ظلت الكتابات الرحلية المغربية إلى المشرق العربي مرتبطة بأداء فريضة الحجّ في البقاع المقدسة، لكن الرحلات المعاصرة عرفت تحوّلاً في وجهتها؛ ومنها رحلة الأديب «إبراهيم الحجري» إلى إمارة الشارقة، التي تُعدّ من أهمّ الرّحلات المغربية التي تجسد الرابط الثقافي بين جهتي العالم العربي غربه «مغربه»، وشرقه «شارقته». وقد قام الرّحَّالَة «الحجري» برحلتين إلى الشارقة، الأولى في ربيع 2012. والثانية في ربيع 2014. وبما أن الأديب كاتب وناقد، لم يُفَوِّت فرصة تدوين رحلته بعد عودته إلى بلده؛ لأنه يعرف قيمة الرحلة، ومكانة الشارقة في صناعة التاريخ الثقافي العربي المعاصر. ونشرهما في كتاب بعنوان «عبق المدن العتيقة» 2020. وقد كانت الرحلتان فرصة للكتابة عن التطور الثقافي والحضاري الذي حققته إمارة الشارقة.

1. الشارقة.. مقصد الأدباء والمثقفين
لطالما افتقد الأدباء للعواصم التي تأويهم وتكرّمهم، لكن الشارقة أبتْ إلاّ أن تكون عاصمة لهم ومقصداً يقصدونها من كل البلاد، حتّى أصبحت زيارتها حلماً يراودهم. وقد كشف عن هذا الحلم الرّحّالة «الحجري» حيث قال معبراً عن سعادته بزيارتها: «شعرت في قرارة نفسي بأن عتبةَ الشارقة، كانت لي فألَ خير، الشارقة المُشْرقة، مصدر الأشعة الجميلة، والأخبار السارة، والحكايات الملونة في ليل السرد الطويل، طلعت شمس الشارقة في ذلك العام 2012 لتصافحني بكل حب، وتمنحني بعضاً من ضفائرها الزرقاء، الشارقة عاصمة الثقافة العربية، نظراً للميزانية الكبرى التي تخصصها للثقافة، وبالنظر إلى العدد الكبير من التظاهرات الثقافية التي تشهدها طيلة السنة، في مجالات الفنون والآداب والتراث، والدراسات النقدية، وبالعودة إلى سجل الجوائز المُحفّزة للإبداع العربي» [ص: 112]. والشارقة بهذا المعنى هي مقصد للتتويج، وهي التي أرستْ دعائم التنافسية العلمية الشريفة بين الباحثين والأدباء والفنانين، الأمر الذي جعلها مركزاً عربياً للمساجلات النقدية، وفضاءً إبداعياً. ومُتحَفًا فنياً تُعرضُ فيه ألوان الإبداع من كل فن، حتى تجعل زوارَها يدخلون في انصهار تام مع أجوائها الثقافية؛ وبتعبير الرحّالة فقد «غصنا في أحاديث بطعم الفن، لانهاية لحدودها، ولم يخرِجْنا منها غيرُ قدوم الرجل الأنيق اللطيف عبد الله العويس مصحوباً بالأستاذ هشام مظلوم» [ص: 120].
2. الشارقة.. فضاء التنوع والاختلاف
من مقومات الكتابة الرحلية عبر العصور وَلَعُ الرّحّالة بتسجيل كل ما تلتقطه عينُهُ، فتُصبِحُ حاسة الكتابة لديه مثل آلة تصوير تلتقط عناصر التنوع، والاختلاف، والتعايش التي شاهدها في مقامه بإمارة الشارقة، ولم يفوت هذا الأمر، فنراه في رحلته مندهشاً مما راه فيها من التنوع الأخّاذِ الذي تزخر به. ولا غرابة في هذا؛ لأن الرّحّالة كان قد رتّب برنامجاً يزور من خلاله السوق المركزي، ومكتبة الشارقة، وبستان النخيل، والمشي على شط بُحيْرة خالد، وبتعبيره «لا يمكنني أن أفوت فرصة كهاته! كانت هذه المدينة تمارس عليَّ إغْرَاءَها منذ زمنا بعيد» [ص: 131]. وهذا الإطراء سيجد مبتغاه عند ما يزور الكاتب السوق المركزي، الذي يقول عنه: «ينقسم إلى قسمين، جناح خاص بالذهب والفضة وما شاكلهما. وجناح خاص بباقي المشتريات من ألبسة وأقمشة وعطور وساعات وإلكترونيات وزرابي... من كافة الأسواق العالمية، ويشرف على هذه المتاجر باعة من كافة الأجناس، يتميزون برحابة صدر عالية، ويتصرفون مع الزبائن بأدب، ويعرضون عليك أجودَ ما لديهم دون تبرم (...) سحرَتْني الطريقة التي تعرضُ بها البضائع. وأعجبتني السلع المشرقية في تنوعها واستئثارها بالألوان الفاتحة (...) وجدتها لباساً مميزاً يستحق أن يُحمَلَ كهدية للمقربات. في لونها الأسود أكثر من دلالة، كما أن تطريزاتها المختلفة من حيث النوع والجودة تكشف مهارة الخيَّاط العربي... أما العطور فساحرة ومثيرة ونفّاذة، تعيدك إلى عصور وحكايات الشرق الملتهبة، تعيدك إلى زمنك وأصولك الممتدة في التاريخ» [ص: 132].
أما الطعام فحكاية أخرى، استعاد من خلالها الرّحّالةُ أسلوب المقارنة بين النظام الغذائي المغربي والنظام الغذائي المشرقي المتمثل في كل ما تقدّمه إمارة الشارقة لزوّارها، ويستغرب كلما رأى طعاماً مخالفاً لما اعتاد عليه في بلده المغرب، يقول متحدثا عنْ وجبة الصباح: «وكان بعض الرواد يفطرون بالسمك واللحم المسلوق مع الخضر، ويتناولون غذاء ثقيلاً، مما أثار استغرابي لكون الأنظمة الغدائية تخالف ما اعتدنا عليه في المغرب، كما لاحظت أن الناس هنا يقبلون بكثرة على تناول الفلفل الحارّ، الذي يكادُ لا تخلو منه وجبة من الوجبات (...) تذكرني رائحة طبيخ الحوت هنا بمطاعم مدينة الجديدة على الساحل الأطلسي (...)، اشتهيت السمك فاتجهت إلى الطناجر المنصوبة، أخذت من الحوت قطعة، ومن البطاطس المعجنة (...) لم أتعرف على نوع الحوت، لكل محيط أسماكه، وللخليج العربي أنواعه المعروفة، كان طعمه لذيذاً» [ص: 130]. يكشف هذا المقطع غِنَى وتنوع النظام الغذائي الذي تزخر به المأكولات في الشارقة، حتى ليجد كلّ زوارها جميع ما يرغبون فيه مهما اختلفت أصولهم، وتباعدت ديارهم.
3. الشَّارِقَةُ.. أصالة ومعاصرة
يحرص کُتّابُ الرّحَلات على وصف مظاهر الأصالة والمعاصرة في الأماكن التي يزورونها، وكذلك فعل الكاتب «إبراهيم الحجري» وهو يتجول في شوارع الشارقة الفسيحة، وتأخذه الرهبة من عظمة المكان الذي يُزاوج بين الأصالة المتمثلة في المعمار العربي، وبين روح الانفتاح على الحداثة، فترى كلَّ شيء مُرتّبٍ بانتظام. وكان أول ما لفت نظرهُ هو كثرة المساجد المجاورة للفندق الذي يقيم فيه. بل إنه كان يستيقظ على صوت آذان المؤذن «وهو ينادي لصلاة الصبح المنبعث من المساجد المجاورة» [ص: 122]. وما كثرة مساجد الشارقة إلاّ دليل على تجذرها في الهوية العربية الإسلامية. يقول الرحالة متحدثاً عن مسجد النور «انبهرتُ بجمالية هندسة الجامع، ومعماريته الأصيلة، التي تستلهمُ كل النماذج المعمارية الإسلامية (...) تكمن جمالية جامع النور في فسيفساء النقوش الداخلية التي تتماهى مع قدسية المكان، وجمالية الخطوط الموظفة في كتابة آيات القرآن الكريم، فضلاً عن منظره الخارجي الفاتن، ووقوعه وسط حديقة النخيل، وعلى ضفاف بُحيرة خالد، الشيء الذي يزيد مشهده رونقاً وجذباً للمصلين والعاشقين لفنون العمارة الإسلامية التراثية» [ص: 128].
ولم يقف - الكاتب عند هذا الحد، بل نراه ينفذُ إلى داخل المسجد ويستكشف عناصره المدهشة، فالمحراب يمثلُ «أشد عناصره المعمارية الجميلة، حيث تبرز دقة انتقاء القطع الرخامية، وتناسق المنحوتات الفنية، وانسجام الخطوط والألوان والنقوش، فضلاً عنِ المِئْذنتيْن الشامختين الرشيقتين اللتين تسمقان في الهواء (...)، حيث تظهر نهايتها القَلَمية المتناغمة بين الظلمة والضوء الجذاب المنعكس في ماء البحيرة المجاورة (...)، أحسست أن جمال المكان وسحرَ مشهده يزيد من إشراقة الفعل التعبدي، ويؤصّلها في نفس المتعبد (...) هذا المكان يمتلك روحك ولا تفارقه، تفارقه، وفي نفسك غصة، تفارقهُ ورائحة مسك غريبة، وتظل روحك معلقة في تلك القباب والمآذن والزخرف البديع وجريد النخل الأخضر على حافة بحيرة خالد» [ص: 128].
وبين الفينة والأخرى ينتقل الرحالة إلى وصف إلى ما يشد انتباهه من مظاهر التحديث العمراني والتكنولوجي الذي شيدته الإرادة العربية، حتى تشعر أن للشارقة وجهيْن يعكسان حقيقة واحدة أن الحضارة متأصلة في الوجدان العربي، ومنفتحة على التطور بما يضمن لها العطاء المثمر والمستمر، يقول:
«بينما نحن نتأمل الأبراج والعمارات الشاهقة التي صممت بشكل مبتكر، حفاظاً على جمالية المشهد المعماري، لكل برج تصميمه الجمالي الخاص الذي لا يشابه غيره، مما يدل على أن هندسة المدينة يشرف عليها أناس لهم تكوين فني متميّز، ولهم خبرة عالية في تذوق الأشكال والمشاهد، لا يخلو التشييد هنا من حضور فلسفة الجمال في كل ما تصادفه من تخطيط الشوارع، ووضع الحدائق، وتصميم المساجد والأسواق، هنا تسكنك الأمكنة قبل أن تسكنها. وتدخلك قبل أن تَدْخُلَها، وتهجس لك بالسؤال قبل أن تستطلع المعطى، فتظلُّ حيران تهيم في الجواب».