المسارح الإسبانية فـي شمـال المغرب

صروح فنية جمعت بين جمالية المبنى والمعنى

محمد العساوي


لقد عرف سكان المغرب المسرح منذ القدم، واهتموا واعتنوا به بشكل من الأشكال، سواء أكان فطرياً أم منظماً، كما شيدوا عدة مسارح واسعة الركح طولا وعرضاً، مبنية بطريقة المدرجات من أجل استيعاب الكثير من المتفرجين، وذلك منذ عهد الحاكم الأمازيغي يوبا الثاني (القرن الأول قبل الميلاد)، الذي أسس مسرحي وليلي (Volubilis) وليكسوس (Lixus)، وألف كتاباً في المسرح والرقص والموسيقى، وأنشأ معاهد للتمثيل الدرامي وتعليم فن المسرح، ومن ثم تعد فكرة تأسيس المنشآت المسرحية بالمغرب ضاربة في جذور التاريخ.


ومع مرور الزمن تكاثرت المسارح بتعاقب الدول والحضارات التي مرت على حكم المغرب، ومن ضمنهم إسبانيا التي شرعت في تشييد مجموعة من المسارح خاصة في شمال المغرب انطلاقاً من منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، غير أن أهم الصروح المسرحية الإسبانية ستبرز انطلاقاً من فرض معاهدة الحماية على المغرب سنة (1912م)، وكانت تخصص هذه المنشآت المسرحية بالدرجة الأولى لاستقطاب الجالية الإسبانية، لاسيما العسكرية منها، للترويح عنها، كما كانت تحضر إلى جانبها فئة من المغاربة الذين كانوا يستمتعون بالعروض المسرحية والفنية والموسيقية والاستعراضية، وقد تركزت هذه النهضة التأسيسية للمسارح الإسبانية في المدن التالية:
 

مدينة تطوان

مسرح الملكة إزابيلا الثانية: بُني سنة (1860م) عقب انتصار الإسبان على الجيش المغربي في حرب تطوان (1859-1860م)، وقد كان هذا المسرح تحفة فنية وجمالية ومعمارية لا مثيل لها في ذلك القرن، وقد استمد اسمه من ملكة إسبانيا "إزابيلا الثانية" (1833-1868م)، وكان بناؤه بمادة الخشب من قبل المهندس المعماري الكبير "لوبي كامارا" (Lopez Camara)، بطاقة استيعابية تصل إلى حوالي (1300) متفرج، كما كان الهدف من تشييد هذا المسرح هو تسلية الجيش الإسباني والترفيه عنه دراميا وفكاهيا وغنائياً، وللإشارة فقد كان أول عمل مسرحي عُرض فيه عنوانه "اللعب بالنار" لمخرجة "غارسيا دلكانو" وتأليف "بربيري"، وذلك بتاريخ (17 أغسطس 1860م).
وهكذا يتضح أن مسرح إزابيلا الثانية قد قام بدور هام في تنشيط الحركة الفنية والأدبية والمسرحية بمدينة تطوان، حيث ساهم لأول مرة، في إطلاع ساكنة تطوان على الفن المسرحي إبداعاً وتشخيصاً واستعراضاً.

مسرح إسبانيول: شيدت هذه المعلمة الفنية سنة (1916م)، حيث كانت تقدم فيها العديد من العروض المسرحية والسينمائية والموسيقية، ومن أهم المسرحيات التي عُرضت فيها نذكر مسرحية "انتصار الحق على الباطل" لمؤلفها الزعيم السياسي المغربي "عبد الخالق الطريس"، وقد قدمتها فرقة من تلاميذ المعهد الحر بتطوان، كما قُدمت بها مسرحية "يد الشر" لفرقة الواحة للتمثيل في سنة (1952م)، وهي من تأليف وإخراج الأستاذ "محمد الدحروش".

مدينة طنجة

مسرح السَّارْسْوْيلا (Zarzuela): تأسس سنة (1897م) وكان يحمل اسم "معهد رفائيل كالبو" (Rafael Calvo)، قبل أن يُحول إلى اسم مسرح السارسويلا بعدما اشتراه السيد "ديغور روميرو"، وقد قدمت في هذا المسرح العديد من العروض المحلية والأجنبية، بيد أنه سرعان ما توقف عن نشاطه الفني لأسباب سياسية.

مسرح الكَازَارْ (Al cazar): بُني هذا المسرح في سنة (1913م) بمواد الخشب، وأدخلت عليه إصلاحات جوهرية، إلى أن أصبح فضاء مناسباً لاستقبال العروض المسرحية، ومن أبرز المسرحيات التي قُدمت به نجد "حاشية فرعون" التي قدمتها فرقة "أنطونيو باسو" (Antonio Paso)، وقد لقيت هذه المسرحية شهرة منقطعة النظير.

مسرح التيبولي (Tivoli): وضع تصميمه المهندس المعماري "روكي ليونيس" في أوائل القرن العشرين، وشهد هذا الصرح الثقافي عدة عروض مسرحية وسمفونية من أعمال بتهوفن، وكان أيضاً يستهو عشاق المسرح من السكان المحليين وكذلك الأجانب، إلا أنه في شهر أكتوبر (1917م)، أي قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بقليل، أصبح ملكاً لجمعية الصداقة الفرنسية التي خصصته للعروض السينمائية تحت اسم (La Bombonera)، غير أنه بعد أيام قليلة من تحويله لفرنسا التهمته النيران، وفيما بعد أقيمت على أطلاله مقهى.

مسرح سيرفانتيس (Cervantes): يعد هذا المبنى من أهم وأكبر المباني المسرحية الإسبانية في المغرب، فقد استغرق تشييده سنتين (1911-1913م)، بكلفة مالية إجمالية بلغت آنذاك نصف مليون بسيطة، وهو من تصميم المهندس المعماري الإسباني "دييغو خيمينيس"، وصُمم هذا الصرح الفني بطريقة بيضاوية الشكل، مثل المسارح الموجودة في إسبانيا، ويضم حوالي (1500) معقد، و(300) كرسي إسفنجي، وشرفات متعددة، ومقاعد خلفية احتياطية للجمهور متوسط الدخل.
 أما الديكور الداخلي للمسرح، فقد وضعه الرسام الإسباني الشهير "فديريكو ريبيرا"، حيث ثبت على جدرانه العديد من اللوحات التشكيلية التي تعود إلى المدرسة الإيطالية في عصر النهضة، الشيء الذي جعل من هذا المسرح آية في الروعة والإتقان، وفيما يخص الواجهة الخارجية، فقد تم تزيينها بواسطة مرآة ضخمة.
 وقد شرع مسرح سيرفانتيس في استقبال العروض المسرحية المحلية والأجنبية رسمياً في سنة (1913م)، حيث احتضن أعمالاً مسرحية خالدة من قبيل: "صلاح الدين الأيوبي"، "مجنون ليلى"، "موسى بن نصير"، "الرشيد والبرامكة"، "كليلة ودمنة".

وبعد حصول المغرب على الاستقلال سنة (1956م) فوضت إسبانيا هذا المسرح للمجلس البلدي لمدينة طنجة من أجل الإشراف عليه وتدبيره، دون منحه لهم بشكل كامل، غير أن هذه المعلمة التاريخية طالها الإهمال والنسيان، شأنها شأن العديد من المسارح في المغرب، لكن وفي إطار مشروع وزارة الثقافة الرامي إلى إعادة تأهيل المسارح بالمغرب، فقد عقدت إسبانيا اتفاقية تعاون مع المغرب سنة (2019م) تخلت بموجبها بشكل رسمي عن مسرح سيرفانتيس، مقابل تعهد المغرب بترميم المبنى بالكامل، مع احترام الهندسة الأصلية، سواء بالواجهة أو من الداخل، وأيضاً إلزام المغرب على إبقاء المسرح باسمه الحالي.

مدينة العرائش

مسرح إسبانيا: ترجع فكرة إنشاء هذا المسرح إلى القنصل الإسباني بالعرائش سنة (1911م) "إيميليو سابيكو" (Emilio Zapico) الذي عمل جاهداً على تحقيق حلمه فأقنع المقاول الإسباني "إيميليو سانشيز بيسكادور" (Emilio Sanchez Pescador)، فأخد هذا الأخير في تشييد هذا الصرح الفني المعماري الرائع بل واحتفظ بملكيته رافضاً بيعه، وظل هذا المسرح قائماً بعد استقلال المغرب، ومبعثاً للفخر بين أبناء المدينة وزوارها خاصة وأنه بُني على الطريقة الإيطالية، حيث رُوعيتْ فيه كل المعايير والمكونات الأساسية والجمالية والتقنية، وقد عُرضت فيه العديد من المسرحيات الشهيرة من قبيل مسرحية "كلنا ظالم ومظلوم" التي قدمتها فرقة الهلال التطوانية بتاريخ: (06 مارس 1953م)، وهي مسرحية اجتماعية من إخراج "محمد النشناش"، كما قدمت فيه فرقة الواحة للتمثيل مسرحيتها المتميزة "الأب النادم".

مدينة القصر الكبير

مسرح بيريث كالدوس (Perez Caldos): عمدت السلطات الاستعمارية الإسبانية إلى بناء مسرح متميز يليق بمدينة القصر الكبير أطلق عليه في البداية اسم مسرح "ألفونسو الثالث عشر" الذي دُشن يوم (22 ماي 1922م)، وأشرف على بنائه أحد المقاولين يدعى "بيريث بيانو"، لكن سرعان ما تم تغيير اسمه إلى "مسرح بيريث كالدوس"، تيمناً بالكاتب والروائي الإسباني الشهير "بينيتو بريث كالدوس"، وقد احتضن هذا المسرح عروضاً متنوعة جلها من إبداع الإسبان، قبل أن ينخرط سكان المدينة في العمل المسرحي، ويؤسسوا فرقاً خاصة محلية، وأضحى هذا المسرح وسيلة هامة لمعالجة العديد من القضايا الاجتماعية والثقافية والدينية والوطنية، كما كان وسيلة للوطنيين من أجل بث الأفكار التحررية، ومجابهة المخططات الاستعمارية ونشر الثقافة العالمة، وبعد انتهاء عهد الحماية الإسبانية استمر المسرح في استقبال العديد من العروض المسرحية المحلية والأجنبية.

مدينة الحسيمة

المسرح الإسباني: عقب تأسيس مدينة الحسيمة سنة (1927م) من قبل السلطات الإسبانية، شرعت هذه الأخيرة في تأسيس فضاء مسرحي أطلق عليه اسم "المسرح الإسباني" الذي كان يتسع لأكثر من (1000) شخص، وقد كان هذا المسرح يستعمل كذلك كفضاء لمباريات الملاكمة والمناسبات الاحتفالية، وبعدما كان يفتح أبوابه كل يوم، أصبح يفتح فقط يومي السبت والأحد في وجه الجنود الإسبان للترويح عنهم عبر مشاهدتهم لعروض مسرحية، لكن هذا الصرح الثقافي سيشهد في سنة (1949م)، تجريد سقفه بسبب الإعصار الذي ضرب المدينة، وبعد استقلال المغرب وبداية عودة السكان الإسبان إلى وطنهم الأم، بدأ إشعاع هذا المسرح في الأفول إلى أن أُغلق نهائياً في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وتحول المكان الذي كان متواجداً فيه إلى بنايات ومحلات تجارية.

مدينة أصيلا

مسرح إسبانيا: شيد هذا الصرح الفني في السنوات الأولى للاحتلال الإسباني للمدينة، حيث تم استغلاله لنشر الثقافة المسرحية بين السكان، وذلك عن طريق عرض العديد من المسرحيات المحلية والأجنبية، كما تم استغلاله كذلك لترفيه وتسلية وتثقيف الجالية الإسبانية المقيمة في مدينة أصيلا، وبذلك شكل هذا الفضاء الوسيلة الوحيدة للترويح عن النفس.


ختاماً يتضح لنا، بأن تشييد المسارح الإسبانية في شمال المغرب خلال القرنين (19م) و(20م)، كان له تأثير بالغ الأهمية في اطّلاع المغاربة على فن المسرح الإسباني وقواعده، وفرقه وأشهر ممثليه، كما ساهمت هذه المسارح في صقل مواهب العديد من الشباب المغاربة الذين سيصبحون نجوم الخشبة بعد حصول البلاد على الاستقلال.

 


المراجع المعتمدة:
- جميل حمداوي، "المسرح المغاربي بين النشأة والتطور"، ط.1، دار الريف للطبع والنشر الإلكتروني، الناظور – تطوان، 2019.
- حسن المنيعي، "أبحاث في المسرح المغربي"، ط.1، منشورات الزمن، المغرب، 2000.
- رضوان أحدادو، "الحركة المسرحية بطنجة"، ط.1، منشورات المهرجان الوطني الثامن والعشرين لمسرح الهواة بطنجة، 1991.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها