هاري بيرتون Harry Burton

المُصوِر الفوتوغرافي لأعظم اكتشاف أثري في القرن العشرين

إبراهيم عبد الفتاح


كان يوم التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1922م يوماً مشهودًا في تاريخ الاكتشافات الأثرية ليس في مصر وحسب بل في العالم أجمع، حيث كان الافتتاح الرسمي لمقبرة توت عنخ آمون أعظم اكتشاف أثري في القرن العشرين. وأول ما يتبادر إلى أذهان الجميع عند ذكر الفرعون الصغير ومقبرته، اسم عالم الآثار الأمريكي هيوارد كارتر (Howard Carter) صاحب هذا الاكتشاف وراعيه اللورد كارنرفون (Carnarvon)، ويُنسى صاحب الفضل في توثيق هذا الاكتشاف فوتوغرافياً، إنه المُصوِر الفوتوغرافي هاري بيرتون (Harry Burton) (1879-1940م).


هذا المُصوِر الذي وصفه كارتر نفسه في كتابه "اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون" بأنه: "خبير التوثيق بالتصوير الفوتوغرافي"1، ومن ثم كان لا بُدَّ من تسليط الضوء على هذا المُصور الفوتوغرافي، الذي قيل عنه إنه: "أفضل مُصور للآثار"2، والتعريف به حتى لا يظل مجهولاً لدى الكثيرين. فلولا التصوير الفوتوغرافي لم تكن مقبرة توت عنخ آمون لتجتذب مثل هذه التغطية الإعلامية المحمومة، لقد فعلت الكاميرا أكثر من مجرد تسجيل العمل الذي تم تنفيذه في الحفريات أو الأشياء المذهلة التي خرجت من المقبرة، فقد خلقت الكاميرا مكانة أسطورية للمقبرة3.

من المعلوم أن التصوير الفوتوغرافي منذ اختراعه عام 1839م ارتبط بعلم الآثار عامةً، وعلم المصريات خاصةً، فقد رَوج العَالِم الفرنسي فرانسوا أراجو (François Arago) للاختراع الجديد من خلال إبراز المزايا التي يوفرها التصوير الفوتوغرافي لتوثيق الهيروغليفية والمعالم الأثرية، قائلاً: "سيُدرك الجميع أنه لو كان لدينا تصوير فوتوغرافي في عام 1798م لكُنا نمتلك اليوم سجلات مُصورة مُخلصة لما حُرم منه العالم المُتَعلِم إلى الأبد بسبب جشع العرب وتخريب بعض المسافرين، إن نسخ الملايين من الهيروغليفية التي تغطي حتى الجزء الخارجي من الآثار العظيمة في طيبة وممفيس والكرنك، وغيرها يتطلب عقوداً من الوقت وجحافل من الرسامين، من خلال داجيروتيب (Daguerretype)4 يكفي شخص واحد لإنجاز هذا العمل الهائل بنجاح"5.

مع تطور تقنيات التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر، وتطور علم المصريات وتعدد المؤسسات الأثرية العاملة في مجال البحث والتنقيب عن الآثار المصرية القديمة ودراستها، أصبح التصوير الفوتوغرافي وسيلةً مساعدة مهمة وأداة قوية لا غنى عنها في الاشتغال بعلم المصريات، وكان علماء المصريات الأوائل على دراية بأهمية استخدام التصوير الفوتوغرافي في توثيق الآثار المصرية القديمة، ومن ثم حرصت كافة البعثات الأثرية على توثيق أعمالها من خلال التصوير الفوتوغرافي، يقول كارتر مُتحدثاً عن عمله في وادي الملوك واكتشافه لمقبرة توت عنخ آمون: "تخيلوا معي... بعد سنوات من العمل غير المُثمر فوجئ شخصٌ -وهو غير مُستعد- بحدوث تطور عظيم الأهمية، شخصٌ واجه احتياجاً شديداً لمساعدة على درجة مُعينة من الكفاءة، كانت المساعدة المطلوبة في هذه الحالة تشمل بالتحديد كل أعمال التسجيل المُهمة والتصوير والرسم ووسائل الحفظ، ثم الاحتياج للمعرفة الكيميائية، ولكن في المقام الأول والأكثر إلحاحاً كان الاحتياج لكل ما يتعلق بالرسم والتصوير، فلا شيء كان يُمكن التفكير فيه قبل أن يتم عمل تسجيل كامل بالتصوير لمحتويات قاعة المقبرة"6.

بيرتون: من إنجلترا إلى إيطاليا ومصر

وُلِد هاري بيرتون في بلدة ستامفورد (Stamford)، لينكولنشاير (Lincolnshire) شرق إنجلترا في 13 سبتمبر عام 1879م، كان ينتمي إلى عائلة كبيرة ذات دخل متواضع إلى حدٍ ما، والده ويليام بيرتون (William Burton) (1849-1923م) كان يعمل صانع خزائن، ووالدته آني هَفتون (Annie Hufton) (1849-1917م)، كان هاري الابن الخامس من بين أحد عشر طفلاً. ويبدو أنه نتيجة لقلة دخل الأسرة اضطر بيرتون إلى ترك المدرسة في سنٍ مُبكرة، وفي سن الرابعة عشرة من عمره اكتشفه مؤرخ الفن الإيطالي في عصر النهضة روبرت هنري هوبار كوست (Robert Henry Hobart Cust) (1861-1940م)، وأخذه للعيش معه، وتلقى تعليمه على يديه7.

في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر وتحديداً في عام 1896م قرر كوست الانتقال إلى إيطاليا للعيش في فلورنسا، واصطحب بيرتون معه كسكرتير، كان انتقالُ بيرتون إلى فلورنسا فاتحةَ خيرٍ له؛ حيث تعلم التصوير الفوتوغرافي، وبدأ في التقاط الصور لأبحاث ومنشورات كوست، واشتهر هناك بمهارته في التصوير الفوتوغرافي، كما كانت فلورنسا موطناً لشركة أليناري (Alinari) للتصوير الفوتوغرافي والمتخصصة في النُسخ الفوتوغرافية للأعمال الفنية، والتقى فيها أيضاً بالمليونير ورجل الأعمال الأمريكي شديد الاهتمام بعلم المصريات، وأحد داعمي متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك ثيودور ديفيس (Theodore Davis) (1837-1915م) وإيما أندروز (Emma Andrews) اللذيْن كانا يقيمان في فلورنسا أثناء رحلتهما من وإلى مصر، أصبح بيرتون المفضل لدى عائلة ديفيس، وسافر معهم إلى مصر لأول مرة حوالي عام 1905م، والتقى في هذه الرحلة بعلماء الآثار التابعين لمتحف المتروبوليتان.

في عام 1910م قرر كوست العودة إلى إنجلترا ليتزوج، فانضم بيرتون إلى فريق التنقيب التابع لديفيس بمصر في شتاء 1909-1910م، والذي كان قد بدأ أعمال التنقيب في وادي الملوك بالأقصر منذ عام 1903م، عمل بيرتون مُصوِراً فوتوغرافياً في البعثة والتقط بعض الصور التي ظهرت في منشورات ديفيس، وبسبب المرض الشديد لم يتمكن ديفيس من مواصلة العمل في مصر وتخلى عن التصريح الممنوح له بالتنقيب عن الآثار في مصر عام 1914م، وطلب من متحف المتروبوليتان توظيف بيرتون، وأصبح عالم آثار ومصوراً للبعثة المصرية لمتحف المتروبوليتان لمدة ستة وعشرين عاماً من عام 1914م حتى عام 1940م، تضمنت مسؤوليات بيرتون كلاً من التنقيب وتصوير القطع الأثرية، بالإضافة إلى تصوير جدران المقابر الملكية والخاصة في مقابر الضفة الغربية في الأقصر، كما التقط بيرتون صوراً للآثار التي تهم المتحف أو أمناءه في القاهرة والأقصر8.

الفيديو: تصوير هاري بيرتون، معهد جريفيث، أكسفورد. تم تلوينها بواسطة Dynamichrome لمعرض "اكتشاف الملك توت" في نيويورك.


هاري بيرتون ومقبرة توت عنخ آمون

عندما تخلى ثيودور ديفيس عن تصريحه للتنقيب في وادي الملوك آل هذا التصريح إلى كارتر ومُمَولِه اللورد كارنرفون، وعندما كشف كارتر لأول مرة عن الدرج وسد المدخل المؤدي إلى مقبرة توت عنخ آمون في أوائل نوفمبر 1922م التقط بضع صور بنفسه، لكنه أصيب بخيبة أمل إزاء النتائج، وعند رؤيته لما تحويه المقبرة من كنوز دقيقة ونادرة، أدرك كارتر أنه بحاجة إلى مساعدة مصور أفضل، ناقش هو وبيرتون الأمر عندما التقيا في القاهرة في أوائل ديسمبر من العام نفسه، ثم طلب كارتر من رئيس قسم المصريات في متحف المتروبوليتان ألبرت ليثجو (Albert Lythgoe) الاستعانة بخدمات بيرتون لتصوير مقبرة توت عنخ آمون، لم يتردد ألبرت ليثجو، ووافق على الفور9.

قبل أن يبدأ العمل في المقبرة كان لا بُد من إجراء عدد من الاستعدادات بما في ذلك تركيب الكهرباء، تم تجهيز المقبرة بإضاءة كهربائية بلغت قوتها الإجمالية 3000 شمعة خلال الموسم الأول، وزادت إلى 10,000 شمعة في الموسم الثاني. كما وفرت مقبرة صغيرة فارغة قريبة (KV55) غرفة مظلمة في الموقع، مما سمح لبيرتون بالتأكد من أنه التقط الصورة المطلوبة قبل نقل أي شيء داخل المقبرة10.

رغم أن الأقصر كانت تضم العديد من الاستوديوهات والمتاجر للتصوير الفوتوغرافي، فضلاً عن القاهرة التي كانت تضم متجراً كبيراً لمنتجات كوداك؛ إلا أن بيرتون فضل استخدام المعدات المألوفة، فكان يستخدم كاميرا مثبتة على حامل ثلاثي القوائم مع سلبيات (النيجاتيف) من ألواح زجاجية كبيرة الحجم، حيث قام باستخدام السلبيات الزجاجية الكاملة مقاس 18× 24سم؛ لأنها كانت تعطي أكبر قدر من التفاصيل في الصورة ويمكن طباعتها دون الحاجة إلى تكبيرها، ومع ذلك فقد استخدم أيضاً عدداً من السلبيات الزجاجية نصفية اللوح بقياس 13× 18سم، كما ابتكر خلفيات محسنة لاستخدامها في تصوير الأشياء. التقط بورترون صُوراً للحظات المهمة التي سبقت فتح غرفة الدفن في الموسم الثاني، وهو حدث تابعه الإعلام بشغف، بعض صور بيرتون داخل المقبرة تم نشرها في الصحف والمنشورات المعاصرة11، كانت كاميرته أساسية في توفير سجل بصري للموقع والقطع الأثرية في حالتها الأصلية حين العثور عليها، وتُعد دليلاً واضحًا على دقة الأسلوب المنهجي للحفر ذاته، وساعدت صوره الدقيقة للآثار وتخطيطات المقبرة في تعزيز الدراسة العلمية، وجلبت اهتماماً عالمياً بالاكتشاف. وحصل على تقدير واسع في كُتب كارتر حول المقبرة وفي صحف مثل صحيفة التايمز البريطانية (The Times) و"أخبار لندن المُصورة" (The Illustrated London News)12.

أثبت المصور هاري بيرتون أنه أفضل شخص ليس فقط في التقاط الصور الفوتوغرافية للتفاصيل التقنية للأشياء فحسب؛ وإنما في تصوير روعتها أيضاً، سجل كل الأحداث بدءًا من الكشف عن درجة السلم الأولى، وحتى نقل توت عنخ آمون إلى المتحف13.

بمجرد أن انتهى بيرتون من تحميض وطباعة الصور السلبية سلمها إلى كارتر الذي قام بترقيم الصور السلبية، احتفظ كارتر بأفضل الصور السلبية لنفسه، ثم أعاد تدريجياً الصور السلبية الأقل جودة، أو اللوحات المتطابقة تقريباً من النُسخ الأصلية إلى هاري بيرتون ليحتفظ بها متحف المتروبوليتان. كانت هذه الصور بمثابة مكافأة عينية لبيرتون؛ لأنه كان نادراً ما يتلقى أي أموال مقابل عمله الإضافي14.

منذ عام 1937م تدهورت صحة بيرتون إلى أن تُوفي في أسيوط في مستشفى البعثة الأمريكية في 27 يونيو 1940م، ودُفن في المقبرة الأمريكية هناك15، بعد أن أنتج وطبع أكثر من 14000 صورة سلبية زجاجية في فترة عمله لصالح متحف المتروبوليتان منذ عام 1914م وحتى وفاته عام 1940م؛ ومعظم هذه الصور السلبية والمطبوعات محفوظة في أرشيف قسم الفن المصري بمتحف المتروبوليتان، وتُعد صوره من بين الكنوز العظيمة للقسم، فقد ترك سجلاً فوتوغرافياً كاملاً لعشرات المقابر المزخرفة، كما كانت محفوظة في أوائل القرن العشرين، ووفرت صوره سجلاً لا يُقدر بثمن للحفائر التي أجراها متحف المتروبوليتان، ولأن علم الآثار هو عملية إزالة وتدمير؛ فإن توثيق بيرتون للعمل خطوة بخطوة يسمح لنا بإعادة إنشاء سياق القطع الأثرية الموجودة الآن في المتحف المصري بالقاهرة ونيويورك، وتُعد صور بيرتون لمقبرة توت عنخ آمون أشهر أعماله، وتفوق شهرة كافة الأعمال التي صورها بيرتون للمتحف. وبالإضافة إلى الصور الثابتة التي التقطها بيرتون، فقد قام بتصوير بعض الأفلام السينمائية التي تُوثق العمل في المقبرة، خاصة من الخارج، حيث كان ضوء الشمس يُوفر إضاءة مثالية للتصوير. في البداية استخدم بيرتون كاميرا تصوير سينمائية تعمل يدوياً من إنتاج شركة أكلي (Akeley) اشتراها إدوارد هاركنس (Edward Harkness) أحد أمناء متحف المتروبوليتان عام 1921م، ووصلت إلى الأقصر في أوائل عام 1922م، تعطلت الكاميرا في العام التالي، وتم شراء كاميرا ثانية، كان ناتج هذا ثلاث عشرة ساعة من لقطات الأفلام النادرة والرائعة بين عامي 1922م و1925م محفوظة حالياً في متحف المتروبوليتان.
 



Video © The Man Who Shot Tutankhamun (BBC)
فيلم وثائقي من إنتاج بي بي سي. تسافر مارغريت ماونتفورد إلى وادي الملوك في مصر لاكتشاف قصة بطل مجهول في التصوير الفوتوغرافي البريطاني - هاري بيرتون،
الرجل الذي أحدثت صوره لحفريات توت عنخ آمون ضجة عالمية في عشرينيات القرن الماضي.

◄ الهوامش
1 . كارتر، هيوارد وآرثر ميس: اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، ترجمة: ثروت عبد العزيز خليل، مراجعة وتقديم: عبد الحليم نور الدين، المركز القومي للترجمة، وزارة الثقافة، القاهرة، 2016م، ص65.
2 . محمد، محسن: سرقة ملك مصر، دار الشروق، القاهرة، 2000م، ص149.
3 - 3Riggs, Christina. “Photography and the Media at the Tomb of Tutankhamun”, in Connor, Simon and Dmitri Laboury (eds), Tutankhamun: Discovering the Forgotten Pharaoh. Presses Universitaires de Liège, Belgique, 2020, p52.
4 - داجيروتيب: نسبة إلى لويس جاك ماندي داجير (Louis-Jacques-Mandé Daguerre) (1787-1851م) الذي يُنسب إليه اختراع التصوير الفوتوغرافي.
5 - Arago, F. (1839). Rapport de M. Arago sur le daguerréotype, lu à la séance de la Chambre des députés le 3 juillet 1839 et à l'Académie des sciences, séance du 19 aoūt. Bachelier, p27.
6 - كارتر، هيوارد وآرثر ميس: اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، ص64.
7 -  Ridley, Ronald T. "The Dean of Archaeological Photographers: Harry Burton." The Journal of Egyptian Archaeology, Vol. 99, Issue 1, 2013, p118.
8 -  Riggs, Christina. “Photography and the Media at the Tomb of Tutankhamun”, pp.53,54.
9 -  Riggs, Christina. “Photography and the Media at the Tomb of Tutankhamun”, p54.
10 -  Riggs, Christina. Tutankhamun: The Original Photographs, London: Rupert Wace Ancient Art/Burlington Press, 2017, p12.
11 -  Colla, Elliott. Conflicted Antiquities: Egyptology, Egyptomania, Egyptian modernity, Duke University Press, United States of America, 2007, P183; Riggs, Christina. "Shouldering the past: Photography, archaeology, and collective effort at the tomb of Tutankhamun." History of Science, Vol. 55, No.3, 2017, p20.
12 -  Riggs, Christina. “Photography and the Media at the Tomb of Tutankhamun”, pp54, 56.
13. دافيد، فرانسين ماري، لصوص المقابر رحلتي إلى وادي الملوك "رواية من سويسرا"، ترجمة: سمر منير، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 2002م، ص223.
14 -  Riggs, Christina. “Photography and the Media at the Tomb of Tutankhamun”, p56.
15 -  Ridley, Ronald T. "The Dean of Archaeological Photographers: Harry Burton", p127.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها