في مكامير الفَحم!

رحلة مع صانعي الطاقة السوداء من رحم الأشجار

أحمد سليم عوض


بين ضفتي النيل، في أعماق القرى والنجوع المنسية، تُطلِقُ الأرض أنفاسها المحبوسة في أعمدة دخان كثيفة، تصعد لتلطخ جبين السماء بلون رمادي باهت، كحكاية شعبية قديمة تتوارى خلف ضباب الزمن، هذا الدخان ليس مجرد غاز متصاعد، بل هو حكاية طويلة عن مهنة عتيقة، مثقلة بتعب الأجداد، محفورة في ذاكرة الأرض: مهنة صناعة الفحم في "المكامير" هنا، حيث لا مكان للضعفاء، تنبثق نار لا تأكل الخشب فحسب، بل تلتهم معه سنين من العمر وقصصاً من الصبر؛ إنها ليست مجرد نار، بل كونٌ موازٍ تختلط فيه حبات العرق بذرات الدخان، ويصارع الرزق خناجر الخطر، وتنزف الذاكرة الشعبية تاريخاً من الكفاح المسكوت عنه.
 

ووسط هذا المشهد، ترقد المكمورة كقلبٍ نابض تحت التراب، كائن حي ينبض بالأسرار، كومة ضخمة من جذوع الأشجار، تُرصّ كقطع أحجية قديمة بيد حانقة، ثم تُلفّ بجلدة من الطين والتبن، ككفنٍ يَحبس الأنفاس في جوف الأرض، هناك، في القبوة المظلمة والدافئة، تبدأ معجزة التحول الصامت: حيث يستسلم الخشب وقسوته للنار، فيذيب صلبه، وينهار كبرياؤه، ليُبعث من رماده ملكاً أسودَ لامعاً: الفحم، هذا الكنز الأسود الذي سيدفئ البيوت الباردة، ويشوي لحوم المطاعم الفاخرة، ويوقد مواقد المقاهي الصاخبة، حاملاً في كل جمرة منه روح رجلٍ، وعزيمة شعب، وذاكرة أمة. بين أكوام الطين والرماد، لا يقف رجال المكمورة مجرد عمال، بل هم كهنةٌ لحرفة مقدسة، حراسٌ لطقوس عتيقة توارثوها عن الأجداد، أياديهم التي "تسقي" النار بنسمات الهواء، تحمل حكمةً سريةً في تقدير أنفاسها، آذانهم المصقولة بزمنٍ من المعاناة، تسمع أنين الخشب وهو يتحول من صلابة الحياة إلى هشاشة الفحم، وأنوفهم التي تشم رائحة الدخان، تقرأ فيها سطور النهاية وبداية الرزق، كقارئٍ في كتاب نارٍ مفتوح. وجوههم لوحات سوداء رسمتها أنامل الدخان، وملابسهم تحمل عبق الحريق القديم، كأنهم خرجوا من بطن الأرض، لكن عبر هذا القناع الداكن، تشع عيونهم بنور الأمل، معلقة برزق غدٍ لا تعرف شكله، يترقبون ما ستجود به المكمورة بصبر من يعرف أن النار لا تعطي كنوزها إلا لمن يدفع ثمناً من عمره.

فالمكامير ليست مجرد حِرفة أو صناعة؛ إنها ملحمة مصرية مكتوبة بدخان أسود على ورق من رماد، حكاية عن كفاحٍ لا يُرى، وسط دوامات من اللهب، عن رجالٍ ورثوا أسرار النار كما ورثوا خطوط الحزن على وجوه آبائهم، عن قرى كاملة تتعلم كيف تبتلع السواد لتبعث النور، وكيف تموت كل يومٍ قليلاً، كي تستمر الحياة في موائد الغرباء.


العبقرية المصرية: من النار إلى الفولاذ

منذ أن التقط الإنسان الأول على ضفاف النيل شرارة النار الأولى، كانت الأخشاب هي الجسر الذي عبر عليه من برودة الليل إلى دفْء الحضارة، لكن النار كانت تخبئ في جوفها سراً أعظم، لاحظ الأقدمون أن للنار نهماً يمكن ترويضه، فإذا حبست بدهاء تحت طبقات من التراب والطين، ولم تترك لتلتهم الخشب حتى الرماد، فإنها تلد كنزاً أسودَ أصلب وأمضى، إنه الفحم، وهكذا ولدت حكاية صناعة الفحم في مصر، قصةٌ قديمة كالنيل نفسه، تختلط فيها حكمة الفلاحين بأسرار الفراعنة.

وفي صمت المعابد، تحكي النقوش المحفورة على الجدران حكاية الشريك الخفي، فالمصريون القدماء، بعبقرية من لم يكن لديه ما يخسره سوى الظلام، اكتشفوا أن لهيب النار العادي لا يكفي لاختراق صخور المعدن، لكن الفحم، بتوهجه الأسود الخافت، كان قادراً على إذابة صلابَة النحاس والحديد، وتحويلهما إلى أدوات تحفر الأرض وتصنع الحلي وتحمي الحدود، كان الفحم هو العضلات الخفية التي بنت الأدوات، والشاهد الصامت على ولادة الإمبراطوريات، لم يكن مجرد وقود، بل كان شريكاً في كتابة التاريخ على ضفاف النيل، وقوداً للحضارة قبل أن يكون وقوداً للبيوت.

ومع انبلاج فجر العصور الوسطى، انتشرت حرفة الفحم كالنار في الهشيم في ربوع القرى المصرية، حيث برزت "المكامير" التقليدية بوصفها قلوباً نابضة تحت التراب، كانت هذه الأكوام الخشبية تُرص بعناية كقطع أحجية غامضة، ثم تُلف بعناية بجلدة من الطين والتبن، ككفنٍ يخبئ أسرار التحول في جوف الأرض، هناك، في الظلام الدافئ، كان الخشب يتنفس أنفاسه الأخيرة ببطء، ذائباً في بوتقة النار، ليعود ملكاً أسودَ لامعاً هو الفحم، هذا الكنز الأسود أصبح شريان الحياة للنار في البيوت البسيطة، وغذاءً للأفران التي تخبز خبز الحياة، ووقوداً للمقاهي التي تضيء ليالي الساهرين وتنفث أحلامهم بأرجيلة لا تنام.

وفي تلك الأزمنة الغابرة، لم يعد الفحم مجرد وقودٍ للتدفئة، بل تحول إلى عصب للتجارة ودماء الاقتصاد، فالقوافل العظيمة، المحملة بأجولة هذا الذهب الأسود، كانت تشق الدروب الصحراوية الوعرة، كأنها شرايين تربط قلب الريف النابض بجسد المدن المتعطشة، أصبح الفحم مصدر رزقٍ لا ينضب، تتدفق منه قوت الفلاحين والنجارين والحطابين، وكل من شارك في حلقة هذه الصناعة العتيقة، بل إن بعض القرى نسجت هويتها من خيوط الدخان المتصاعد، حتى صارت تُعرف بهذه الحرفة، كأن اسمها أصبح مرادفاً لرائحة الفحم والذكريات المحترقة.

ومع انبلاج فجر القرن التاسع عشر، ودخول مصر عصر التصنيع الحديث، بقي الفحم لاعباً رئيسياً في مسرح الحرف اليدوية البسيطة، قبل أن يبدأ تراجعه البطيء تحت أقدام العملاقين الجديدين، الفحم الحجري والبترول، ومع ذلك، لم تستسلم مكامير الخشب التقليدية، وظلت متمسكة بأرض الريف المصري، تواصل نفث دخانها الرمادي في عناد، كأنها أشباح ترفض مغادرة مسرحها التاريخي.

اليوم، يقف الفحم على حافة الهاوية في مصر، معلقاً بين ماضٍ عريق متجذر في الأعماق، وحاضر مثقل بأعباء البيئة والصحة، فالمكامير التقليدية ما زالت تنبض في قلوب القرى النائية، لكن أنفاسها أصبحت ثقيلة، مثقلة بتهم التلوث والأمراض، وبينما تحاول أيادٍ خفية دفعها نحو الانقراض، واستبدالها بأفران حديثة أكثر رحمة، يظل للفحم سحره القديم وحضوره القوي، ليس فقط في الذاكرة الشعبية التي تحمل عبق ماضيه، ولكن أيضاً في تفاصيل الحياة اليومية التي ألفت دفء وهجه الأسود.

تمر عملية إنتاج الفحم النباتي في المكامير التقليدية المصرية بست مراحل متتالية، تندرج تحت تقنية التحلل الحراري (Pyrolysis) في بيئة شبه خالية من الأكسجين.

المرحلة الأولى: تجميع المادة الخام يتم جمع الأخشاب من أنواع معينة تتميز بكثافتها ومحتواها العالي من الكربون، مثل أشجار الجميز (Ficus sycomorus)، والسنط (Acacia)، والمانجروف (Avicennia marina)، والسرسوع (Balanites aegyptiaca)، كما يُستخدم فائض الأشجار الزراعية من بساتين المانجو والموالح، مما يسهم في إعادة تدوير المخلفات الزراعية.

المرحلة الثانية: الترتيب الهندسي؛ ترتب الأخشاب بشكل دائري أو مخروطي، في تركيب هندسي دقيق يسمح بانتشار الحرارة بشكل متجانس، مع ترك قنوات لمرور الغازات المتصاعدة أثناء عملية الاحتراق.

المرحلة الثالثة: العزل البيئي؛ تُغطى الكومة بطبقة من خليط الطين والتبن، التي تعمل كعازل يمنع تسرب الأكسجين الجوي، مما يخلق بيئة لاهوائية (Anaerobic) ضرورية لعملية التحلل الحراري بدلاً من الاحتراق الكامل.

المرحلة الرابعة: المعالجة الحرارية؛ تُشعل النار من فتحات صغيرة محكومة، مع التحكم الدقيق في تدفق الهواء عبر منافذ التهوية، تعمل هذه المرحلة على تسخين الخشب إلى درجات حرارة تتراوح بين 300-500 درجة مئوية، لبدء عملية التكوير (Carbonization).

المرحلة الخامسة: الاحتراق البطيء؛ تستمر عملية التحلل الحراري من 7 إلى 15 يوماً، حيث تتحلل المكونات العضوية (اللجنين والسليلوز)، وتتطاير المواد المتطايرة (Volatile Matters)، تاركةً الكربون النقي بنسبة تصل إلى 85-95%.

المرحلة السادسة: الاستخلاص والتعبئة؛ بعد انتهاء العملية وتبريد المنتج، يُفتح الهيكل الطيني لاستخلاص الفحم النباتي، الذي يظهر في صورة قطع سوداء لامعة ذات محتوى كربوني عالٍ، وجاهزة للتعبئة والتوزيع.

 


مراجع المقال: 1 - زيارة استكشافية للكاتب لمكامير الفحم. 2 - مملكة الفحم، ابتون سنكلير، ترجمه ياسمين العربي. 3 - صناعة الفحم النباتي دراسة في جغرافية الطاقة، ياسمين جاد الرب.
:: الصور مقدمة من كاتب المقال ::

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها