يشغل غزو الفضاء كثيرًا من مؤلفي روايات الخيال العلمي، وصُنَّاع السينما. ليس هذا، في اعتقادي، لهدف تجاري فقط، بل لتحقيق تَوْق إنساني قديم ولو عبر الحكاية أو الشاشة. منذ وعى الإنسان لوضعه الفريد في الأرض وهو يتطلع إلى السماء، إلى شمسها اللاهبة، وقمرها المنير، ونجومها البارقة وهو يحلم بالطيران، واختراق الحجب من أجل الوصول إلى مواضع أخرى تبدو له ساحرة في علوها، ومختلفة في سموقها وألوانها. كأنه يربط الارتقاء دائمًا بالصعود من الأسفل إلى الأعلى، حتى كشف له العلم يومًا أن الكواكب والنجوم كلها أفلاك تدور في نظام خاص، وأن المواضع ما بين (أسفل – أعلى) هي أمور نسبية يحددها مكان قدميك، فازداد شغفاً باكتشافها، ومع نشأة السينما تجدد أمله في تجسيد أحلامه وخياله ولو عبر الشاشة الكبيرة. لا ننسى أن أحد أبكر الأفلام في تاريخ العروض السينمائية هو الفيلم الفرنسي الصامت (رحلة إلى الفضاء)، 1902م، من كتابة وإخراج "جورج ملييس".
أصبح هناك مع الزمن قسم خاص بأفلام الفضاء ضمن فئة (الخيال العلمي)، وهي أفلام يسافر أبطالها لاستكناه أسرار الكون، وأضوائه المتفرقة، والغوص في سديمه الملون بحثًا عن أراضٍ أخرى صالحة للعيش، أو للوقوف على سر الحياة. كأن فهم الطبيعة يستدعي رحلة إلى خارج الذات، وكلما كانت تلك الرحلة مغرقة في البعد كلما أعطت نتائج أفضل. على عكس ذلك فإن فهم الذات يتطلب رحلة، لكنها تكون متجهة هذه المرة إلى أعماق الداخل. هناك نوع آخر من تلك الفئة (الفضائية) حيث لا يغادر الإنسان فيها أرضه، بل يأتيه الفضائيون في أطباقهم الطائرة؛ ليتعرفوا به، أو يدرسوه في محاولة إما للسيطرة، أو التآلف والتعايش معًا. اعتمدت بعض هذه الأفلام على نصوص روائية مكتوبة، أو بواسطة سيناريو مباشر للسينما.
اخترتُ في هذا المقال ستة أفلام لعرض رؤية كُتَّابها، ومخرجيها، وقدرتهم على استشراف المستقبل، أو طرحهم الفروض حول أوضاعنا الملتبسة في هذا الكون الكبير، ومحاولة تفسير رموزه أحيانًا بشكل موجز وحسب قراءتي لها.

أول هذه الأفلام هو "2001.. ملحمة الفضاء" (2001: Aspace Odyssey) للمخرج الأمريكي "ستانلي كوبريك"، المأخوذ عن رواية المؤلف الإنجليزي "آرثر سي كلارك". قدم الفيلم رؤية خاصة عن تاريخ البشر ومستقبلهم القادم وسط التكنولوجيا المتطورة. يبدأ الفيلم بمقطع موسيقي لـ"اشتراوس" عنوانه (هكذا تكلم زرادشت)، ثم يتبع السرد السينمائي لقطات متوالية عن نشأة الإنسان البدائي. ترصد اللقطات معيشته الخطرة بين الحيوانات، حتى يهبط من أعلى ذات ليلة عمود مغناطيسي أسود. تستيقظ القبيلة البشرية صباحًا، فتجد بمواجهتها ذلك الشكل الهندسي القائم وهو يبث موجات صوتية غريبة، فيولد الذكاء الأول. هذا الذكاء يُطوِّر قدرات البشر. يلهمهم باستخدام عظام الحيوانات النافقة سلاحًا، ليرتقوا إلى أكلة لحوم الحيوانات بدلًا من الغذاء على الأعشاب والحشرات فقط، ثم تتحول العَظْمة الملقاة عاليًا بيد أحدهم إلى سفينة فضاء، في قفزة سينمائية تعتمد بلاغة المسكوت عنه من الزمن. يشعر الإنسان بالقوة، لكنه لا يدري أنه صَمَّم بيديه وبذكائه تقنية ستحاربه وهي حاسب آلي عملاق، يتكلم ويخطط ويصارع الإنسان. يعد ذلك استشرافًا للمستقبل الآن، فالفيلم الذي أنتج عام 1968م قبل تطور الحاسبات الآلية توقَّع ازدياد قدراتها، وتعدد استخدامها في الحروب، بل وسيطرتها على مستقبل البشر. كان الفضاء بالنسبة للمؤلف والمخرج هو المكان الذي يمدنا بالذكاء والتطور، حين نتطلع إلى الأعلى، فكل مرحلة تنقل من حالة إلى حالة يظهر بها هذا العمود المغناطيسي الغامض، في تقاطع مع رؤية فريدريك نيتشه، ووصفه للإنسان الأعلى.
الفيلم الثاني بعنوان "سولاريس" (Solaris) أخرجه للسينما الروسي "أندريه تاركوفسكي"، 1972م، عن رواية بنفس الاسم للمؤلف البولاندي "ستانيسلاف ليم". هو رؤية جديدة أيضًا للفضاء الخارجي. لا يجد رواد سفينة الفضاء كائنًا خرافيًا، أو عدوًا بالمعنى المتوقع، بل يقابلون محيطًا يتماوج خارج كوكب "سولاريس"، فإذا أمعنوا النظر إليه اكتشفوا حقيقته المفزعة. هذا الوسط الهائل هو كائن حي له تأثيرات خارقة للمألوف على البشر، وماضيهم وذكرياتهم التي أتوا بها من الأرض. إنه يعيد تجسيدها لهم، فيحقق من خلالها رغباتهم الدفينة، ثم يتركهم بعدها نهبًا للألم والارتباك المفزع، حتى يتحولوا إلى الجنون واحدًا وراء الآخر. كأنه يخبرهم أن الكون أشد غموضًا مما يمكن أن تدرسه النظريات العلمية والآلات الفائقة.
الفيلم الثالث هو فيلم "كوكب القردة" (Planet of the APES)، 1968م، المأخوذ عن رواية الفرنسي "بيير بول" وأخرجه للسينما "فرانكلين ج. شافر". تخوض بعثة علمية جريئة مغامرة الوصول لكوكب بعيد جداً، وحين يهبطون عليه يجدونه مطابقًا للأرض، غير أنهم يتفاجؤون بأنه كوكب ثري بالعوامل الحافظة للحياة، لكن تحكمه القرود والغوريلا، فيستعبدون الإنسان لأنه فقد القدرة على الكلام. حين يهرب البطل مع حبيبته يكتشف أن هذا الكوكب ما هو إلا الأرض نفسها، وقد قضوا زمنًا يدورون في الفضاء، ولم يعرفوا أن البشر في صراعاتهم فقدوا كل امتيازهم في التفوق، وارتدوا إلى انحطاط خُلقي جعل القردة أكثر تحضرًا وسيطرة على الأرض منهم. يبدو الفيلم مثل جرس إنذار لخطورة الحروب، والدمار.
هناك قسم ثانٍ من الأعمال كُتبت مباشرة للسينما مثل فيلم "بين النجوم" (Interstellar)، 2014م، سيناريو الأخوين: "جوناثان، وكريستوفر نولان"، وإخراج "كريستوفر نولان"، حيث ترسل وكالة فضائية روادًا لاستكشاف أرضٍ أخرى صالحة للعيش بدلًا من هذه الأرض التي خَرَّبها التلوث المناخي. الجديد في هذا الفيلم هو التركيز على الورطة الوجودية لنا كبشر، حيث يكتشف رواد الفضاء في النهاية أنه لا توجد كائنات عاقلة مثلنا في مكان آخر، وأننا وحدنا من نحمل عبء مسؤولية تطوير الحياة، والحفاظ على استمرارها، ووسط صور باذخة الألوان، وخيال محكم نمضي مع الأبطال نحو البحث عن حل.
الفيلم الخامس بسيناريو مباشر أيضاً للسينما هو "إي . تي" (E . T)، 1982م، كتبت السناريو "ميليسا ماثيسون"، وأخرجه "ستيفن سبيلبرج". هنا يظهر مخلوق فضائي وديع رغم هيئته المخيفة، لكن الصبي "إليوت" الذي يلتقي به لحسن حظ الاثنين لا يبلغ أحدًا بوجوده، ويظل رفيقًا رقيقًا به، حتى ينجح في إعادته إلى مركبته، والسفر مرة أخرى إلى كوكبه البعيد.
أما الفيلم السادس فهو "آفاتار" (Avatar)، 2009م، للسيناريست والمخرج "جيمس كاميرون"، حيث يتحول الفضاء المرعب بكائناته الضخمة والمهولة إلى عالم يوازي الأرض في تنوعها، وصراعاتها ما بين الخير والشر، بل ويضرب مثلًا للتآلف بين كائنات الفضاء العاقلة إلى درجة عالية من الرقة والجمال، ويعالج العجز الذي أصاب بطل الفيلم في الأرض. كأنه بذلك يعالج روحه المهزومة أيضًا، حيث يمنحه الفرصة للانطلاق مرة أخرى بقدمين سليمتين، ونفس متشوقة للمغامرة.
مع ذلك التنوع في الأفلام الستة، وبعيدًا عن أفلام الحروب والغزو الفضائي والأفلام التجارية، نكتشف أن الفضاء ساحة ضخمة، متنوعة الاحتمالات، تُلهم الخيال بعددٍ كبير من الحبكات المختلفة ما بين الصراع والتآلف، وليس الرعب ولا التآمر على البشر عنوانها الوحيد كما نظن، وحتى بامتلاكها أسلحة تفوق ما لدى الإنسان على الأرض فما تصرفاتها إلا انعكاسات لتصرفات الإنسان نفسه في حروبه المدمرة، وميله إلى إثبات ذاته، وإقصاء الآخرين إلى درجة الرغبة أحيانًا في محوهم تمامًا.
خيال المؤلفين ومخرجي السينما إذن لم يبتعد كثيرًا عن إسقاط واقعنا البشري على الكون الخارجي، فإما أن نرى أنفسنا فجأة تحت سيطرة كائنات أكثر تقدمًا، أو تحضرًا، أو أكثر بدائية، أو مخلوقات رهيفة تمد لنا يد الصحبة، ولكل حالة مغزاها ورموزها، لكنني أظن في النهاية أن تلك الصور هي رمز لرؤية الإنسان للمجتمعات الأخرى، والهويات المختلفة عنه، فهو يراها إما قاتلة، أو ذات قيم غير مفهومة، أو بدائية متوحشة، أو يحاول بعضها التآلف مع الآخرين والتعرف عليهم في رغبة إنسانية صادقة.
لنحلم ونتخيل بأقصى طاقتنا، فربما نصل في يوم ما إلى أنه لا فرق بين أن توجد حياة عاقلة على كواكب أخرى سوى في الكم المتاح فقط، أو أن تكون الأرض فريدة وسط الكون كله. النتيجة واحدة: ثمة أصل في الأرض متنوع كالطبيعة ومرايا تعكس سماته في الكواكب والمجرات البعيدة.