تقنيات السرد القصصي في مجموعة "صيد قلوب" لسهير الرمحي

د. محمد حسين السماعنة



"صيد قلوب" هي المجموعة القصصية الأولى للكاتبة الأردنية سهير الرمحي، الصادرة عام 2024 عن دار كفاءة المعرفة بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، وتضم أربعين قصةً قصيرة تنوعت موضوعاتها والقضايا التي تشتبك معها، واختلفت في بنائها السردي ولغتها وتقنياتها السردية القصصية المتنوعة المختارة بعناية لتناسب الموقف السردي، ولتحافظ على تماسكها السردي. وهي قصص اعتمدت التكثيف، والحذف، والاختصار، وتعدد حقولها الدلالية، وإشراك المتلقي في بنائها من خلال إثارة تأويلات مختلفة لديه، بمنحه ما يبحث عنه من متعة وتشويق ودهشة وكسر للتوقع، كما أنها في أكثرها تعتمد الجمل القصيرة الموجزة البسيطة في وظائفها السردية والحكائية، مع قصدية الكتابة بلغة شعرية عالية مكثفة موحية في مواضع كثيرة.



وتعتمد سهير الرمحي في مجموعتها القصصية "صيد قلوب" أساسين متينين هما: الفكرة المدهشة وزاوية تناولها، والأسلوب المتكئ على لغة سردية قصصية قريبة من لغة الناس اليومية المطعمة بعبارات عميقة مكثفة موحية، فهي في هذه المجموعة استطاعت أن تضع لقلمها بصمة أسلوبية لغوية خاصة، جعلت البناء السردي ماتعاً شائقاً بخفة دم حرفها وأناقتها في الطرح، ومهارتها في استخدام تقنيات السرد المناسبة للموقف والحدث، واختيار اللغة المناسبة لجعل البناء السردي أكثر جمالًا وإقناعاً؛ فهي تختار موضوعاتها من حياة الرجل اليومية، من البيت والعمل والشارع، من حياة الرجل والمرأة في سعيهما نحو لقمة العيش، ومن علاقاتهما المتنوعة، وعلاقتهما المتشابكة المتقلبة، ومشاعرهما وشخصيتهما ومشكلاتهما في ظل سيطرة الخلل والتشوه الاجتماعي، والتعب، وضيق الوقت، والمادة على العلاقات في الحياة المعاصرة، ومن مظاهر العلاقات المضطربة وآثارها في نفسيتها وفي حياتها. فقد التقطت الكاتبة مشاهد ومواقف من حياة الرجل والمرأة وسلطت عليها الضوء ببناء سردي ماتع ناضج متماسك من زوايا ذكية ماكرة غير متوقعة، وبلغة لطيفة رشيقة تناسب الموقف السردي، وتظهر فيها الشخصية الرئيسة دائماً خفيفة الظل مقبولة العمل والجمل. ولا شك أن طريقة التناول والزوايا التي دخلت منها الكاتبة إلى الموقف أو المشهد قد جعلت متابعة المتلقي للحدث في نصوصها ومشاركته في بنائه سردياً، والكلام عليه أمراً محبباً ومقبولًا ومرغوباً به، وبخاصة أنها تسير في أكثر سردها على مسارين: الحكائية الشفيفة الجذابة، والتزام تقنيات سردية مناسبة لموضوعات القصص وقضاياها التي تشتبك معها، ولشخصياتها التي تعرضها، وللحدث والموقف ليتحقق هدف الكاتبة من جعل قصتها شائقة ماتعة؛ فهي في قصة "اعتذار" تستخدم تقنية الوصف بجمل فعلية ضمن تقنية المنولوج، لترسم بلغة بسيطة فيها شعرية هادئة صوراً كثيرة للزمان وانعكاسه على نفسية بطل القصة، تقول:
"هذا الليل يلف ظلمته حول عينيّ وقلبي، ويلتف حول عنقي، ويحاول إزالة الطرق من أمام عيني … الساعة الآن هي الواحدة صباحاً، وأنا بين أنامله يقلبني بين كفيه وكأني دمية من صوت ولون".

توحد في الفقرة السابقة صوت الكاتبة مع صوت السارد، وهذا دأب الكاتبة في كثير من قصص المجموعة، وهو توحد مقصود لأن طبيعة السرد في القصص وموضوعاته متداخلة مع حياة الأسرة وعلاقات أفرادها في حياتهم اليومية، ولعل السرد بصوت الكاتب أقرب للقارئ وأكثر إقناعاً له لأنه يقربه من الحكي القريب إلى القلب، ونلحظ كذلك اعتماد الكاتبة على الفعل الذي منح الوصف توتراً حركياً أكثر، وروحاً إيحائية أقوى. وهي في القصة تتكئ على تقنيتي الحوار والمنولوج لتطوير الأحداث، ولرسم الشخصية الرئيسة وتحديد ملامحها. وتستخدم كذلك تقنية الحذف لتوفير مساحة فنية لمشاركة المتلقي في البناء السردي، ولتسند تقنية الوصف المعتمدة على اللغة الشعرية الماتعة التي فيها تكثيف وتكثيف شديد، واختصار وإيجاز موحٍ، وتراوح فيها بين الجملة الفعلية والجملة الاسمية لتناسب الحدث السردي، وما تواجهه الشخصية الرئيسة من مشقة متلازمة مع ما في روحها من صراع. واستخدام تقنية الحوار الخارجي يكاد لا يفارق نصوص هذه المجموعة فهي تقنية حاضرة بقوة فيها لتطوير الصراع، ورسم الشخصيات، وتقديم التشويق والمتعة للمتلقي، ولجعل الحدث أكثر قرباً وواقعية وإقناعاً، وهي تبني ذلك كله بلغة عالية شعرية مكثفة أو وصفية حكائية بسيطة تؤدي وظيفتها السردية، أو قد تلين كثيراً حين تجريه بين أفراد العائلة، كما في قولها باللهجة العامية في قصة "الطوفان": "هدي حالك يا بو سليم فش ايشي مستاهل، يعني صحتك بالدنيا، صغرها بتصغر"، وكأنها في استخدامها اللهجة العامية لا تريد أن تصنع فجوة بين الشخصيات ولغتها.

وتستخدم الكاتبة في قصص المجموعة المنولوج الداخلي كثيراً، وهو الذي يمثل صوت النفس في محاكمتها للذات، وبه تنقل الكاتبة للمتلقي بعضاً من الصراع الداخلي النفسي. فهي في قصة "قرار" أدخلت المتلقي في قضية القصة باستخدام المنولوج في بدايتها، تقول: "حبه باغتني بابتسامة خفية! اشتياق يقتل لا نستطيع أن نحتمله"، وفي قصة "تمتمات" تستخدم الكاتبة المنولوج لرسم الشخصية الرئيسة، وتحديد علاقتها مع الشخصيات الثانوية ولتأزيم الصراع الداخلي، فهي تمسك بيدها هدية تذكرها بعلاقة أثرت في حياتها: "وهذه من سلمى حبيبتي ورفيقة دربي، وهذه المطرزة من خالتي عهود، وهذه ممن"؟! وهي في قصة "اعتذار" تجري حوارها العميق مع الذات من بناء حوار مع الليل بلغة شعرية، فيها إيجاز وتكثيف تناسب طبيعة الحوار وما وضع له: "هذا الليل يلف ظلمته حول عيني وقلبي، ويلتف حول عنقي". وتستخدم الكاتبة الحوار الداخلي كثيراً لنقل صورة الصراع النفسي الداخلي الذي تعيشه الشخصيات، فهي تطور الصراع الداخلي في القصة باستخدام لغة منسلة من سردها المليء بالوصف المشبع بحال البطل النفسية، وتستخدم لذلك جملًا وصفية قصيرة لتعبر بصدق عن طبيعة الموقف المتأزم، ولذلك فهي تشرك الزمان والمكان في تأزيم الصراع وتحريك بطل القصة، فهي في قصة "اعتذار" تصف صراعها المتشعب الممتد مع النفس والليل والزمن، تقول: "وتلك الحروف العالقة بوسادتي تحوم بأفكاري كفراشة من نار، وروحي محصورة في شرنقة يابسة جافة، تقمصت دور شهريار، وبدأت أروي حكايتي لليل عله يسحب من أمام عيني بعض اضطراب نبضات قلبي، التي تزاحمت عليها حيرة صفراء وقلق أحمر الوجنتين عله يسمح لفجر أي فجر أن ينتشلني من قلقي فلا تأكلني الحيرة فأنام".

وتقول في وصف أثر الليل فيها: "ويمضي بطيئاً وهو يسير على نبضات قلبي، وعلى أطراف أصابعه، وأنا على عجل".

وأما لغة الوصف فهي في "صيد قلوب" لغة عالية، فيها انزياحات عميقة مدهشة منحتها شعرية هادئة حرصت الكاتبة على نثرها في قصصها في جمل مختصرة مكثفة موحية، تقول في قصة "انتقام الياسمين": "وانتشرت على وجهها أوراق الياسمين، وغطتها ابتسامة عميقة الجذور". وتقول في قصة "لعبة الجسد": "وخاتم الخطبة فاغر فاه وهو يتنفس بصعوبة، وفي فمه حديث طويل عما جرى لصاحبه". وتقول في قصة "الخوف من الحب": عيناها العسليتان جعلتا الشهيق الذي يدخل صدري بقايا نسمات أنفاسها". وتقول في قصة "اعتذار": "تتسلل الحروف على رؤوس أصابعها، وتستقر على سطر، وهناك تغفو". وتطرح الكاتبة في القصة قضية الاعتذار وانعكاساتها على النفس، والصراع الداخلي العميق القبلي والبعدي واللحظي الذي يرافق وشوشات النفس في محاكمتها لقضية الاعتذار، وهي تستخدم تقنية المنولوج لبناء هذا النموذج السردي الصعب في القصة، بمهارة عالية حافظت فيه على تماسك القصة، وعلى سرديتها، وعلى حركة شخصيتها الرئيسة، وبثت فيها ما يلزمها من حياة وتشويق ومتعة سرد، وفنية عالية لنقل الصراع النفسي العميق الذي جرى باستخدام المنولوج.

وتكثر الكاتبة من غمس قلمها في بحر العلاقات الإنسانية باستخدام تقنية المونولوج الداخلي والحوار لتقترب أكثر من مشهد العلاقات الزوجية الفاترة الساكنة، واضطرابات الأنا وتشظيها نتيجة الصدمات، فمن شرفة عيني الزوجة في قصة "أنت أنت" ونظرتها الحزينة المتحسرة، وهي ترى آثار ذوقها وروحها وحبها تذهب لغيرها، وأن كل ما كانت تنتظره من زوجها كان يسيل على مقعد الإهمال وفي حضن غيرها، ولعيني غيرها تبني الكاتبة بالحوار بناءها السردي الذي تصور فيه حال الزوجة ومعاناتها ومشاعرها المضطربة، وما يجول في رأسها من أفكار. وهي تنقل المشهد بعيني الزوجة ولغتها ليجيء مختلطاً مع الحزن والحسرة ليحمل مع كلماتها بعض ما في قلبها من حسرة وقهر: "رأيتهما معاً… جلسا على مقعد في الحديقة الخلفية كانا يبتسمان… كان ينظر إليها كأنها حورية من حوريات البحر اللواتي جنح بهن الموج إلى شاطئ بشري. كان الكهل يعشق نصفيها كليهما البشري المنعش الفاتن الساحر، والبحري المدهش المبرق المشرق السحري، وكنت أنا هناك أسير وحدي تموج بي مشاعري المائجة الهائجة… تائهة كنت فبعض المشاعر كالشموع تختفي في النور". وتتشابه على المقعد أمامها الحروف والمشاعر والضحكات واللمسات: "-هل أعجبك حديثه؟ هو هو، الأحرف نفسها، الوعود نفسها! سيكون رفيقي وسندي حين يتخلى عني الجميع".

وتغوص الكاتبة في وصف الآثار العميقة لذلك المشهد مستخدمة المنولوج: "هل أحببت أناقته؟ بيدي اخترت قميصه الأزرق ورششته بعطر كان هدية زواجنا الخامس والعشرين، هل أحببت قوته ونضارة وجهه"؟ وتجري حوار الزوجة المخلصة مع نفسها في محاكمة داخلية نفسية عميقة للذات، فتسرد فيه تفصيلات يومها وعمرها وحبها وتضحيتها بجمال جسدها، الذي وزعته لهم ليبقوا سعداء، فتتكشف أمامها الخيبات، ويتعرى في نظرات الزوج وتقاسيم وجهه وسلسة ابتساماته على المقعد الخذلان، وهي تستخدم لنقل ذلك الوصفَ المعتمدَ على الجمل الفعلية القصيرة لتبث في النص الحركة التي تعبر عن الاضطراب والرفض، كما تعتمد الجمل الإنشائية الاستفهامية التي تعبر عن حيرة الشخصية الرئيسة وحزنها وانكسار توقعاتها وتثير التساؤلات المقوية للبناء السردي:
"تعجبت، أهو من يقضي الليل بطوله صامتاً شارداً؟ كم انتظرت أن يشاركني أحداث يومه! هل اشتكى لك أنني أهملته؟ أو قصرت بحقه؟ ألم يذكر أنني كنت أربي أولاده، وأعلمهم، واستثمر بهم ليصبحوا سنده؟ هل أخبرك أنني عصبية وكثيرة البكاء؟ وتنهي الكاتبة القصة بهدوء تاركة الخذلان على مقعده، وعيني الزوجة مغروستين للأمام بعزم وتحد تتطلعان للفرج": للأمام كان نظري باتجاه النجمات، دخلت المنزل، وعند البوابة مرآة وخزانة وضعت عليها صورة تجمعنا، نظرت هناك، كم تبدو مثيراً للشفقة، وأنت تحاول أن تتنكر أمام من يفهمك أكثر منك، لن أغفر لك، سأمنع عنك رائحتي".

وفي قصة "حبر على ورق" حركت محفظة الأب المفقودة قضايا عائلية خطيرة منها: مدى اقتراب الأب من أبنائه، ومدى سيطرة القوة على علاقة أفراد الأسرة، والتمييز بين أفراد الأسرة، ومدى قوة الأسرة وتماسكها أمام الاختبارات، فهي تصور ما يحدث لكثير من الأسر من فوضى عظيمة تعم أرجاء المنزل، وما يتخللها من أصوات عالية وهمهمات وغضب، وكلام مفهوم وكلام غير مفهوم من عبارات الملامة والتوبيخ إثر أي صدمة، التي هي في هذه القصة فقدان الأب لمحفظته، وتوتره وغضبه بسبب ذلك، ونقله توتره وغضبه إلى بيته، وصبه على أفراد أسرته، الذين صاروا يفتشون عن وسيلة تخفف عنهم هذا الغضب. وتستخدم الكاتبة الوصف المعتمد على تحليل نفسي لموقف الأب من أفراد الأسرة، ثم تؤكد هذا الموقف، وتنتقده بذكاء باستخدام تقنية الحوار الذي كشف معرفة أفراد الأسرة عن تفضيل الأب لأصغر بناته عليهم: "قبلة على جبين أبي من فمها الباسم الحنون قد يهدئ من غضبه حتى نفهم منه ما حدث ونستطيع مساعدته".

وتبين القصة موقف الزوجة الضعيف في البيت، في إيحاء عميق لمكانة المرأة في الأسرة، ونقد مركز لما يمارس الرجل من تهميش لدور الزوجة في حياة الأسرة حتى في حل مشكلات البيت، وتستخدم الكاتبة تقنية الوصف لتوحي بذلك، كما في اختيارها للفظة تردد في قولها: "فتدخلت أمي بتردد "هدي حالك يا أبو سليم"، واستخدمت أيضاً الحوار ليوحي بذلك، تقول على لسان أحد أفراد الأسرة الذي جعلته مجهولًا ليوحي بأن الأسرة كلها ترى ما يراه: "لا أحد يستطيع مناقشة صوت أبي، لا أحد"!

وتستخدم الكاتبة تقنية الحذف لتشرك القارئ في توقع ردة فعل الزوج على كلام زوجته، فهي لا تذكر رد الزوج على ما قالته الزوجة له تاركة للمتلقي توقعه.

وتكشف قصة "أنت أنت" عن الأساس الواهن الذي بنيت عليه العلاقات في بعض البيوت التي تفتقد حياتها للوضوح والمكاشفة والحب الحقيقي، ففي كل غرفة سر يخفي سلوكاً خاطئاً لا يعرفه الأبوان. وتبدع الكاتبة في نقل مخاوف أفراد الأسرة باستخدام الحوار الداخلي العميق الذي يبني الاحتمالات، ويرسم المخاوف الاجتماعية والعائلية والشخصية؛ إن اكتشف الأب ما في غرف كل واحد منهم من مخالفات:
"ويلي سيرى أبي أعقاب السجائر المخبأة في (جوارير) مكتبي". وكانت هواجس أخيه هي الأخرى لا تقل خوفاً عن خوفه: "فسوف يرى والدي أوراق الامتحان التي خبأتها تحت فراشي". وتكشف القصة عن تشوه عميق في علاقة الزوجين، أدى إلى تشوهات عميقة في علاقة أفراد الأسرة بعضهم ببعض، وأدت قلة دوائر الأمان في هذه الأسرة إلى العمل في الخفاء والسير في طرق خاطئة، حتى وصل الأمر بهم أن يتوتروا هم، وأن يضعوا آمالهم على الفتاة الصغيرة لتخفف توتر الأب.

وفي قصة "عشر دقائق" تتبدى اللغة الشفيفة والسرد اللطيف والتصوير المتقن والإيحاء الراقي في تشكيل القصة، وفي التعامل مع الفكرة والشخوص، وفي إدارة الحوار بنوعيه؛ الداخلي والخارجي، فقد استخدمت فيها الكاتبة الجمل الفعلية الموجزة المختصرة الموحية لتجعل الوصف أكثر حركة وتوتراً، وجعلت فيها السارد يصف حركة الشخصية الرئيسة وصف العارف بها:
"جلسا يحتسيان القهوة، تبادلا أعقاب النظرات، وأطراف الأحاديث، رميا كثيراً من الأسئلة، ونفثا كثيراً من التمنيات ولفاها على عنق أحوال الأولاد وهمومهم ومشكلاتهم ومتطلباتهم".

وتستخدم الكاتبة الجمل الفعلية في وصفها لحال الزوج المتوتر، وكيف أنه صمت بعد تلك السلسلة الطويلة من التشجنات الرقمية اليائسة التي ازدادت حركاتها مع كل فكرة ارتبطت بواحد من الأولاد، وهي تصور استسلامه للواقع وغضبه الشديد مما يجري له، فتجعله ينظر إلى الساحة المطلة على السوق الساكن الصامت، "وكأنه يلقي باللوم على البلد والناس والعالم والأحداث، وكعادته حوقل واستغفر، ثم لاذ إلى الصمت". وترسم الكاتبة من خلال الحوار الداخلي صورة بائسة للمرأة في بيتها، فهي لا تجد الوقت لتنظر في مسار حياتها، لا تجد مكاناً لأحلامها، ولا وقتاً لتعتني بذاتها وروحها فهي دائماً منهكة جسدياً ومشغولة بالاعتناء بغيرها: "كم أتمنى أن أحظى بعشر دقائق فقط. لقد لاحت لي في الأفق فكرة لقصة جديدة". ويشترك السارد في رسم صورتها تلك باندفاع العارف بحالها، المتأثر بما تعانيه، فيرسم صورة لمعاناتها، بل إنه يشارك في الدفاع عنها في تدخل تقني لافت: "وبدأت تكتب قصتها وتتنفس الحروف لئلا تختنق. تحدثت عن الأمهات اللواتي يتخلين عن حقهن بالحياة بدت علامات الغضب على خطوط خطها وعلت بين ضجيج الحروف على السطر صيحات الرفض والاستنكار والدعوة إلى رفض الوضع، وكيف تجد الوقت وهي المهدئ والمنظم والمبشر، والمعالج والأم والزوجة والمدبر، ثم تنتقل الكاتبة بالقصة إلى ساحة أخرى للاشتباك باستخدام الحوار المبني بذكاء وببراعة كيلا يظهر متكلفاً، وهي تستخدم لذلك الجمل القصيرة، واللهجة العامية، وتقترب من الجمل المستخدمة في الحوار الحقيقي، فهي تنقل باستخدام الحوار معاناة الأسرة المادية، وتوحي بمدى ابتعاد أفراد الأسرة عن الأب: "دبرتوا لي قسط الجامعة يا ماما، سينتهي هذا الأسبوع، وينتهي معه الموعد المحدد للدفع"؟

- لا تقلقي يا حبيبتي سأتدبر الأمر قبل نهاية المدة المحددةّ.

والمونولوج وسيلة للهروب من الواقع المر إلى عالم أفضل تبني فيه الشخصية الرئيسة في حديثها مع ذاتها أحلام اليقظة، فحين تعبت الزوجة لجأت للحلم ولنبش الذكريات والماضي لتستريح بين أحضانهما حتى لو كان طفولة لم تكتمل: "فرصة للتفكير… دقائق معدودة هذا كل ما أحتاجه، ولكني لا أحظى بالوقت، كم أشتاق للكتابة، كآبة أن تشعر أن قلمك مزدحم بالحروف".

وتعتمد سهير الرمحي في "صيد قلوب" تقنية اللافتات التي تدعم بها القطع الاسترجاعي، ولكن باستخدام عبارات مكثفة تمر على الشخصية الرئيسة من ذاكرتها، وهي عبارات أقرب ما تكون إلى اللافتات؛ لأنها تجيء في النصوص لغايات ثابتة واضحة تدعم المنولوج، وتعطي الشخصية دفعة لتغيير موقفها أو الثبات عليه، ففي قصة "قرار" تضع الكاتبة لافتة دعمت بها تقنية الوصف تقول: "ثمة رماد معارك طاحنة اختبأت خلف الكلمات" لتمنح المتلقي فرصة لبناء خلفية تاريخية عن الشخصية الرئيسة. وفي قصة "بين وترين" تضع الكاتبة لافتة على لسان الشخصية الرئيسة تدعم بها المنولوج الداخلي المليء بتأنيب الذات، تقول: "قالوا لي يوماً: حافظي على غرابتك، لا شيء أسخف من أن تكون مألوفاً"، وقد تجعل الكاتبة اللافتة واضحة دالة فتشير إليها بأنها لوحة مرت بالذاكرة كما في قصة "صدفة"، حيث تقول لتدعم الحوار النفسي للشخصية الرئيسة بلافتة منبثقة عن القطع الاسترجاعي: "لافتة علقت على جبين الذاكرة مرت من أمامي مسرعة: "هناك أشخاص نحك جبيننا لنتذكر أين رأيناهم، وقد لا نكون التقيناهم من قبل، لعلهم كانوا فينا"، وفي قصة "الطوفان" مرت لوحة من الذاكرة تدعم القطع الاسترجاعي الذي سيبنيه المتلقي لنفسه عن نفسه في أثر الأم وأهميتها، تقول: "لا أحد يشعر بالألم الذي يسير مع نبضاتك أكثر من أمك"، وفي قصة "خارج الخدمة" تدعم الكاتبة الوصف السردي الذي يتحدث عن حال الشخصية الرئيسة – بلافتة تقول: "ما أصعب أن تكون عالقاً بانتظار الجواب"!

وبعد؛ فقد استخدمت سهير الرمحي في "صيد قلوب" تقنيات سردية متنوعة، جعلت النصوص أكثر واقعية وإقناعاً وإمتاعاً وتشويقاً، ومنحت المتلقي ما يطمح إليه من مساحة للتوقع والبنا، وأزعم أنها استطاعت أن تصنع لنفسها بصمة أسلوبية خاصة، سيكون لها شأن في القادم من الأعمال.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها