تأثير الذكاء الاصطناعي على الإبداع الإنساني

بين التمكين والتهميش

سالي علي



في عصر تتسارع فيه وتيرة التكنولوجيا بشكل غير مسبوق، يفرض الذكاء الاصطناعي AI نفسه كقوة محركة للعديد من مجالات الحياة، ومنها مجال الإبداع الإنساني. لقد أصبح الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية مساعدة، بل شريكاً في صناعة المحتوى الفني والأدبي، مما يثيرُ تساؤلات جوهرية حولَ مصير الإبداع البشري: هل يمكّن الذكاء الاصطناعي الإنسان من توسيع آفاق خياله أمْ يُسهم في تهميش دوره وتقليص مكانته؟ هذا المقال يسعى إلى تحليل هذا التداخل المعقد عبر مقاربة نقدية، تجمع بين البعد التاريخي، والاجتماعي، والفلسفي.

 

أولاً: الإبداع الإنساني عبر العصور

لطالما كان الإبداع البشري انعكاسًا للتجربة الفردية والجماعية، مستندًا إلى الخيال، والثقافة، والمشاعر. فمنذ العصور القديمة أبدع الإنسان في الرسم على جدران الكهوف، وابتكر الأساطير والشعر والموسيقى، كتعبير عن هويته ووجوده. ومع كل ثورة صناعية أو تكنولوجية، كان الإبداع يتخذ أشكالًا جديدة، لكنّه بقي مرتبطًا بالإنسان كفاعل أساسي. غير أنّ الذكاء الاصطناعي اليوم جاء ليعيد تعريف العلاقة بين المبدع وأدواته؛ فقد أصبح بإمكان الخوارزميات توليد لوحات فنية، تأليف مقاطع موسيقية، بل وحتى كتابة القصص والروايات؛ وكما قال الفيلسوف "مارتن هايدغر": "إنّ جوهر التقنية ليس تقنيًا بحتًا، بل يكمن في طريقة كشف الإنسان للعالم"، فإنّ الذكاء الاصطناعي يعكس الآن كيف نعيد اكتشاف حدود الإبداع ذاتها.

ثانيًا: الذكاء الاصطناعي كأداة تمكين للإبداع

لا يمكن إنكار الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في تمكين المبدعين من تجاوز قيودهم التقليدية؛ فقد وفرت أدوات مثل برامج التصميم التوليدي (Generative Design) للفنانين والمصممين إمكانيات لا نهائية لتوليد أفكار وأشكال معقدة يصعب تصورها يدويًا؛ وفي عالم الكتابة تمكّنت منصات مثل  ChatGPT  من مساعدة الكتّاب في تطوير أفكارهم، أو كتابة مسودات أولية تسهّل عليهم عملية الإبداع.

فمثلاً لدينا:
◅ الفن الرقمي، فنان الذكاء الاصطناعي روبوت الرسام (AI Painter) الذي أنتج لوحات بيعت بآلاف الدولارات في مزادات عالمية.
◅ الموسيقى: برنامج  AIVA  الذي يؤلف مقطوعات موسيقية مخصصة للأفلام والألعاب، ولاقى إعجابًا في الأوساط الفنية.
◅ الأدب: رواية The Road التي أُلفت بالتعاون بين الذكاء الاصطناعي والإنسان، مستلهمة من رواية  On the Road  للكاتب جاك كيرواك.

هذه الأمثلة تبرهن على أنّ الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون امتدادًا لأدوات الإنسان، يساعده على اكتشاف طرق جديدة للتعبير والإبداع.

ثالثًا: الذكاء الاصطناعي كعامل تهميش للمبدع الإنساني

رغم الفوائد التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، يظل هناك جانب مظلم لا يمكن تجاهله. إلى أن اعتماد الصناعات الإبداعية على الأتمتة قد يؤدي إلى تهميش المبدعين التقليديين، خاصةً أولئك الذين لا يملكون القدرة على مواكبة هذه التقنيات.

نعطي أمثلة على ذلك:
◅ شركات الإعلانات الكبرى بدأت تعتمد على خوارزميات توليد المحتوى لتصميم حملاتها، مقلصة من فرص المصممين الجدد.
◅ بعضُ دور النشر بدأت تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لتحرير وتعديل النصوص، مما قد يهدّد فرص عمل المحررين التقليديين.
◅ في السينما، يُستخدم الذكاء الاصطناعي لصناعة شخصيات رقمية تحاكي ممثلين حقيقيين، مما يثيرُ تساؤلاتٍ حول مستقبل التمثيل كفنٍ إنساني.

وفي هذا السياق يقول الكاتب جورج أورويل: "كل جيل يتصور نفسه أذكى من الجيل الذي سبقه، وأكثر حكمة من الجيل الذي سيأتي بعده". وربما ينطبق هذا أيضًا على علاقتنا بالتقنية؛ فنحنُ نعتقد بأن أدوات الذكاء الاصطناعي ستظل تحت سيطرتنا، بينما قد تكون في الواقع تسحبُ البساط تدريجيًا من تحت أقدامنا.

رابعًا: مقارنة تاريخية الثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي

عند مقارنة تأثير الذكاء الاصطناعي على الإبداع اليوم بتأثير الثورة الصناعية على الحرف اليدوية، نلاحظ نمطًا متكررًا من القلقِ تجاه فقدان الهوية الإبداعية؛ فكما همّشت الآلات الحرفيين التقليديين في القرن التاسع عشر، يُخشى أن يكرّر الذكاء الاصطناعي هذا السيناريو مع المبدعين الحاليين.

لكنّ الفارق الجوهري أنّ الإبداع كان دومًا مرتبطًا بالروح الإنسانية، بينما الذكاء الاصطناعي يفتقرُ إلى العاطفة والحدس. وهذا ما أشار إليه ألبرت أينشتاين حين قال: "الخيال أهم من المعرفة؛ لأن المعرفة محدودة بينما الخيال يحيط بالعالم"، فهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يمتلك هذا الخيال؟

خامسًا: مستقبل الإبداع بين التعاون والمنافسة

المستقبل قد لا يكون أبيض أو أسود، بل ربما يكون مساحة رمادية يتعايشُ فيها الإبداع البشري مع الإبداع الاصطناعي في إطار من التعاون، قد يصبحُ الذكاء الاصطناعي بمثابة المُلهم أو المساعد، دون أن يحلّ محل المبدع؛ وهنا يظهر التحدي الأكبر، وهو كيف نحافظ على أصالة الإبداع الإنساني في ظل تطور الذكاء الاصطناعي؟

يمكن أن يكون الحل في تعزيز التكامل بين الإنسان والتقنية، وتطوير سياسات تحمي حقوق المبدعين وتضمن استخدامًا أخلاقيًا للتقنيات الحديثة.

لذا يبدو لي أنه سيبقى الذكاء الاصطناعي أداة ذات حدين؛ فهو يمنح المبدعين أدوات غير مسبوقة لتوسيع مداركهم، لكنه يحملُ في طياته خطر تهميش التجربة الإبداعية الإنسانية؛ إنّ المعضلة الحقيقية تكمنُ في كيفية توظيف هذه التقنيات بما يخدم الإنسان ويعزز دوره كمحرك للإبداع، دون أن يصبح مجرد مُشغِّل لآلة، كما قال سقراط: "الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا"، ربما علينا أن نعيد التفكير في علاقتنا بالإبداع والذكاء الاصطناعي، ونسعى لإيجاد توازن يضمن بقاء الفن والفكر من صنع الإنسان، مهما بلغت قوة التقنية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها