منهجية المصادر التاريخية

لدراسة تاريخ الفتوحات العربية في إقليم داغستان

محمد ناصر أبو الخير


إن دراسة التاريخ الإسلامي من الموضوعات الهامة والجذابة، وذلك لاعتمادها على استقراء روايات المصادر الأدبية المُتنوعة من منبعها والتعرف على أصل تلك الروايات، وصحتها، ودقة نسبها، وتصنيفها بين الروايات الموضوعة والمشكوك فيها والمُتأكد من صحتها، وكان لا بُدّ على كل باحث الرجوع للمصادر التاريخية لكي يستقي منها مادته الأولية في دراسة جوانب التاريخ الإسلامي؛ لأن الباحث في التاريخ مُقيد بضوابط وقواعد في التوثيق، واستقاء المعلومات وتصنيفها ضمن مصادرها الأولية والثانوية.

 

تلك الدراسات المصدرية الخاصة بدراسة روايات التاريخ الإسلامي، كان لا بد من الرجوع إليها لكونها مُعاصرة زمنياً وجغرافياً، ومُتوافقة مع الحيز المكاني لسلسلة الفتوح العربية في بلاد القوقاز مُنذ الفتوح المُبكرة في عصر الخلفاء الراشدين وحتى نهاية الحقبة القيصرية. ولم يمنع ذلك من وجود المراجع الحديثة نسبياً والتي تُؤرخ لبعض الحقب الزمنية في فترات الوجود الإسلامي في إقليم داغستان، لكنها لا يُمكن الاعتماد عليها ولا حتى على معلوماتها كمصادر أولية لدراسة التاريخ الإسلامي في الحيز المكاني والجغرافي للدول التي حكمت داغستان منذ العصر الراشدي المُبكر، وذلك اعتماداً على بعدها الزمني، وربما المكاني، وأيضاً نوعية الحدث الذي تسرده الكتب والمراجع الحديثة.

حيث لا تصلُح تلك الدراسات المرجعية لتكون مصادر أولية تساهم في دراسة أبعاد التاريخ الإسلامي في إقليم داغستان بما حوته من معلومات تاريخية هامة وعلى مدى قرون، ولكونها أيضاً بعيدةً زمنياً عن حدث الوقوع الفعلي في بلاد القوقاز والتي تمت كتابتها في عصور لاحقة، وليس في نفس الحقبة الزمنية. كما أن هؤلاء الرواة ليسوا شاهديّ عيان على تلك الأحداث التاريخية، وربما اعتمدوا في دراساتهم على مصادر كتابية منقُولة أو روايات شفهية من بعض الرواة السابقين.

لذا؛ لا تصلُح تلك الدراسات المرجعية الحديثة في تناول حوادث التاريخ الإسلامي في إقليم داغستان مُنذ الفتوح الإسلامية المُبكرة حتى نهاية العصر القيصري، لكونها مصادر ثانوية بعيدةً زمانياً ومكانياً عن حيز الأحداث التاريخية التي دارت رحاها على مسرح جغرافية مدينة "دربنت"، وشهدت عليها المصادر التاريخية المُعاصرة.

كما تُفيد تلك الدراسة في تقصي بعض الأحداث التاريخية المُؤكِدة لروايات المصادر التاريخية المُعتمدة زمانياً ومكانياً على نوعية الحدث، وتاريخ وقوعه، ووقت تسجيله، بالإضافة إلى التعرف على سنة وفاة مؤُلفي المصادر التاريخية للوقوف على الأحداث المعاصرة، والتأكد من صحتها ونفي ما ورد من معلومات بعدها. فضلاً عن التعرف عن مواطن المؤرخين الأصلية، والمناطق الأخرى التي هاجروا منها والبلدان التي استقروا بها، ومذاهبهم الدينية، ومعتقداتهم، ومُيولهم الثقافية، ولغاتهم الدارجة؛ كل تلك المهمات كانت كفيلة لدراسة التاريخ الإسلامي في إقليم داغستان.

هذا علاوة على الاستعانة ببعض روايات المصادر التاريخية المُتأخرة زمنياً عن سرد الأحداث، وذلك بناءً على مُعطيات هامة على الرغم من بعدها مكانياً وزمانياً عن مستوى الحدث، وفي ذلك تفاصيل شتى نظراً لأن التاريخ الإسلامي في إقليم داغستان مُعقد بعض الشيء، وتمت كتابته بلغات غير العربية.

هذا فضلاً عما كُتب في حوادث مُعينة فُقد مع تعاقب الأحداث، بالإضافة إلى أن المكتوب والمُدون من أحداث بخصوص التاريخ الإسلامي في إقليم داغستان تمت كتابته بواسطة مؤرخين روس. وكما نعلم أن التاريخ لا يُستقى من روايات الغالبين والمنصورين فقط.

ونُبيّن خلال ذلك نوعيات المصادر التاريخية التي اعتمدنا عليها في سرد الحوادث الزمنية من كُتب التاريخ العام، وكُتب الحوليات التي تتناول سرد الحوادث الزمنية مُؤرخة بالسنين، والتأكيد على المعالم الجغرافية، والدروب والمسالك من خلال كُتب الجغرافيا التاريخية، هذا بالإضافة إلى الاستدلال بكتب التاريخ الاجتماعي والعسكري والإداري لبعض الشخصيات الهامة والمؤثرة في المجتمع الداغستاني على مر عصوره.

حيث تمت الاستعانة بأقسام مُتنوعة من المصادر الإسلامية في هذه الدراسة، والتي تنوعت بين كُتب التاريخ الإسلامي العام؛ وهي تلك الكتب الضخمة التي تحتوي على الأحداث التاريخية المُرتبة زمنياً منذ بدء الخليقة حتى السنة التي توفي فيها صاحب الكتاب أو قبيل وفاته بفترة قصيرة. تلك الكُتب تُسمى عند المؤرخين الغربيين باسم كُتب الحوليات chronicles وهي أفضلها نسبةً لاحتوائها على مادة تشمل دراسة الجوانب السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والإدارية، والعسكرية وغرائب الأحداث، ووفيات مشاهير الأشخاص من الرجال والنساء.

كما دلّت على بعض أشهر كُتب التراجم العامة التي تناولت السيّر المُختصرة لحيوات الأشخاص قُبيل وفاتهم، والتي اشتملت في هذا القسم على بعض طبقات الوفيات، الشيوخ، القرون، الأنساب، العلماء، الفقهاء، والرواة الذين أثروا بشكل بالغ في الحياة العامة في إقليم داغستان. تلك الكُتب تتميز بالدقة والمصداقية، فضلاً عن احتوائها على معلومات غنية عن الأحوال السياسية والإدارية والاجتماعية والدينية والثقافية، والتي تأثرت في شروط كتابتها بوضع أئمة الجرح والتعديل المُستخدمة في تحقيق كُتب الحديث النبوي الشريف.

كما تمت الاستعانة ببعض كُتب الطبقات والتي تم تأليفها لخدمة الحديث النبوي الشريف أيضاً، ولكنها تطورت لتشمل طبقات العلماء، والفقهاء، والمحدثّين، والأطباء، والشعراء، والأدباء، كما أنها تضم معلومات عن المدن والخطط الاجتماعية.

كما نوهت للاستعانة بكُتب الوفيات والتراجم العامة المُرتبة بالسنين للشيوخ والعلماء، وقادة الحرب الذين أثروا بشكل واضح في الحياة العامة في المجتمع المسلم في إقليم داغستان، حيث تُقدم لنا تلك الكُتب مادة تفصيلية عن حياة صاحب السيرة. كما تُشير الدراسة لأهم بعض الكُتب التي تناولت تاريخ الدول التي حكمت بلاد القوقاز حتى نهاية العصر القيصري، والتي تُقدم مادة تفصيلية عن الدول التي كُتب في عهدها المؤلفات.

ليس هذا فقط؛ بل وضحت بعض أشهر الكتب التاريخية الخاصة بالتاريخ العسكري والإداري للمُسلمين، والتي توضح خط سير الحروب والغزوات، والتي ذُكرت بشكل ثانوي في كُتب التاريخ العام، فضلاً عن اشتمالها على تراجم القادة العسكريين وأخبار الفتوح والغزوات. أيضاً اشتملت على بعض مؤلفات التاريخ الاجتماعي أو تاريخ النُخبة والتي لم يهتم بتدوينها من قبل كل مؤرخي العالم الإسلامي، الذين حرصوا على تدوين التاريخ الخاص بالنُخبة من فئة الساسة والعسكريين وقادة الحروب.

كما تناولت بعض أهم كُتب الجغرافيا التاريخية، وكُتب الرحلات والمسالك والممالك، والتي تُعد مصدراً أولياً في دراسات التاريخ الإسلامي نظراً لأن مؤلفيها كانوا مُعاصرين زمانياً ومكانياً للحدث التاريخي، فوثقوا زياراتهم إلى البلاد المُختلفة فعاصروا الحكومات والأشخاص، ووصفوا بدقة كل النواحي الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية والإدارية، فضلاً عن النواحي الجغرافية وطبوغرافية المواقع، والأراضي والتجارات، والأديان والمذاهب والحِرف والصناعات.

بالإضافة إلى ذلك نُسلط الضوء على كنوز التاريخ المجهول للحضارة الإسلامية في إقليم داغستان، والتي لعبت دور الوسيط في نقل تأثيرات الحضارة الإسلامية إلى شمال بلاد الروس، ومنها إلى شبه جزيرة القِرَم وأوكرانيا ووسط أوروبا. وقد أثبتت الدراسات الميدانية اهتمام الباحثين السابقين عُموماً بالتركيز على تاريخ مناطق أخرى من العالم الإسلامي، ولكن لا تُوجد دراسة ميدانية اتبعت منهجاً علمياً رصيناً في دراسة التاريخ الإسلام في داغستان منذ عصر الفتوح الإسلامية المُبكرة حتى قُبيل الثورة الشيوعية.

وقمنا بأول نشر علمي منهجي تناول دراسة التسلسل الزمني لـتأريخ الحوادث التاريخية في إقليم داغستان، وفق روايات المصادر التاريخية العربية والأجنبية والفارسية، ثم لاحقاً المراجع الروسية، وذلك لأن المنطقة قبل تلك الدراسة كانت على هامش التحليل من قِبل الباحثين الراغبين في كشف حوادث التاريخ الإسلامي في بلاد القوقاز، مع العلم بأنها من أهم المناطق تاريخياً وجغرافياً في العالم الإسلامي والتي لا غنى عنها للإسلام والمُسلمين.

وبالتالي فإن الروايات التاريخية الموجودة حالياً تمت كتابتها بيد الروس أنفسهم، والتاريخ تمت كتابته بيد الغالب والمُنتصر (الروس)، إذاً روايات التاريخ لا يُمكن أن تُؤخذ من يد الغالب فقط، ولهذا أوجدنا هذه الدراسة والتي تُلقي الضوء على فجوات تاريخية خطيرة، وغموض في سرد روايات التاريخ العام خلال تلك الحِقبة التاريخية، ولذا فقد استعنت بكثير من المصادر التاريخية لكشف غموض التاريخ الإسلامي في إقليم داغستان.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها