السّوقُ الكبير

ماجد حسن سلام

الضوءُ شَحيحٌ وَاللَّيلُ يَطولُ بنا في قريتنا الصغيرة، ابتهالاتُ صلاةِ الْفَجرِ تَهُزُّ سَمعي أُقاوِمُ سلطانَ النَّومِ وأنهضُ أتَوضأ وأُصلِّي.. إنَّه يومُ الجُمعةِ موعد السُّوق الكبير.

تستيقظُ أمِّي فتقلِّبُ أبي الممدد على فراشه بوجهه الشَّاحبِ وعينيه الغائرتين، ثلاثُ سنواتٍ انقضت من عمره والمرضُ يصارعه، أثمرَ كفاحه عن بيتٍ من طابقٍ واحدٍ يقعُ بأطرافِ القريةِ مؤلف من حُجرتينِ. تزوج أبي من أمي فرزقهما الله من البنين أنا "عبد الله" ومن البنات أختي "زينب" التي تصغرني بأربعةِ أعوامٍ، هي أحب من فينا إلى قلبه تملأ حياتنا بالبهجة والحب وروح الحياة، متفوقةً في دراستها ترتيبها جاء الأول على الصف الخامس من المرحلة الابتدائية هذا العام، يقولون عني إنني ورثتُ عن أبي نحافته وطول قامته وبشرتة الداكنة فالشبه بيننا كبير، وورثتْ زينب عن أمي قصر قامتها وبشرتها البيضاء وملامحها الجميلة، وأخذت خفة حركتها ونشاطها وتعلمت منها الطبخ وأعمال البيت، بيتنا صغير ودافئ تفوح بين أرجائه رائحة دخان فرن أمي الطيني المختلطة برائحة طواجن الخضار والأرز والبطاطا الساخنة.

ذاتَ عشاءٍ لم يأت أبي، تأخر كثيراً على غير عادته، تتسمر أمي في النافذة لتسأل عنه العائدين من المدينة وتوصي به الذاهبين إليها.. منتصف الليل والقلق يفترسها والحيرة تشتتنا، تختلق لنا أسباباً لغيابه كي تطمئننا، نتناول عشاءنا ويغلبنا النعاس فننام وتسهر وحدها يجلب لها التفكير ما شاء من الظنون.

في تلكَ اللَّيلةِ وَقبلَ أنْ يَستيقظَ أهْلُ القَريةِ لِصَلاةِ الفجرِ أيقظنا صراخُ أُمِّي.. تأملتُ في وجوه أشخاصٍ لا أعرفهم وهم يعاونون الحاج محمود زيدان البقال، والشَّيخ سيد المأمون إمام المسجد في نقل أبي من سيارةِ أُجْرةٍ كَانت محشورةً في حارتنا الضَّيقة إلى حجرته ثُمَّ دثروه بلحافه القُطني، تسألهم أُمِّي عما حدث وهي تبكي مذعورةً فيسردون حكايتة باختصار.. سقط أبي من الدور الرابع في منور البناية الَّتي كانوا يقومون بالعمل فيها، وجاءونا به بعد الاسعافات الأولية بالمستشفى.

يتوافدُ علينا الزائرون من الأقارب والجيران للاطمئنان والسؤال، ونحكي لهم فيصفون لنا الأطباء والمتخصصين ويذهب بعضهم معنا لمساعدتنا ولكن بلا جدوى.

يَعُودُ كُلُّ شيءٍ حولنا إلى مساره الطبيعي ووحده أبي يرقدُ عاجزاً، أُسنده على صَدري حتى ينتهي من طعامه، نحمله أنا وزينب مع أمِّي لقضاء حاجته، ثم أُمدده على فراشه وهو يتأوه، يشدُّ على كتفينا والدموع تترقرق في مقلتيه، نُقبل يَديه ونتركه ونخرج.

لم يَعُد كُلُّ شيءٍ إلى ما كان عليه، سكن الحُزن بيتنا، تكدَّرَ وجهُ أُمِّي وغابت ضحكةُ أُختي وأثقلنا الاحتياج وانشغلتُ بحلمي.. كرسي متحرك.

أسمعُ أمِّي تَبكي وهي تبثُّ شكواها لله فأفكر في أحوالنا، احتياجاتنا.. متطلباتنا، حاولتُ أن أبحثَ عن عَملٍ في القرية فلم أجد، بمبلغٍ زهيدٍ باعتْ أُمِّي قُرطها الذَّهبي وجلبت لنا شريكاً في البيت من الطيور بأنواعها دجاج وبط وديكة تربيها بهدف بيعها.

زارنا مقاولُ الأنفار الَّذي كان أبي يعملُ معه، وضعَ تحتَ الوسادةِ حفنةً من الجُنيهاتِ بعدما اتَّفقا معاً على أنْ أذهبَ للعملِ معه كعاملِ بناءٍ وأتعلَّمُ الصنعة، غيبني مرض أبي عن مدرستي وزملائي وأيام طفولتي، لكنني سعيدٌ لأني حققت ما تمنيتُ، وصرتُ أذهبُ للعملِ طوالَ أيَّامِ الأسبوع عدا يوم الجمعه. 

في حظيرةِ الطُّيور تحلق أُمِّي معَ زينب على الدجاجات العتيقة لتمسكَ بها وتضعها في القفص، بينما أجمع أنا البيض ثم أقومُ برصه بلطف داخلَ السلة المفروشة بقش الأرز، وفي الآنية الفخارية أرتب قطع الجبن المملح المعد للبيع، يَستقبلنا برد طوبة فيجردنا من حلم الدفء، الظلام ما زال يعسعس في الطرقات، نسير عبر جسر الترعة الممتد بتربته الطينية اللزجة، تتلطخ أحذيتنا البالية وأقدامنا المندسة بداخلها، نمد الخطى وسط المزارعين السارحين لأراضيهم وبين القاصدين نفس وجهتنا. 

السوق مزدحمٌ، تُنزلُ أمي القفصَ من فوق رأسها وتجلس تحت المظلة مستندة إلى الحائط، أقرب بضاعتنا من حافة المرسى، الدجاجات ترفرف بأجنحتها لتجفف ريشها المبتل، الزحام يزداد فأقترب من الشاطئ مترقباً القارب، ألتفت على نهيق حمار بجواري يمتطيه رجل يستعيذ بالله من الشيطان وكلما استدار الحمار لطريق العودة لفه باللجام بعنف وسحبه وهو يلعنه ويسب أهله، ثم يثبت عمامته الصوفية فوق رأسه بضجر.

القاربُ يشق المياه مُسرعاً نحونا يجذبه "عم صلاح"، صاحب المرسى حتى يحاذي الرصيف ويربط الحبل الغليظ في الخشبة، يفرغ حمولته، يتدافعون من حولي للنزول يتقدمهم الرجل بحماره، أنادي أمّي فتسبقني بالنزول لتتناول مني بضاعتنا وتضعها في أرضية القارب، أنظر للخشبة متوتراً فالقارب على وشك الانطلاق، أضعُ السلة لأحملَ قفص الدجاج وأُعطيه لها فيضعه الرجل على ظهر حماره، أستدير مسرعاً لأحمل الآنية فتتعثر قدمي في سلة البيض وتسقط في الماء، أتأملها بحسرة وأنا ألحقُ بالقارب. 

 أندس بينهم مضيقاً حيز مكاني حتى يسعني، أجول بنظري باحثاً عنها فلا أراها جلبابها الأسود يشبه جلابيب الكثير من النساء في القارب، والزحام يحجب رؤيتي لها أعزي نفسي بلقائها عند الوصول للبر الثاني.

 الريح تعصف ثم تمطر بغزارة، الماء يرتفع يكاد أن يصل إلى حواف القارب، نتأرجح بقوة فنمسك ببعضنا، الصبي يضاعف من السرعة ينبهونه وهم يسبونه مستغيثين متوعدين لكنه لايسمع ولا يبالي.

الديكة تصيح والحمار لا يكف عن النهيق أصرخ أدركيني يا أمي! أسمعها تستغيث وهي تقترب مني بحذر تحتضنني مرتجفة، نندفع بعنف نحو قارب آخر في الاتجاه المعاكس، الخوف يتفجر في الأعماق نصطدم فيتفصص القارب ويتخلى عنا، المياه تغمرنا أصرخ مستغيثاً أمِّي يضيع صوتي بين العويل، أتعلق بقطعة من الأخشاب الطافية، المياه تندفع إلى جوفي، تغمرني أقاومها.. المياه ثقيلة من فوقي البحر يبتلعني، كل شيء يموج حولي أثناء سقوطي إلى العمق أسحب لأعلى، تغشي عيني سحابات سوداء.

داخل سيارة الإسعاف أفرغ ما في جوفي، رأسي متصدع يدور بي، الألم يمزق أحشائي والبرد يجمدني، تطفو الفاجعة فوق سطح ذاكرتي أبكي بأنفاس لاهثة، بجواري جثث انتشلوها، أفتش في وجوههم عن وجهها مرعوباً، أرى وجاً أعرفه.. أتذكره إنه "صاحب الحمار" يطلق أنيناً مكتوماً.

تعلق الأنبوب وتصله بوريدي وأنا أسعل بحلق ملتهب، تسألني عن اسمي وتدونه في الاستمارة "عبد الله خميس عسران".
أسألها متوسلاً عن اسم أمي "وفاء عبد الله أبو زيد". 
تمرر عينيها بين السطور.. أتلهف ردها فتخترقني نظرات الشفقة التي في عينيها. 
ماتت أمي.. ابتلعها البحر، ولفظني.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها