بين التَّعبير بِالصُّورَةِ وَالتَّعبيرِ بِالكلمةِ

مجالٌ للإبداعِ والتميزِ

محمد السيد عبد العال


جميل أن نكتب وأجمل من ذلك أن نُوفق إلى ذلك الموضوع الذي نتناوله بالكتابة، ولن نعرف مقياساً أدقّ وأوفى لهذا سِوى أن نختار ذلك الموضوع الذي يشغل الناس الآن، ويقيم مشاهد الجدل فيهم وفيما بينهم. أو هو ذلك الموضوع الذي يلبي إجابة كل سائل حينما يسأل عن قضية الناس الأولى في زمنهم الذي يعيشون، والتي تتقدم وتسبق غيرها من القضايا، وهي في مخيلة باحثيهم عنوان ما يتناولونه الآن في منتداياتهم وأروقتهم الثقافية. وسينصرف نظرك فور بحثك هذا السؤال تجاه القراءة ذاتها وليس موضوعاً من موضوعاتها، وسيزول عجبك حينما تعلم أن القراءة الآن وفي هذا العصر أثارت الكثير من الجدل والمناقشات الحادة في عقول البعض أكثر من أي عصر من العصور.

 

هل حلّت الصورة محل الكلمة:

لسنا نعرض هنا ما بيناه في قول سابق عن صراع الكلمة الورقية والإلكترونية؛ إذْ ذكرنا أن كلتيهما وسيلتا وصول لبلوغ غاية يقصد بها المعرفة وتحصيل الثقافة بوجوهها الكثيرة، وخطأ كبير أن يكونا معرضي مقارنة؛ لأن المقارنة في دنيا البحث لا تكون بين المعرفة كغاية وأسباب الوصول إليها ووسائلها، ولكننا سمعنا غير مرة من يقول إنّ الصورة قد حلت محل الكلمة، وأن الكلمة ماتت وانتهت بعدما صورت مشهداً تراه الأعين فاستغنى بها، بعدما استولت على حواس أكبر من هذه الحواس ومناطق أكبر لا تصل إليها الكلمة ذات الأثر المحدود بزعمهم، ثم انطلقوا لينصروا قضيتهم يعبرون ويطلقون حيثياتهم ويعددون مزايا التصوير بالمشهد ويضعونها في مكان الحداثة والتطور ويهيئونها مَعلماً من معالم العصر الحديث، وليس عيبًا أو غريبًا أن يكون هذا الكلام من أهل صناعة السينما؛ فهذا لا شيء فيه؛ فمن الطبيعي أن يتحمس كلٌ إلى صناعته وهذا مطلوب بل وهذا هو الذي يصنع التنافس الثقافي والمعرفي الذي تحتاجه كل أمة تريد أن لا يطالها الجمود.

المشهد التصويري وعلاقته بالكلمة المكتوبة:

ولكن؛ إذا ما تناولنا هذا الرأي وقلبنا وجوهه قبل أن نقبله كله أو نقبل بعضه، أو يكون مصيره الرفض القاطع، لوجدنا أن هذا القول لا يخلو من منطق ولكنه ذلك المنطق الذي يجني على القضية ولا يؤدي بها إلى مرادها الصحيح من الفهم ومن ثم الإقناع والقبول؛ لأن صاحب هذه الكلمة نسي أو تناسى أن المشهد التصويري لا يقوم ولا يوجد إلا من خلال الكلمة؛ لأنها بمثابة أمه التي ولدته ولولاها ما قام واستوى لينشر فنًا أو إبداعًا؛ لأن الكلمة هي ملهمة صورته وصانعة إبداعها ومحور لانطلاق في كل شيء. كما أنه لا يزال عمل الكلمة في أعراف الناس التي يرتفع بها عن غيرها من سبل الإبداع، هو إطلاق خيال الناس وليس حبسه في إطار الصورة المحدود.

نعم؛ الصورة والكلمة طريقا إبداع للوصول إلى الوجدان، وقد تستولي الصورة على مناطق في إحساسات الناس وتعبيراتهم لا تصل إليها الكلمات، ولكنها قد تكون جناية في بعض الأحيان إن قتلت الخيال فيهم الذي هو طاقة إبداع النفوس. كما أنه لا يزال إبداع المشهد المصور أسيرًا لجودة العمل نفسه، فإذا كان راقياً أخذه إلى مناطق عالية من مناطق الإحساس، ولكن ماذا إذا كان العمل رديئاً! ألا تُظلم النصوص أحياناً من المصورين؟ والحق أننا يجب أن نأخذهم جميعاً صوراً متعددة تخدم قيمة الإبداع التي هي لا في علم الدنيا ولا في قوانين نفعها، يجب أن يكون مصيرها الإبعاد والإقصاء.

إبداع أعمال شكسبير بين الصورة والنص:

لا نعرف في عصرنا هذا نصوص إبداع عاشت وألهمت الأجيال أكثر من نصوص شكسبير التي عرفناها في أخريات القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، والتي منذ أن عُرفت لم تتوقف الحركة الفنية منذ ظهورها عن تمثيلها مسرحًا وروايةً مسموعةً ومشاهد مصورة. وقد أحسنت الصورة للنصوص إذْ أخذتها وارتفعت بها لمسارات إبداع ومناطق إلهام أغنى وأثرى، ولكنها أبداً لم تغنِ العقول يوماً عن الرجوع لنصوصها الأصلية المكتوبة؛ لأنها كانت وستظل تلكم النبوع المعرفية التي أبداً لا يفنى عطاؤها ولا ينضب كلما ورده إنسان.

الكتب السماوية وسيلتها الكلمات:

ولسنا نقول في نهاية ما نقول سوى أن للكلمة عطاءً لا يُغني عنه أي عطاء، ودليلنا الصادق على هذا ذلك السر العميق أن الكتب السماوية جميعها استودعت الكلمة أسرارها واستأمنتها تعاليمها، وصنعت بها منهج الناس الذي يُرتجى منه كل نفع ويقصد به كل فلاح، وضربت في جذور التاريخ كل التاريخ منذ أن خُلق الإنسان، وعاشت وستظل تعيش عمر الزمان ما كتب له أن يعمر وأن يعيش، فهي القيمة الباقية أعطت عمر التاريخ كله ولا تزال تنهل الإنسانية منها كلما تقصدها؛ لتورد نبعها. ونحن نسبق بقولنا قبل أن يسبقنا من يتهمنا بالقول إن كلمة السماء المقدسة شيء وما يكتبه الناس -كل الناس- شيء آخر، وقد يلهمنا القول إن الكتب السماوية كانت للناس كحروف الهجاء التي شحذت أسنة أقلامهم فأخرجت كتاباتهم تلك الكلمات التي فهموها وفهموا عنها، وكانت كعمل الصالحين الذين أضاءوا سروج الناس بروح موقدها الذي ولد من عطائها البيان بما يملأ وجدان الناس ويفيض.

الكلمة والصورة طريقان للإبداع:

جميل أن يتحمس صاحب الصورة لصورته، وأن يرى فيها مناطق بعيدة من الإبداع لم يعرفها الناس قبل ظهورها. وجميل أن يتحمس صاحب الكلمة إلى كلمته ويراها شيئاً عظيماً ملهماً في إطلاق خيالات الناس التي هي مرتقى كل نفس محبة، تطلب نصيبًا من قيم الحق والخير والجمال. وأجمل من الاثنين مَن يرى في كليهما جمالاً كجمال بستان الزهور تجمله الزهرة زاهية الألوان، كما تزيد جماله شذا الزهرة الفائح عطرها.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها