المَتاهة!

رجاء عبد الحكيم


دخان سجائري يعوم في الغرفة، يخترق المرايا لتنفسِه فيخرج مِن وجهها الذي يبدو مشتعلاً. طوفان من الدخان يتسلل تحت قدمي ويرفع جسدي، فأسبح بداخلِه بمهارة. كل ليلة تأتي سلمى متدثرةً بأغطيتها، رغم أننا كنا في هذا الزمن القديم في بداية شهر أكتوبر، ورغم أنه الخريف إلا أن الصيف قد لاح لي أنه أحكمَ قبضتَه على كل الفصول، وقد تخللت جسدَ سلمى رعشةٌ قوية، تتكوّم لي في ركن المرايا وقد انبعثت منها تأوهات موجعة، لا أعرف لماذا تداهمني دائماً تلك النبوءة بنهاية الأشياء، ويلوح لي القدر بسقوطِها، تلك البنت التي صبغت شفتيها باللون الوردي تستوقف في الطرقات ضارباتِ الودَع وهي تهمس للودَع بسِر قلبِها، قُلن لها إن الودَع يقول اتبعي طريق قلبِك، فتنبأت بخسارتها!

حدّقتُ في مِرآة الحجرة، وتلك المِرآة كانت تتطلع للمِرآة بداخلي، والتي كان وجهها متصدعًا بشروخٍ سحيقة.

تستيقظ في روحي الذكريات النائمة، ثمة أشياء تتشابه حدّ التطابق، هذا الذي يطِل الآن في المِرآة هو نفس الجدار، ساقَ ذاكرتي إلى هناك، إلى ذلك الحائط القديم المثقَل بأوراقٍ قديمةٍ وممزقة، تعلّقت نظراتي به، ثمة رجفةٌ قوية اجتاحت جسدي كله!

أمست الحجرة في سكن الطالبات، في المدينة الجامعية، شِبه مظلِمة، لقد احترق مصباحانِ من ثلاثة تتدلى من السقف، وقد تَراءَى لي أن تلك اللمبات كأشباح هاربة من كتبِ الحكايات، تبصق الإضاءة من إحدى عينيها، بينما عينها الأخرى معتِمة، وقد ترنّح المصباح المتدلّي من سقف الحجرة يميناً وشمالاً صانعاً ظلاله، تراقصت تلك الظلال على الأصوات التي يصدِرها شبّاك النافذة الذي استسلم لقرع تلك الرياح العفية بصوت تساقطِ الأوارق الذابلة من الأشجار الملتصقة بالمبنى، والتي تطيّر تلك الأوراق هنا وهناك تحمِل نبوءتَها، لاح كل ذلك لعينيّ في الغرفة الساكنة بسجادتها الوحيدة المهترئة، يدور المصباح ليعرّي أركان الحجرة، حتى التي احتمت بأنحاء الدواليب الصاج المبعثرة وقد تَضاعَف ظِلها، يراود الضوء تلك الأركانَ الصغيرة التي تحرص على أن تكون معتمة، يتزاوج الضوء والعتمة، وتبدو سحابة بخطوط برتقالية وسوداء تظلل الغرفة، فيعصف مطرٌ لخوفٍ بقلبي، غشيت الغرفة انفعالاتها التي بدت لي مبهَمة، دخان سجائري يصوغ الأشياء فتبدو مشوّهة. في ذلك الوقت البعيد، والذي يلوح لي وكأنه الأمس، على أرض الغرفة تكوّمتْ رباب، وقد أحاط بها عدد لا بأس به من نزيلات الدار للمشاطَرة في حل اللغز.

كانت رباب قد اشترت تلك اللعبة مِن الرجل العجوز الذي يفترش بضاعتَه على الجانب الشرقي لكوبري النيل، ينادي بصوتٍ معجونٍ بحزمة من الانفعالات، مرح، وحزن، وملل، قال بصوتٍ جهوري:
- المتاهة .. اشتري المتاهة، لعبة الأذكياء فقط.

قالت رباب بعد أن أفلتت يدي من يدِها، واتجهت بتصميمٍ نحو البائع - أنا ذكية، سأشتري المتاهة.. تقدمت رباب من العجوز بائع المتاهات الذي كان يجلس عاريًا من أي غيمةٍ تظلّله، حيث كانت الشمس الملتهِبة تنهمر على وجهه، وتصنع سرابَها الخاص بها، لكن في اللحظات الأخيرة تأتي سحابة سوداء من الغيوم على شكل فِيَلة صغيرة تلاعب السحاب، حيث تنام على ظهرها وترفع رِجلَيها وخراطيمها، تمكث برهة على وجه الشمس. لاح في محياه تعبير ساخر، قالت رباب وهي تمنح البائعَ ثمن علبة المتاهة
- أنا سأحل اللغز

ضَحِكا معاً، وقد تَبادلا نظراتٍ تنمّ عن غرورٍ وتَحدٍ، قال العجوز وقد فاض تعبيرٌ فاتر من وجهه، وعاد إلى بضاعته وانشغل بها:
- وأنا هارجّعلك الفلوس. وانسحبَ إلى ذاتِه، واستكملنا أنا ورباب الطريقَ إلى السكن.

باستطاعتي أن أرى الصورَ المنعكسة في المِرآة، ليس فقط دخان سجائري الذي يتراقص صانعًا أشكالَه الباهتة التي تبتلعها الحجرة، تتقاطع سُحُب الدخان مع صورتي في المِرآة، يزاحِمنا الدولاب وشماعة الملابس الخارجية، تبدو الأثواب عليها كأطيافٍ تتأرجح، بينما الكتب المبعثرة على الطاولة تغريني، بإمكاني أن أرى أبعدَ مِن ذلك، أن أرى سنواتٍ ليست بالقليلة مرت مِن عمري، تتداخل الوجوه في هذا الفراغ، وتلوح لي سلمى ورباب وأنا، وتشخص صورة سلمى تزيح الأشياءَ التي تزاحمها، كان ثمة صوتٌ خفِيّ تبثّه تلك الصور المنشطرة لسلمى في المِرآة.

ترميني مشرِفة الدار بكلماتها المعتادة:
- انتي لئيمة!

أنا لم أفعل شيئاً، أعتلي سريري الذي يزاحم السقف، وأراقِب الجميع، أراهم دُمَى تعبث بها خيوط غير مرئية. بعد جرعات مكثفة من محاضرات الفلسفة تتبعثر الأشياء بداخلي، أحاول باستماتةٍ استعادةَ يقيني الذي اهتز، يعربِد النوم في تلك الحجرة، استلقت البنات ساكناتٍ بلا حراك، لا ضحكات، لا حكايات، فقط بعض الأنفاس الهادئة تتخللها أنفاس قلِقة، ثمة أشياء غريبة تحدث في هذا الكون، أتساءل أين ذهبتْ أرواحهم الآن؟! بينما أظَل مستيقظةً تشغلني كائنات الغرفة التي تتحول إلى ظلال تطول وتقصُر، ثمة أنوف ضخمة، وأفواه واسعة، ورؤوس كبيرة، كانت تحل محل دواليب الصاج الصدئة، والسجادةُ القديمة المهترئة تمارس أمامي الآن حياتَها الليلية مثقلةً بذكريات أناسٍ كثيرين تعانَقوا طويلاً ثم افترقوا، أصوات بكاءٍ وضحكات، ثمة حنين لا ينطفئ هنا في تلك الغرفة التي ترقص فيها الظلال، في كل ليلة تتعرّى أشياء الحجرة أمام عيني متحررةً من تقاليد النهار العتيقة.

انبطحت رباب على بطنِها، وقد جَمعت بناتِ الحجرة حولها بعد أن فرشت بطانية قديمة على الأرض، وقد وضعت لعبة المتاهة أمامها، ورفعت رِجليها وبدأت في ترقيصهما، وشكّلت هي والبنات دائرةً حول المتاهة التي بدت محاصرة وستستسلم مِن أول محاولة، ربما رجفت المتاهة مِن كل هذا التحلّق وتمنت أن تستسلم وتستريح. أثناء هذا الحصار المتعمد للعبة المتاهة جاء تليفون لسلمى، فانسحبت مِن وسط هذا التكوين، وترك خروجها فراغًا كبيرًا كسَرَ الدائرة،، وتنفّست اللعبةُ التي سَقط عليها من الدائرة المفتوحة هواءٌ منعِش، وبدأت مناورتها بنشاطٍ وثقة، كانت محاولات الولوج واقتحام المتاهة في لحظاتها الأولى، كل شيء بدا مرحًا ونشيطًا، كنت أُسقِط نظراتي على وجه سلمى الذي كان على الأرجح يَكتسب اللون الوردي المصحوب بلمحات ناعمة وصوتٍ دافئ لأشياءَ تستدعي البهجة. تحركت أُكرة الباب بشكل بطيء لتُطِل المشرِفة بوجهها الذي يشبِه دخان سجائري، تنفذ عيناها القططية تكشف الجمع المتكور على المتاهة، وتطير نظراتها على سلمى المأخوذة بحديثٍ ناعم، تهز المشرفة رأسَها أسفًا، ومن ثَم تعيد الأكرة بشكلٍ هادئ إلى مكانها، لم يلاحظ أحد هذا الوجهَ الممصوص والعيون المتلصصة التي تعرِّي الجميع، غيري!

أعود مِن ذلك الزمن البعيد إلى حجرتي، هنا لن أنظر إلى تلك الساعة، يبدو أننا ما نزال في الليل، ومع شروق الشمس سأعرف الوقت الذي يلفني بألمِه وقلقِه، أشعِل سيجارة أخرى وأنا أتساءل هل تنهي قِصة سلمى قِصتنا جميعًا في تلك الساعات المعدودة؟ هل يختزل الزمن هكذا دون أن نذكر وقتما عرّاها أمامي ضوء المصباح المتأرجح في سماء الحجرة، فلاحَ لي وجهها ساعتَها مسكونًا بالضعف والأسف؟!

استيقظنا في ذلك اليوم مبكرات، ارتديت أنا ورباب على عجالة بنطلونًا وبلوزة وكوتشي، بينما سلمى أخذت زينتها كاملة، وارتدت حذاءها الذي يرفعها بضع سنتيمترات عن الأرض، وخرجنا تُشيّعنا نظرات المشرِفة التي حَيّتنا بتنهيدة فهمٍ عميقة؛ كأنما كانت تنظر إلى قرار الأشياء، وحاولت جاهدةً أن تواري انفعالاتِها.

أول كوبري النيل الذي يفصل الشرق عن الغرب، كما لو كان يفصل بين عالميْن وأزمان متعددة، والذي مَرّ عليه اليوم ليس هو الذي سيمر عليه غدًا، ثمة أشياء تتحول في قلوبنا، في أرواحنا، وفي أجسادنا. انسحبت سلمى مِنا وهي تردد باسمةً وسعيدة:
- معي موعد

واعتلينا أنا ورباب الكوبري، وكل منا خَضع لذلك الصمت المزدحم بالكلمات والحكايات والذكريات، مراكب الشراع المحبوسة في قلب النهر تحوم فوقها طيورُ الماء، لم تُلقِ رباب نحو بائع المتاهة أي التفاتة، وخِلتها تحاول أن تتوارى منه؛ فقد خمنت أنه يحتفظ بوجهها في ذاكرتِه، أكّدتُ لها أنه يمرُّ عليه مئات الناس، وأنه لم ولن يتذكرها، فرفضت تصديقي واستسلمت لنوبة من الخجل، لم تستطع رباب، هي وكل تلك الفتيات اللاتي يجتمعن حولها في الليل، حل لغز المتاهة التي كانت عبارة عن دوائرَ متشابكةٍ، وهناك فأر يقف أول المتاهة، وفي آخرها فأرة جميلة تأخذ زينتها ومعها قطعة من الجبن، يتلخص الحل في كيف يصل الفأر إلى تلك الفأرة! كيف يعبر تلك المتاهة!

لم تجد رباب في تلك الليلة حلاً، وقالت:
- يبدو أني بالغت في تقدير ذكائي.. الحمد لله.

سأشعل سيجارة أخرى، كم سأستهلك من السجائر كي أصل إلى تلك اللحظات الأخيرة، لحظات النصر والضياع، لم تكن رباب قد يئست من حل المتاهة، في المساء أحضرت اللعبة، ورصّت الفتيات حولها، وصنعن دائرة بدون سلمى التي تركتنا في الصباح، فقد عدنا من المحضرات، أمّا هي فكانت لم تعد بعد. الكل كان قد بدا مستيقظًا في تلك الليلة، المشرفة والبنات، ورباب تعيد محاولاتها في حل تلك المتاهة، ولكن أي واحدةٍ منهن لم ترَ ما رأيت، تختلف الرؤية حقًا مِن شخص إلى آخر، على أن الصورة قد تبدلت تمامًا لوهلة غدت سريالية!

تناثرت الألوان، وتشابكت مساراتها، واحتشدت لتشكل أجزاء الصور كيانًا كاملا، لتأخذ لها المِرآة تلك النسخة التي ستصبح في ذاكرتي أبديةً وساكنة، تلك الأبدية وذلك السكون اللذيْن تمنحهما ذاكرة تطِل في المِرآة.

في العاشرة مساءً وصلت سلمى السكن، كانت متربة، فقد ضاعت خطوط الألوان المبهجة التي رسمتها على وجهها وشفتيها في ذلك الصباح البعيد، بدا كأن ترابًا ناعمًا يشكل ملامحها المبعثرة، رثة الثياب وقد كسرت فردة حذائها، فبدت تحجل كغراب. كَبحت مشرِفة السكن النمِرة التي هاجت بداخلها فلزمت الصمت، وامتنعت عن حزمة التهديدات التي كانت تطلِقها في وجهها كلما تأخرت عن موعد السكن، من أنها ستخبر المديرة وسترسل إلى وليّ أمرها، إذ اكتفت في تلك الليلة الغامضة بهزّ رأسِها أسفًا!

دخلت سلمى حجرتها، وألقت بكيانها المثقَل على السرير الأرضي الذي ظل طوال اليوم شاغراً ينتظرها، وطيّرت فردتَي حذائها تحت السرير حتى لا يسألها أحد الفضولين ماذا حدث لحذائك، تناولت مِن دولابها غياراتٍ جديدة غير التي كانت تنتظرها على السرير، جرّت جسدها المثقَل إلى الحمّام، بدا لها دش الماء البارد الذي ينهمر فوقها كمخالب وحشٍ ينشب أظافره في جسدها وروحها معًا، جرفَ الماء معه الغبار ورائحةً نتنة تشع من جسدها، والدماء المتكدسة بين ركبتيها، وعندما فرغت من ارتداء ملابسها كانت موجة شديدة من البرد تطرق جسدها بعنف، ركبت سريرها وقد شدت الأغطية عليها التي لم تحجب عن نظري أمواج البرد التي تتقافزها، ربما حاولت ذاكرتها أن تسترجع ما حدث لها، فقد سمِعتها وهي تتمتِم:
- أمامي عمري كله أسترجع فيه ما حدث ببطء وألم.

بينما كانت ضحكات البنات تستبيح كيانها كله، كما لو كانت كوابيس لصور وأصوات أشباح ترقص بداخلها، التفت البنات حول رباب التي هتفت وجدتُها، وهي في ذلك تحاكي فرحة نيوتن باكتشاف الجاذبية، بعدما استماتت في تجريب كل الحلول لحل لعبة المتاهة، قالت رباب متمثلة العبقرية:
- إليكن عزيزاتي حل المتاهة، أريد بعد الجهد والنتيجة التي توصلت لها تصفيقًا حارّاً.

قالت رباب وهي تواري ضحكاتِها:
- بالحب ستفتح الفأرة الطريق للفأر ليلتهمهما معًا، الجبنة والفأرة! وضجت الحجرة بالضحك، وانهالت على رباب الوسائد.

أخذ النوم سلمى، فلم يكن يُسمَع منها غير أصوات أنفاسها المرتفعة تتخللها بضع آهاتٍ مكتومة. هاجم شعاع الشمس الستائر، وفجأة فرت تلك الانعكاسات، هربت معها سلمى وهي ملفوفة في أغطيتها طاويةً صوت الأنين، لا أدري أين ذابت أدخنتي التي رافقتني طوال الليل، ثمة أشياء ترحل لا ندري إلى أين!

لقد احتضرت سجائري، وفرغت علبتي تماماً!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها