سهير وعقلة التوت

عبدالعليم حريص


دقق (حافظ) النظر مشدوهاً، ليبصر وميض ضوء يتسرب إلى آخر ما تبقى من رؤى عينيه، وهو يقلّب -بأصابع مهتزة قد احتلتها تجاعيد الزمن- مفكرة مغلفة بجلد بني باهت كأيامه، تضم بقايا أوراق غدت صفراء شاحبة كملاح وجهه وسنوات وهنه وهوانه، بعد رحلة في الحياة لم تكن قصيرة، بالقدر الذي يمكنه من أن يسترجع منها كل ما مرّ به في هذه الدنيا، بعد أن قارب التسعين إلا قليلاً. وهو متكئ على جذع شجرة (توت) تتوسط فناء مدرسة ابتدائية، ولكنه يتذكر جيداً تلك البنت التي لن يكررها الدهر، ولم يكن لها شبيه في القرية، ولا حتى في مجرة درب المتاهة الأبدية، التي احتضنت ميلاد (سهير) لأب مهاجر، وأمّ صبور، وجدة وجد وقورين.

صادف يوم مولدها ذكرى وضع حجر أساس المدرسة الابتدائية، وقتها كان حافظ قد أنهي تعليمه في دار المعلمين، وينتظر التوظيف كباقي أبناء جيله، حتى تبرع عمدة القرية بقطعة أرض كبيرة بجوار نهر النيل؛ لتشييد أول مدرسة نظامية في القرية، ودعا لها كبار الشخصيات بالمركز، كرجال الدين ومأذون الناحية، ومدير الجمعية الزراعية، وموظف البريد وطبيب الوحدة الصحية، وضابط النقطة ومأمور المركز، ووجهاء القرية والقرى المجاورة. تزامن ذلك مع زيارة المحافظ الذي لبى دعوة العمدة، لوضع حجر الأساس، وبينما يحفر العمال الأساسات، غرس حافظ في فناء المدرسة فرعاً لشجرة توت. وجده خلف بيت سهير حينما كان قاصداً مكان المدرسة، التي تتوسط القرية تقريباً. ولمّا كان الجميع مشغولين بالعمل، كان حافظ يغرس (عقلة التوت) في وسط المكان المخصص لفناء المدرسة. بعد أن ضج الأهالي شكاية، من إرسال أبنائهم لمدرسة مجاورة في حضن الجبل الغربي المطل على كافة القرى، وقتها لم تكن الفتيات يذهبن إلى المدرسة. فقد كان (شيخ البلد) يبلغ الإدارة التعليمية بأنها توفيت. ولا مانع من استخراج شهادة وفاة لها، وكأن الجميع قد ارتضوا هذا المصير لبناتهم، وما إن يحين زواج إحداهن المبكر، يستخرجون لها شهادة ميلاد من خلال (تسنينها) من قبل موظف الصحة نفسه، الذي أخرج لها شهادة وفاة مسبقاً.

ولما تشجع العمدة للفكرة، وجرى التنفيذ بجهود أهلية، وذبحت الذبائح، وامتلأت الساحة بصواني المأكولات وأباريق الشاي. كانت أم سهير تضع حملها الأول، بعد أن هجر والدها القرية لضيق ذات اليد، تاركاً زوجه وفي بطنها حملها، ووالدته ووالده، ومضى بلا رجعة. وقتها لم يكن هناك وسيلة للتواصل سوى الخطابات البريدية، فقد توجه إلى ليبيا، ومنها انتقل إلى تونس أو المغرب، أو ربّما إسبانيا، وانقطعت أخباره.

وبينما حافظ يسقي فرع التوت لينمو، كانت سهير على مقربة منه تشق طريقها من رحم أمها إلى الأرض، لامس أنفها الدقيق الهواء صرخت، فصاح معها النسوة فرحاً، وتعالت الزغاريد في البيت، وقتها تفاءل الجميع بقدومها، وحافظ كان الأكثر تفاؤلاً، فإن نمت هذه التوتة سيطلق عليها (توتة سهير)، تبركاً بقدومها، ووضع حجر الأساس لأول مدرسة ابتدائية في القرية.

ومضت الأيام حتى قاربت سهير عمر السابعة، واكتملت المدرسة، وعين حافظ ناظراً لها. وتقدم الجميع للالتحاق بالصفوف الدراسية، وعاد الأبناء إلى قريتهم؛ ليستكملوا تعليمهم، وقتها طلب حافظ من العمدة السماح للبنات بالتعليم، فإنهن الآن بين أهلهن، وخطب إمام الجامع في الناس، بأنه من الظلم وأد بناتنا أحياءً بحرمانهن من نعمة التعليم. ولكن وبرغم كل هذه المناشدات...! لم يتقدم أي ولي أمر بإلحاق ابنته بالمدرسة، حتى حدثت المعجزة التي ينتظرها حافظ، وجاء جدّ سهير بشهادة ميلادها، لتكون أول بنت تكسر قيد الأسر، وعرف القرية ومزامير جهلها. وبدأت الدراسة، وكانت شجرة التوت تزين فناء المدرسة، تلك التوتة البلدية الحمراء، المخضرة طوال العام إلا قليلاً. وقد جلب حافظ جوارها أقفاصاً لتربية يرقات دود القز لإنتاج الحرير، والتي ستحلق بعد إكمال دورة حياتها كفراشات ذات ألوان مبهجة في سماء القرية. ونمت تجارة الحرير في القرية، حتى صار الجميع يعرفونها بقرية الحرير، وما لبث إلا أن أشاع حافظ سر شجرة التوت وميلاد سهير، حتى عُرف الحرير المستخرج من اليرقات المجاورة للمدرسة بحرير سهير، فذاع الخبر في الأقطار واغتنت القرية بعد فقر، إلا أن القدر كان له رأي آخر...!

كانت المدرسة كلها تحتفي بقدوم سهير إليها كل صباح، فهي الأنثى الوحيدة هنا، حتى إن شجرة التوت كانت تثمر أكثر من ذي قبل بعد أن جاورتها صاحبتها، وسميت على اسمها الشجرة والحرير والفراشات. فقد أطلقوا على فراشات القرية المتحولة من يرقات القز، بفراشات سهير، وتعلقت القلوب بتلك الطفلة الندية البهية الغضة البضة، فهي ملاك القرية، وعنوان تحضرها عن باقي القرى..

فوجه سهير حين يضيء، تشرق الشمس، وحين تبسم تبتهج النفس، وتتراقص الأغصان فرحة بقدوم براءة الكون، وطهر العالم، صوب شجرة التوت المطلة على ضفاف النهر القديم قدم الكون، الذي لا يبعد عن فناء المدرسة مقدار ربع فرسخ. إلا أن الموت كان يحوط عليها، ويظللها أينما حلت أو ارتحلت، فهي الفطنة اللماحة، المليحة ذات العينين العسليتين المبهجتين تلمعان كقناديل العيد على وجه استدار كقمر ليلة شتوية غير ذي صر ولا حرّ، فهي ربيعية الأنسام مذ عرفتها القرية وسهير تبهر الجميع بطلعتها، حتى لقبوها من عظم حسنها وتأدبها بأنها (بنت موت) إلى أن اختطفها الموت حقاً وهي في الحادية عشرة من عمرها الزهري.

رحلت سهير، بعد أن عاد والدها المهاجر بأيام، فقد أصيبت وفق رأي العجائز وموظف الصحة بـ(الحصبة) ولم تتحمل مضاعفاتها، ومذ يومها أخرج الجميع بناتهم إلى المدرسة على أمل أن يلحقن بسهير، ما دامت المدرسة تقضي عليهن، ولكن هذا لم يحدث، فلم يكن هنالك حصبة ولا حتى وعكة، فقد تسممت بيد والدها، خشية أن تجلب له العار، بعد أن سمع بحرير سهير، الذي يجلب من قرية مصرية تطلّ على النيل، ولما تيقن من الأمر عقد العزم، وعاد كرهاً إلى القرية؛ لينفذ ما يرضي كينونته القبلية..

ولكن الآن صارت القرية من أكثر قرى المحافظة تعليماً للبنات، وأطلق اسم سهير على المدرسة الابتدائية، وما زالت شجرة التوت تقف هنالك باسقة، بلا أوراق ولا يرقات حرير، واختفت فراشات سهير أيضاً من سماء القرية، فقد هاجر الجميع مع صاحبتهم، في رحلتها الأبدية إلى العالم الآخر، وتحولت سهير أيضاً كيرقات دود القز إلى فراشة بيضاء كروحها، وطارت بعيداً عنّا، واختارت مصيرها الذي لا شك أرحم وأرفق بها، مما حاق بها بيننا.

وما زال جذع شجرة التوت وفروعها الخاوية من أوراقها مشرعة، تشهد على فصول الحكاية، في حين انحنى ظهر حافظ، بعد أن بلغ من العمر عتياً، وهو يقلب مفكرة في يده دوّن فيها ذات يوم أسماء تلاميذ الصف الأول الابتدائي.. يوم افتتاح المدرسة. وسيظل اسم (سهير) وحده يضيء هذه العتمة الأزلية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها