مَدينة هَرَر الإثيوبية.. عَبق التَاريخ وَذَاكرة المكان

د. محمد أحمد عبد الرحمن عنب



تُعتبر إِثيوبيا إحدى أَشهر وَأكبر دِول القَارة الإِفريقية التي تَمتلك تَاريخًا قديمًا وَحَضارةً عَريقة، وتَضم عَددًا مِن المُدن التَاريخية القَديمة؛ وَتُعد هَرَر Harar وَاحدة مِن أَهمّ هَذه المُدن التي تَتميّز بِمَوقعها الجُغرافي المُتميّز وَالذي سَمح لَها بِأنْ تَكون مَركزًا تجاريًا مُهمًا وَمِنبرًا ثَقافيًا لِنَشر الإِسلام بِشَرق إِفريقيا، وتَمتلك هَرر عَددًا مِن المَعالم الحَضارية وَالثّقافية المُتنوّعة جَعلتها مِن أَهم مَراكز الجَذب السِياحي بِإِثيوبيا، وَنظرًا لأهميتها الكَبيرة فَقد سَجلتها اليُونسكو ضِمن قَائمة التُراث الثَقافي العَالمي.

 

المَوقع الجُغرافي وَالتسمية

تَقع هَرر بِأَقصى الجَنوب الشَرقي مِن إِثيوبيا، حيث تَقع عَلى بُعد 525 كم تَقريبًا شَرق العَاصمة أديس أبابا بِطَريق يَمتد مِن المَدينة اتجاه الأَراضي الصُومالية، في هَيئة مُثلث يَمتد أَضلاعه وَيَستند عِند مَدينتي زَيلع وَبَربرة، أمّا عَن سَبب تَسميتها؛ فيُرجع المُؤرخون ذَلك نِسبةً لِلقَبيلة المُؤسِّسة لَها وهي (قَبيلة هَرر)؛ إحدى القَبائل العَربية مِن عَرب حَضرموت، وَالذين هَاجروا مِن الجَزيرة العَربية بِالتَزامن مَع ظُهور الإِسلام واستقروا بِهذه المنطقة.
 

تَاريخ مَدينة هَرر

تُعتبر هَرر مِن أَقدم المُدن الإِثيوبية، وَيَرجع تَاريخ تَأسيسها لِحَوالي القَرن السَابع بَعد المِيلاد، وَهي إحدى أَهم مَراكز الثَقافة الإِسلامية بِإِثيوبيا؛ فَهي تَتميّز بِتَاريخها الإِسلامي العَريق فَقد دَخلها الإِسلام عَن طَريق مِيناء زَيلع الصُومالي عَن طَريق التجار المُسلمين، وَتُفيد المَصادر التاريخية أَن مَملكة هَرر بَدأت تَحكم نَفسها كَحُكومة مُستقلة عَن إِثيوبيا مُنذ ق9هـ/15م وَقد تَوالى على حُكمها أَكثر مِن (72) أَميراً، وَقد احتلتها مِصر عَام 1875م، ثُم استقلت مَرة أُخرى عام 1885م، وَأخيرًا انضمت هَرر لإثيوبيا وَفَقدت استقلالها؛ وَذلك عِندما شَنّ الإِمبراطور مِينليك الثَاني الذي كان يَحكم وَسط إثيوبيا هُجومًا عَليها، وَهَزم أَميرها عبد الله بن محمد في مَعركة شنغلو.
 

أَهميتها الحَضارية وَالتَاريخية

تّتمتع هَرر بِمَكانةٍ حَضارية كَبيرة نَظرًا لِمَوقعها الجُغرافي المُميّز بِشَرق إِفريقيا، جَعل مِنها مَركزًا تجاريًا كَبيرًا يَربط طُرق التِجارة مَع بَقية مُدن إثيوبيا وَمِنطقة القَرن الإِفريقي بِسَاحل البَحر الأَحمر وَالجَزيرة العَربية، وَقد أُعجب بها المُستشرق البِريطاني رِيتشارد بِيرتون Richard Burton (1821-1890م) الذي زَارها عَام 1854م، وَذَكرها في عُنوان كِتابه الذي حَرّره عَنها بِاسم (اكتشاف هَرر أو الخُطوات الأُولى في شَرق إفريقيا)؛ وَيَدل هَذا عَلى أَهمية مَوقعها وَمَكانتها الحَضارية وَتُراثها الثَقافي.

كَما سَاعدها مَوقعها في أن تَكون أَحد المَنابر الثَقافية لِنَشر وَتَطوير العُلوم الإِسلامية؛ فَكَانت مَركزًا لِلدِراسات الإِسلامية بِمنطقة القَرن الإِفريقي، كَما تَتميّز هَرر بِمَوروثها الحَضاري والمِعماري الأَصيل وَبِكثرة مُنشآتها الحَضارية وَخَاصة المَساجد؛ وَالذي وَصل عَددها لِما يَزيد عن ثَمانين مَسجداً.

هَرر.. تَخطيطٌ مُميّز وَتَنوّعٌ مِعماري

تَتميّز هَرر بِتَخطيطٍ مِعماري مُميّز؛ وهي مَدينة مُحصَّنة وَيُحيط بِها سُورٌ كَبير مَبني مِن الحِجارة وَالّلبِن، ويَصل ارتفاعه إلى 4م وَيُعرف بـ"جُقال Jugal"، وقد بَناه الأَمير نُور الدين مُجاهد في ق10هـ/16م، وَيُشكّل هَذا السُور عُنصرًا دِفاعيًا مُهمًا لِلمدينة، وَيُدعِّمه عَددٌ مِن الأَبراج الِدفاعية.

ويَفتح في هَذا السُور خَمسة أَبواب، وَلكل بَاب اسم خَاص لَه دَلالته التاريخية وَهَذه البَوابات هِي؛ البَوابة الغَربية المَعروفة بِبَاب النَصر، وَالجَنوبية بَاب بَدر أو بَاب الحَكيم، وَالشَرقية بَاب الرحمة، وَالشَمالية بَاب زَيلع، وَتَمّ إضافة بَوابة حَديثة يَعلوها صُورة لِلأمير عبد الله بن محمد، وَيُعتبر سور هرر وبواباته رَمزًا تَاريخيًا ومَصدر فَخر وَاعتزاز لِلهَررين؛ حيث سَاعد في الحِفاظ عَلى هُوية هَرر وتُراثها الحَضاري.

ويَتميز التَصميم الدَاخلي لِلمَدينة بِالأَزقة الضيقة وَالتي تَتوزّع حَولها المُنشآت في تَناسقٍ بَديع، وَيَجمع طِراز البِناء الهَرري بين الفَن الإِسلامي وَالإِفريقي مَع الاحتفاظ بِسِماتٍ مَحلية سَاحرة، ومِن أشهر مُنشآتها الأَثرية المَساجد بالإضافة لِقُبور الأَولياء وَالصَالحين الكَثيرة وَلِذلك تُعرف هَرر بـ(ِمَدينة الأَولياء)، فَضلاً عَن المَنازل التَقليدية والتي تتميّز بِتَصميمها الدَاخلي وَبِزخارفها التَقليدية الرَائعة، وَتتميّز مُعظم مَباني هَرر بِأَنّها مَطلية بِالأَلوان الزَاهية وَالتي تُضفى عَلى المَدينة طَابع البَهجة، وتَبعث في النّفس الراحة والسُرور.

هَرر.. مَوروثٌ مَحلي أَصيل

تَمتلك هَرر بِجانب التُراث المِعماري الفَريد، مَوروثًا ثَقافيًا مِن الحِرف اليَدوية التَقليدية وَالعَادات وَالتَقاليد التي يَعتز بِها الهَرريون، وَاشتُهرت هَرر بِصِناعة السِلال وَالقُبعات مِن قَصب السُكر، وَصِناعة المَنسوجات اليَدوية، وَالأَواني وَالأَدوات المَنزلية، وَالحُلي التَقليدية وَالمُصنّعة مِن الذَهب وَالفِضة وَالأَحجار الكَريمة، وَيَحرص أَهل هَرر بِتَزيين جُدران مَنازلهم بِمُختلف المُنتجات التَقليدية التي يُصنّعوها.
 

كَما تَشتهر هَرر بِمَزارع البُن المُميّز؛ الذي يُعد مِن أَشهر أَنواع البُن وَأَكثرها استهلاكًا بِدُول الخَليج العَربي، كَما تَشتهر بِنَبات القَات؛ وَالذي يَنمو في إثيوبيا وَاليمن بِشَكل خَاص، وَتَزدهر أَسواق القَات في هَرر، وَلِلهَررين تَقاليد عَريقة في تَناوله؛ حيث تُؤخذ أَوراق القَات وَيَتم مَضغها وَبَلعها.

ولقد كَان لِلمَرأة الهَررية حُضورٌ قَويّ وَفَعّال؛ فَقد حَملت عَلى عَاتقها مَسؤولية الحِفاظ عَلى التُراث التَقليدي وَإحياء الهَوية الهَررية، فَقد امتهن غَالبية النِساء الهَرريات الحِرف اليَدوية، هَذا فَضلاً عَن الطُقوس وَالعَادات الهَررية القَديمة والتي كَانوا حَريصين على إِحيائها في المُناسبات الخَاصة كَالزِفاف وَالعَزاء وَالاحتفلات الدِينية، كَما أَنّ ملابسهم التَقليدية المُلوّنة في حَد ذَاتها تُمثّل انعكاسًا مُباشرًا للِثقافة وَالهُوية الهَررية.

كما اهتموا بِالمُحافظة عَلى تُراثهم الحَضاري، وَيُعتبر السيد شَريف عبد الله أَحد أشهر الهَررين المُهتمين بَالتُراث الهَرري، وَقد شَيّد متحفًا خَاصًا جَمع بِه كُل المُخلّفات المَادية وَالتُحف التَطبيقية لِلمَدينة عَلى مَر العُصور، ويُشكّل هَذا المُتحف مَعلمًا بَارزًا لكل زُوار مَدينة هَرر، وَيَتكون مِن طَابقين ويَضم عَددًا كَبيرًا مِن المَخطوطات وَالكُتب والنُقود القَديمة وَنُسخ نَادرة لِلقُرآن الكَريم، وَغَيرها مِن مُختلف مُنتجات الفُنون التَطبيقية وَالشَعبية الأُخرى.


داخل مركز آرثر رامبو


كَما أَنّ مِن أَهم المَراكز الثَقافية في هرر؛ مَركز الشَاعر الفَرنسي آَرثر رِيمبو الثَقافي، والذي افتتح عام 2000م، وهو يُنسب لِلشَاعر الفِرنسي آَرثر رِيمبوArthur Rimbaud(1854-1891م)؛ وَالذي قَدم إلى هَرر وَعَمل بِالتِجارة وَكَتب بِها بَعضًا مِن إنتاجه الأَدبي، وَقد شيّد هَذا المَركز أَحد التجار الهُنود أَوائل القَرن العِشرين المِيلادي، ويَتكون المَركز مِن طَابقين وَيَضم نَماذج مُتنوّعة لِلتُراث الهَرري، وبه مَكتبةٌ كَبيرة تَتوسطها لَوحة تَحتوي عَلى جَميع أَسماء حُكام هَرر المُسلمين، ويَضم الطَابق العُلوي صُورًا فُوتوغرافية لِلحَياة الاجتماعية لِلمُجتمع الهَرري مُنذ 100عام.


أكبر مسجد في هَرَرْ (يتسع لـ 4000 شخص)


وَتُعد هَرر مِثالاً رَائعًا لِلتَعايش والتسامح؛ إِذ تَعيش فِيها قَوميات مُختلفة فِي مَحبةٍ وَوِئام، فَيعيش فِيها المُسلمون وَالمِسيحيون جَنبًا لجَنب، وَيتجاور فيها المَسجد مَع الكَنيسة، كَما تَتنوّع اللغات التي يَتحدث بِها أهلها؛ فَيَتحدث أَهلها اللغة الأَمهرية بِالإضافة لِلغة العَربية وَلغة الأُومو وَالتيقريو الصُومالية، وَامتد التّعايش وَالسَلام بِهَرر حَتى مَع الحَيوانات المُفترسة؛ فقد اشتُهرت هَرر بوُجود الضِباع بِها بَكثرة، وَقد كَان مِن هوايات سُكان هَرر إِطعام هَذه الضِباع في ودٍ وَأُلفة، وأصبحت طُقوس إِطعام الضِباع مُتوارثة في هَرر مُنذ آلآف السِنين، وَلِذلك عُرفت هَرر بِاسم (مَدينة الضِباع).

وَخُلاصة القَول؛ فِإِنّ هَرر تَمتلك مَوروثًا حَضاريًا عَريقًا، وتتميّز بِتَنوّعٍ دِيموغرافي وَثَقافي رَائع جَعلها ذَات خُصوصية فَريدة، وَأصبحت مِن أَشهر المَناطق التُراثية وَالمَزارات السِياحية في أثيوبيا التي تَفوح بِعَبق التَاريخ وَالحَضارة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها