة بسبب الخلافات الداخلية، يمكن أن يعاد إنتاجه في الواقع العربي الراهن.. وإن حمل العرض في خطابه شمعة أمل وضوء في آخر النفق، تمثل في مشهد عبور طفل صغير يقود ناقته، ويحمل سلاحه، وكأنه يقول: كما قال الشاعر الكبير الجواهري:
سينهض من صميم اليأس جيلٌ
مريـدُ البـأسِ جبـارٌ عنيد
يُقـايضُ ما يكون بما يُرَجَّى
ويَعطفُ مـا يُراد لما يُريد

 

مسرحية الذيب

مسرحية الذيب حكاية من الصحراء حول قصة عشق، بين ذيب وزوجه العنود، يبدأ العرض من ذروة صراع يقوده شقيق منيفة هزاع، يقتلع الزوجة من مضارب زوجها بسبب حرب نشبت بين قبيلتهم، وبين قبيلة ذيب، وهي فكرة تبدو غريبة على إنسان المدينة، ولكنها أعراف وتقاليد الصحراء، فالزوجة العاشقة والمحبة لزوجها، لا تملك إرادة رفض أعراف القبيلة، ترحل الزوجة، وتظل مشاعر الحب والشوق منها ومن زوجها، يرسل الزوج امرأة من القبيلة لتحديد موعد لقاء مع زوجته بعد مشاهد اختلط فيها الحلم بالواقع، والكوابيس بالوقائع، وما يسرده الراوي وما يجسد من أحداث وتداخل بين الأزمنة والأمكنة، ففي مشهد لقاء في ما يشبه الحلم، تعالج العنود زوجها من لدغة ثعبان، وفي مشهد واقعي يقضي الزوج والزوجة ليلة مقمرة فيها المناجاة والحب، تحبل فيها الزوجة، وبعد أن يعرف سرها شقيقها، تخبره بما حدث يعود الشقيق للزوج ذيب ليتأكد من الحقيقة، فيعود الحب والوئام.

النص كتب بتكنيك فتي معقد، تداخلت فيه المشاهد بين الواقعي المجسد، والخيالي المتوهم، وما بين الإنساني والحيواني.. استثمر الكاتب استعارات العلاقة، بين اسم ذيب الإنسان، وطباع الذئب الحيوان. وهذا باب كتبَ فيه الشعراء العرب الأوائل، كما قال الفرزدق مخاطباً الذئب:
وَأَطلَسَ عَسّالٍ وَما كانَ صاحِباً
دَعَوتُ بِناري موهِناً فَأَتاني
فَلَمّا دَنا قُلتُ اِدنُ دونَكَ إِنَّني
وَإِيّاكَ في زادي لَمُشتَرِكانِ

من المغامرة والجرأة، وأصوات العواء في الليالي المقمرة اختار المخرج مغامرة تبئر المكان، فقد حصر أماكن الأحداث في منطقة صغيرة أمام الخيمة الوحيدة، ولم يكن معنياً بتصوير مشاهد الصراعات الكبرى، والمعركة بين القبيلتين والحرب، ولكنه اختار الغوص في منطقة سايكلوجية، مشاعر الحب والحرمان والعشق والفقد، كما اختار أن يلقي بعبء العرض على أكتاف ثلاثة شخصيات فقط، نجحوا إلى حد كبير في ملء الفراغ المسرحي، وأجادوا الأداء الحركي والصوتي. تمثلت بعض مشكلات الإخراج في تداخل المشاهد الواقعية، ومشاهد الأحلام والكوابيس، دون أن تضاف عناصر جمالية من الإضاءة والصوتيات تفصل وتؤطر الأمكنة والأزمنة، حتى تتضح الصورة والمعنى عند المتلقي المشاهد... المخرج انحاز إلى قدرات الممثل وأهمل عناصر العرض الأخرى، من إضاءة وصوت وإكسسوار، وأزياء وموسيقى وسينوغرافيا.

مسرحية أولاد العالية

المسرحية الموريتانية "أولاد العالية"، من تأليف وإخراج الفنان الموريتاني سلي عبد الفتاح، وإشراف المخرج التونسي حافظ خليفة، حكاية العرض مستوحاة من التراث الشعبي الصحراوي في موريتانيا، وسط القبيلة المنقسمة إلى فرع أولاد مبارك، وأولاد اسويد، وذكر ما جرى بينهما من صراعات وحروب، ينتصر فيها أولاد امبارك. والفضل يعود لفرس عربي أصيل، يلقب بالمزوزة، يرسل أبناء سويد، أحد فرسانهم لسرقة المزوزة، يتنكر في ثياب المطوع، وتحتضنه القبيلة، ليعمل في تدريس القرآن الكريم، ويجذب الجميع بلطفه وحسن تعامله، وينال رضا زعيم القبيلة، وعندما يحاول سرقة الفرس، يقبض عليه ويسجن، وفي السجن يعزف على آلة شعبية ويغني.. يعجب زعيم القبيلة بشجاعته وعزفه، ويعفو عنه ويهديه المزوزة، يعود بها إلى مضارب قبيلته، ولكنه يكر راجعاً بها مرة أخرى.

المخرج اختار مفردات صحراوية لتأسيس المكان، بخيم ناصعة البياض وخيول، الموسيقى أضافت طابعاً مميزاً للهوية الثقافية والفنية المورتانية، عبر آلة شعبية وترية، وبأزياء تعكس ألوان وروح الصحراء. العروض المسرحية الموريتانية، تتميز بنكهة خاصة، هي الأقرب لروح الصحراء، فالممثل والممثلة الموريتانية يعرفون جغرافيا الصحراء، يعرفون كيف يمشون ويتحركون في الرمال، وكيف يرقصون عليها، وكيف يتخاطبون بإيقاع صوتي مرتفع. وكما قال مشرف العرض الفنان، التونسي حافظ خليفة: (الصحراء للأسف ارتبطت عند الكثيرين بالجانب الفلكلوري وتجمدت وتحنطت هناك، وأنا حاولت استغلال التراث المادي بشكل جديد ومعاصر، تأكيداً على رؤية المهرجان، في الانفتاح على فضاءات جديدة للعرض المسرحي).

العرض الأردني منيفة

منيفة اسم لفتاة بطلة العرض، من تأليف أحمد الطراونة، وإخراج الفنان فراس المصري. تحكي عن فارس قبيلة يرحل في الصحراء مع ابنته، يتعرض للنهب من قطاع الطرق، فيلجأ لمضارب قبيلة، تكرم وفادته وتحتضنه، يعمل في تدريس أبناء القبيلة، يقع ابن شيخ القبيلة فهد في حب منيفة، وبعد أن أبعد شيخ القبيلة والد منيفة، يتزوج فهد ابنة عمه، ويطلقها في أول ليلة ليعود ويتوج قصة حبه بالزواج من منيفة، بعد أن حل اللغز.

تميز العرض بالأداء الجيد ويبدو أن للممثلين خبرة العمل في المسلسلات البدوية الأردنية، فاللغة واضحة المخارج مفهومة حتى للمشاهد غير الأردني، والأزياء من صميم الفلكلور الصحراوي، والعرض شامل للتقاليد البدوية، في الغناء والرقص وإلقاء الشعر، والمخاطبة الفطنة عن طريق لغة تحتشد بالألغاز والحيل. وإن كانت هناك ملاحظة، فهي عن دور الراوي، وهو يقوم بسرد أحداث تم تجسيدها فعلا على مستوى الأحداث. السينوغرافيا نجحت في تصوير الأمكنة الصحراوية، بمفردات الخيمة والنار والخيول، ومهابش صناعة القهوة العربية، وإيقاعات الاستعراضات الموسيقية الراقصة.

مسرحية ترنيمة الصحراء

العرض المصري ترنيمة الصحراء من تأليف وإخراج المخرج المصري الكبير انتصار عبد الفتاح، صاحب تجربة المسرح الصوتي. العرض هو الجزء الثاني من عرض الخروج للنهار، وكتاب الموتى الفرعوني. تدور قصة العرض حول شخصية الخال والخالة، ينتظران ذلك الشاب القادر على حل رموز وطلاسم الصحراء، وفك أسرارها، الخالة تجلس وتعمل في صناعة الفخار، والخال يحاول الاستماع لترنيمات وأصوات الصحراء الغامضة، مع مشاركة أربعة فتيات، كزوجة وبنت، وفتاة تسقي الشاب المياه المقدسة، وأخرى تكحل الشاب. حوار المسرحية لم يكن حواراً تبادلياً سجالياً، ولكنه حوار متقطع فيه الكثير من المعاني والإشارات الصوفية، بلغة الرموز والإيحاء والتورية والحكمة. العرض اختلف في شكله ومضمونه، عن العروض الصحراوية الأخرى؛ فمن حيث السينوغرافيا لم نشاهد الخيام والخيول والجمال، ولم نشاهد المعارك أو السيوف، واختصر المشهد لمكان جلوس الخالة على اليمين وحواليها الأدوات الفخارية، وجلوس الخال على اليسار مع وجود ممر تؤطره أضواء على الجوانب، ومجموعة كومبارس يحملون مشاعل فوق الجبل. دارت معظم مشاهد العرض في الوسط مع ظهور أربعة فتيات في رقصات استعراضية جميلة، فاهتمام المخرج انصب للبحث عن أعماق الشخصيات وإبراز أصوات ترنيمة، وكأنها شعائر جنائزية تتصف بالرتابة والهدوء، والغموض لينسجم الأداء مع أسلوب المخاطبة الهامسة، والأصوات الصادرة من العمق، في جلال وخشوع، من الممثلة القديرة عايدة فهمي، والممثل سعيد صديق، والإيقاعات المتنوعة من نوبة مصر ومن مصر الفلاحية، بالإضافة لبعض المقطوعات الموسيقية العربية.

عروض الدورة السابعة للمهرجان، ذهبت نحو ترسيخ مفهوم المسرح الصحراوي، ممارسة لأساليب إخراج مسرحية جديدة، تضع بصمة للمسرح العربي، وسط خارطة المسارح العالمية، عروض ذات هوية مميزة للمكان الصحراوي، بكل جغرافيته وتضاريسه الفريدة، وبكل ما تحتويه الصحراء من نباتات وأشجار وحيوانات، وتستلم روح الصحراء في حكاياتها الميثولوجيا، بسحرها وغموضها.. نلاحظ في العروض عمل المخرجين لتبئير أمكنة العرض، في مساحات أقل اتساعاً باستخدام سينوغرافيا فقيرة، ومساعدة تكنولوجيا الإضاءة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها