الفنان الفرنسي "تيسّو" 1836 ــ 1902

لوحـات فكتورية تتوهج بالحب وتنبض بالحياة

محمد ياسر منصور


في ميناء (نانت) في فرنسا، وفي العام 1836، وُلِدَ الفنان الفرنسي "جايمس تيسّو James Tissot".. الذي استهوَته منذ طفولته المَراكِب في ميناء نانت.. والذي وَرِثَ عن أُمّه التي كانت صانعة قبَّعات نسائية، وعن والده تاجِر المَلابس الكتَّانيّة، خبرتهما الدقيقة في عالَم الأزياء والمجتمع. ولكن طموحه الوحيد كان أن يُصبح رسّاماً. وقبلَ بلوغه العشرين غادَر نانت إلى مدرسة الفن في باريس.
 

عاشَ تيسّو أوائل أيامه من خلال رَسمه لِلخَدَم المحليِّين في مُقابِل أربعين فرنكاً للرَّسم.. إلاَّ أن رسومه للمجتمع الباريسي الراقي جَعلَت الناس يُقبلون عليها. وتمكَّن في العام 1866 من شراء منزل في الحيّ الجديد الأنيق في غابة بولونيا.

ثم كان حِصار باريس عام 1870 في الحرب الفرنسية - البروسية، فَخَدَم تيسّو في الحرس الوطني، وانضمَّ لاحِقاً إلى "الكوميون"؛ أي اللجنة الثورية التي استولت على باريس، ربما لاعتقاده أنه إذا انضمَّ إلى رجال الكوميين سيستثنون منزله في هجومهم على منازل الأغنياء، ولكن خابَ فَألَهُ؛ إذ إنه على إثر هزيمتهم في مواجهة حكومة فرساي عام 1871 سَقَط منهم عشرون ألفاً، ولِكَونه من مُحبِّيهم قرَّر الفَرار إلى لندن.

في لندن -كما في باريس- كان نجاح تيسّو سريعاً. ففي مَعرض الأكاديمية الملكية عام 1872 كانت له لوحتان بين تلك اللوحات التي حَظِيَت بإطراءٍ وتقدير. إحدى اللوحتين (الوداع) ذاعَت شهرتها حتى إنَّ نِسَخاً منها بدأت تُباع سريعاً في كل مكان. وأخذَ البائعون الكبار باللَّون الجديد الذي أَضفاه الرسَّام الفرنسي على المَشاهِد الإنكليزية المألوفة، فبدأوا دَفع (1200) جنيه استرليني للواحدة من لوحاته.

فَرَضَ تيسّو أسعاراً عالية جداً لِلوحاته التي تُشبِع مَيل العصر الفكتوري إلى الرسوم التي تروي قصَّة.. فكانت لوحته المعنونة (باكِراً جداً) حديث الأكاديمية الملكية عام (1873).. والتي يُبرِز فيها بإثارَة حَيرة آنسة ارتكبَتْ خطأً اجتماعياً لا يُمكن الاستهانة به، إذ كانت أوَّل القادمين إلى حفلة اجتماعية راقية.
 عن اللوحة قال جون روسكين -وهو كان أعظم ناقِد فنِّي في لندن آنذاك-: "إنَّها مُجرَّد صورة فوتوغرافية عادية لمجتمع مُبتذَل".

أمَّا لوحته (حفلة راقصة على متن الباخرة)، التي نَبَذها بعض النقَّاد لِكَونها لا تَظهَر فيها أية سيِّدة في جَمعٍ من الصوَر الأُنثوية، فقد هَلَّلَ لها السير (شيفيريل سيتويل)، الناقِد الفني والشاعر، لاحِقاً، على أنَّها: "أحسَن صورة لحياة العصر الاجتماعية".

 لكنَّ المُراقبين استساغوا عموماً الطريقة التي رَسَم بها تيسّو التفاصيل الدقيقة لِقُبّعة سيدة أنيقة، أو لِصَواري مَركب وأشرعته. وقال بَحَّار مُسِنّ بعدما تَمعَّن مدة ساعة في رَسم لِمَنظر على ظَهر مَركَب: "يا لسَعادتي لَو أَقدِر أن أتبيَّن خطأً واحداً في وَضع الأشرعة والصواري".

وفي العام 1873 انتقلَ الفرنسي المتأنِّق الذي تَبعُد صورته كثيراً عن صورة الرسَّام البوهيمي الشائعة التي أَلِفَها الناس، إلى منزل فَخم في سانت جونزوود. وبعد وقت قصير التقى كاتلين نيوتن، السيِّدة الجميلة المطلَّقة من أصل إيرلندي، والتي غَيَّرت طريقة حياته.

 كانت كاتلين ابنة ضابط في الجيش الهندي، أُرسِلَت عام 1871 إلى الهند لِزَواج رُتِّبَ سَلَفاً من إسحاق نيوتن، وهو جرَّاح في الجيش. ولكنها خلال الرحلة وقعت في حُبّ ضابط يُدعى باليستير. أمَّا زواجها من نيوتن فلم يَدُم أكثر من أسبوع رَجعَت بَعده إلى "يوركشاير"، حيث وَضَعَت طفلة. ومن يوركشاير انتقلت وابنتها إلى لندن لتعيش في منزل مُجاوِر لمنزل تيسّو.

سَحَرَت الجارَة الجميلة تيسّو، وبِحَسب "ليليان هارفي"، ابنة أخت كاتلين، جاءَها ذات يوم عارِضاً أن يرسمها، الأمر الذي أَغضَب سيِّدات سانت جونزوود المَعروفات بِوَقارِهنّ. وقِيلَ إنَّ تيسّو أغدَقَ الهدايا على المرأة التي تصغره بثماني عشرة سنة، وقد رَسَمها تكراراً على مدى السنوات السِّت التي تَلَت ذلك. وكانت هناك خمسة رسوم على الأقلّ للسيدة (كاتلين) بين تسعة رسوم اشتركَ بها في معرض (غروسفينور غاليري) عام (1878)، إضافة إلى رسوم إعدادية أخرى للمرأة مع ابنتها ووَلَد صغير.

وقد بَقيَ على حُبِّه الشديد لها إلى حين وفاتها المُبكِّرة المُفجعة بِدَاءٍ في الصَّدر. ويَظهَر دَورها العاطفي في حياته من خلال لوحاته الرائعة التي كانت يوماً حديث الأوساط الفنّية في لندن.

منذ العام 1881 انسابَت الكآبة إلى رسوم تيسّو لـ"كاتلين". ولم تكن تلك حادِثة عابرة، إذ لا بُدَّ أنه أدركَ أن صديقته على طريق الموت بِدَاءٍ في الصَّدر. ولُوحِظَ أنَّ جَمالها في رسومه خلال تلك الفترة كانَ يزداد سِحراً ورِقَّة. وفارَقَت كاتلين الحياة في 9 نوفمبر 1882، ولها من العُمر 28 عاماً.

لم يمضِ أسبوع على وفاتها حتى رَجعَ تيسّو إلى منزله المُفضَّل في باريس وفي نفسه حزن عميق. فحاوَل لفترة التقاط خيوط حياته القديمة وانغمسَ في علاقته مع راقصة بهلوانية. ولم يَذكُر اسم كاتلين مُطلقاً بعد وفاتها، ربَّما شهامَةً منه ورغبةً في المحافظة على سمعَتها.. ولكنَّ ذِكراها بَقيَت حيَّةً لَديه.

منذ العام 1885 بدأ يرسم لوحات ذات طبيعة دينية، وَفَّرَت له ثروة فاقَت كل ما جَناه من رسومه الاجتماعية الراقية والعابثة.

إنَّ سلسلة رسومه الـ(365) عُرِضَت في باريس ولندن، ثم أُرسلَت إلى أمريكا، حيث عُرِضَت وأَمَّنَت له (100) ألف دولار، إضافة إلى ستين ألفاً ثمن لوحات اشتراها متحف (بروكلين). وبعد وفاته عام 1902، وعلى مدى ثلاثين سنة أو أكثر، بَقيَ مُخرجو هوليوود يرجعون إلى لوحاته في إخراجهم أفلاماً بطولية مُستَقاة من العهد القديم.. بينما اعتُبِرَ أن لا قيمة لرسومه اللندنية الرائعة التي لا تُضاهى.

واليوم، تغيَّر ذَوق الجمهور وانتعشَ الاهتمام باللوحات الفكتورية، وتُطبَع نُسَخ من رسوم تيسّو على بطاقات المعايدة وعلى غِلافات الكتب. أمَّا أسعار لوحاته الأصلية فقد بَلَغَت الذَّروة والحَدّ القياسي.

لقد تَرَك تيسّو في لوحاته الفريدة الرائعة ذِكرى خالدة لِعَصرٍ مَضى، وذِكرى حلوة مُرَّة لِقصَّة حُبّ جَعلَت كلَّ رَسم للحبيبة (كاتلين) يتوهَّج وينبض بالحياة.. فيما خَبَتْ أعمال مَن كانوا أعظم منه من الرسَّامين، ودَخَلَت عالَم النسيان.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها