انفتح الشاعر العربي المعاصر على تجارب إنسانية وثقافية استمد منها ما يغني به تجربته الشعرية، وقد استفاد من ثقافته الجديدة ليطور وسائله التعبيرية، وهكذا وجدناه يهتم بالرمز والأسطورة والقناع. والشعراء متفاوتون في طريقة توظيف هذه الوسائل الفنية، فمنهم من يكتفي باستدعائها وإقحامها عنوة في السياق، ومنهم من يجعلها من نسيج النص ويرفعها إلى درجة البؤرة التي تنبثق عنها الامتدادات الجمالية والدلالية.
القيمة الفنية للأسطورة:
تمتلك الأسطورة قدرة كبيرة على التكثيف والإيحاء والإيجاز، حيث تنفتح على دلالات ثاوية في وجدان الإنسان ولاشعوره، وتساعد على نقل المعنى وتصوير الواقع بطريقة خارجة عن المألوف ومحدثة للدهشة، وبقدر ما تشترط ثقافة من لدن المتلقي لفهمها، تتطلب، قبل ذلك، براعة في التوظيف من قبل الشاعر الذي ينبغي أن يوجد بين الأسطورة والواقع المعبَّر عنه معادلا حتى لا يكون متعسفاً في الاسترفاد والتوظيف.
يلوذ أمل دنقل في ديوانه الأخير بصور تعبيرية كثيرة، أبرزها الأسطورة التي تَسِم رؤيته ورؤياه بالخصوصية والعمق، ويسلك في استرفادها طريقة تعتمد على الامتصاص والصهر، ويزيد على ذلك بأن يجعلها مكوناً عضوياً في نسيج النص الحاضر، ومسهمة في تناميه وتناسل معانيه وامتداد دلالاته وإشعاع جمالياته، ولا يتم ذلك إلا باستحضار أوجه التشابه بين النص الحاضر والنص الغائب من خلال ما يعرف بالمعادل الموضوعي.
يبتعدُ أمل دنقل في توظيفه للأسطورة في ديوان (أوراق الغرفة 8) عن الإسقاط والمباشرة، لائذاً بالتوظيف العضوي الذي تصير فيه الأسطورة منصهرة في السياقِ، وفاعلة في تنمية المعاني وتناسلها داخلياً، ولا يتمّ ذلك إلا بامتصاص النص الغائب وإعادة صياغته وفق الخصوصية الإبداعية1، وبتعبير آخر عن طريق فهم النص، ثم هضمه واستدعائه اعتباطياً دون سابقِ نيّة، وتلك أرقى درجات التوظيف التناصي.
تحضر الأسطورة في ديوان (أوراق الغرفة 8) حضوراً نوعياً؛ إذ تعبر عن رؤيا الشاعر ورؤيته للوجود والحياة والنهاية، ويحرص تبعاً لذلك على اختيار ما يعبر عن واقعه النفسي والفكري، مما يعكس ثقافة واطلاعاً على الموروث الإنساني، وقدرة على صهره في أتون التجربة النفسية والتجربة الفكرية.
التفاعل العضوي للأساطير:
للأسطورة حضورها في قصائد الديوان الأخير، وهو حضور نوعيّ منحها أبعاداً رمزية عوّضت الحضور القليل للانزياح، ومن هذه الأساطير أسطورة طائر الرّخ:
ها هو الرّخ ذو المخلبين يحوم
ليحمل جثّة ديسمبر الساخنة
ها هو الرخّ يهبط..
والسحب تلقي على الشمس طرحتها الداكنة
يرسم الشاعر في هذه الأسطر من قصيدة (ديسمبر) لوحة قاتمة، حيث تتفاعل أسطورة طائر الرخ مع أسطورة تموز بشكل ضمني برع أمل في نسجه لتصبح الأسطورتان وكأنهما أسطورة واحدة، والرّخ هو ذاك "الطائر الوهميّ المشحون بصفات العنف والشراسة والبشاعة"2، يصطاد فرائسه بلا هوادة، لذا شبّهه بالموت لاشتراكهما في فعل الافتراس، مع اختلاف الفريسة، وهكذا فهو "يستعير منه صفات العنف والافتراس التي يمارسها على طرائده"3. حيث يشتركان في الانقضاض على الفريسة والنيل منها.
وإلى جانب التوظيف الأسطوري لطائر الرخ الخرافي، يشبّه الشاعر الموت بالأفعى التي تقضي على حبّ حبيبين، وفي ذلك إشارة إلى (مأساة أرفيوس)4. فالموت في هذا المشهد أفعى تستدرج البشر بنغمها وفحيحها الذي يشبه ما يصدره الناي، فتخدع سامعها إلى أن تفاجئه. وهكذا "اتكأ أمل دنقل على الخلفية الأسطورية في تحويل الموت إلى أفعى"5.
التوظيف العضوي:
يتجنب الشاعر التوظيف المباشر للأسطورة، حيث يجعل السياق دالا عليها، كما هو الشأن في قصيدة ديسمبر، حيث يؤثث لمشهد مظلم يوحي باقتراب النهاية، مشهد تساقط الأوراق التي تلتصق بالأرض مؤذنة بقدوم الشتاء وحلول الظلام الذي يعم العالم، وهذا الجو العام يحيل على أسطورة تموز وما يرتبط بها من صراع بين النور والظلمة وبين الخير والشر، فديسمبر "هو زمن موت أشياء الطبيعة"6 وانتشار الظلمة والسواد، واللافت للنظر أن أمل دنقل ينوع في استثمار الأسطورة وثنائية النور والظلام، حتى في القصيدة نفسها، كما في قوله:
تتساقط أوراق ديسمبر الباهتة
وقوله:
والسحب تلقي على الشمس طرحتها الداكنة
وهنا يتم الانتقال من عالم النور إلى عالم الظلام، وتفصح الأسطورة عن واقع نفسي يلونه السواد، وأمام اتحاد الأسطورة بعمق الانزياح ازداد إشعاع السطر الشعري امتداداً. وعليه؛ يمتص الشاعر الجو العام للأسطورة ويبتعد عن الاستدعاء الحرفي، ويوظفها بما يخدم المعنى وبما يقوي من الفاعلية الجمالية والامتداد الفني.
في قصيدة (زهور) من الديوان نفسه، يستثمر الشاعر أسطورة أدونيس في إحالتها على الموت والبعث، بشكل مختلف يعطيها بعداً دلالياً يرتبط بالسياق والواقع النفسي، فباقة الورد التي قطفت واجتُثَّت من تربتها إحالة على موت الطبيعة، ونلاحظ أن الشاعر يلغي من الأسطورة الأصلية مشهد البعث وعودة الحياة ليقينه التام بدنو الأجل.
جِدّة التوظيف:
في قصيدة (السرير) يوظف الشاعر أسطورة "رع" الذي يقاوم الأفعى إلى أن تشرق الشمس، وقد حور في الأسطورة لتتماشى مع تجربته الذاتية والنفسية:
أوهموني بأن السرير سريري!
أن قارب "رع"
سوف –يحملني عبر نهر الأفاعي
لأولد في الصبح ثانية.. إن سمع
تشرح الأسطورة7 كفاح (رع) كل ليلة ضد قوى الفوضى والشر المتمثلة في أفعى كبيرة تسمى "أبوفيس"، حتى تستطيع الشمس "رع" الظهور في الصباح التالي في أعالي السماء.
يلوذ أمل بأسطورة (رع) الذي يحارب الأفعى (أبوفيس) كل ليلة ليمكّن الشمس من البزوغ في ليوم الموالي... وقد حوّر في الأسطورة ليجعلها معبرة عن تجربته الذاتية وواقعه النفسي، فالسرير ليس إلا (رع) الذي سينقله إلى عالم الشفاء، وينهي فترة الظلام التي ترخي بظلالها وتمنع شمس الشفاء من البروز والبزوغ.
والملاحظ أنه يمزج أسطورتين بطريقة احترافية تتماشى مع التجربة، وقد تلاحمتا في الإفصاح عن واقعه الداخلي، فأسطورة (رع) تندغم في أسطورة (تموز)، وهو ما يحيل عليه قوله:
سوف يحملني عبر نهر الأفاعي
لأولد في الصبح ثانية.. إن سمع
فالولادة إيذان بشروق الضياء، وطرد الظلام، ونهاية الألم، والبعث الجديد.
لقد استطاع أمل في قصائده الأخيرة أن يستثمر طاقة الأسطورة الإيحائية والتكثيفية ليضخ في أشعاره نبضاً شعرياً يعوض الخفوت النوعي للصورة الشعرية، وقد تجاوز بخبرة الشاعر الحاذق التوظيف الحرفي، وكان ذلك دأبه وديدنه في قصائده الأخرى التي يوظف فيها الرموز ويلبس فيها الأقنعة.
الهوامش: 1. الموت من منظور الذات، عبد السلام المساوي، عالم الفكر، ص: 123.│2. البنيات الدالة في شعر أمل دنقل، ص: 407.│3. المصدر نفسه، ص: 403.│4. نفسه، 402.│5. نفسه.│6. البنيات الدالة في شعر أمل دنقل، ص: 403.│7. ينظر: آلهة مصر، فراتسوا ديماس، ترجمة زكي سوس، الهيئة المصرية للكتاب، 1988.