هندسة التصاميم في العصر المملوكي

مسجد السلطان حسن.. منارة العلم وجمال العمارة

أميمة سعودي


"لا يعرف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحاكي هذا الجامع وقبته، التي لم يُبن بديار مصر والشام والعراق والمغرب واليمن مثلها"
هكذا وصف المقريزي مسجد السلطان حسن.


يعتبر مسجد السلطان حسن من أضخم مساجد مصر عمارةً وأعلاها بنيانًا، حيث أنشأه السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون في الفترة ما بين عامي (757هـ/1356م)، و(764هـ/1362م)، ومسجد السلطان حسن ذو طابع خاص بين الآثار الإسلامية في مصر، مما جعله مزاراً سياحياً مهماً، وهو أحد أهم المعالم التي قدمها العصر المملوكي للعالم في مجال العمارة الإسلامية، ويُعد آية في الجمال العمراني، ويقدم المسجد للزائرين اتساعًا في مساحته، ورحابة في عطائه الفكري وتأثيره الفقهي.
 

منارة للعلم

أولى سلاطين المماليك وأمراؤهم العمارة عناية فائقة، وقد تركوا ثروة معمارية تاريخية لا يضاهيها شيء، كالجوامع والمدارس والأضرحة، والمباني كالوكالات والخانات، والحمامات والأسبلة والبيمارستانات، وحظيت القاهرة باهتمام كبير من قِبل المماليك كونها عاصمة الدولة المملوكية، ونجد مجموعة السلطان قلاوون، ومدرسة وخانقاه السلطان الأشرف برسباي، ومدرسة ومسجد السلطان قايتباي، كما ظهرت المنشآت متعددة الطوابق والتي تتألف ما بين (3-5) طوابق، مثل وكالة الغوري ووكالة بازرعة، وقد شُيّدت عمارة المماليك أساساً بالحجر، وهي السائدة في المنطقتين الرئيسيتين اللتين تحت حكمهم "مصر وبلاد الشام"، واستخدم الخشب في صنع الأبواب والحشوات والمحاريب، وكذلك في الستائر المشعّرة للشبابيك المعروفة بالمشربيات، واستخدم الحجر في بناء القباب، والجص لعناصر الزخرفة.

ويعتبر مسجد السلطان حسن من أوائل الجامعات في العالم الإسلامي، ويقع بميدان "محمد علي"، أو ميدان "صلاح الدين"، كما هو معروف بمنطقة السيدة عائشة بمصر القديمة، تجاه باب العزب من قلعة صلاح الدين، وتزداد قيمته التاريخية في أنه يرمز إلى عظمة العمارة الإسلامية وتقدمها، ويعكس مدى التطور والبراعة في البناء خلال عصر دولة المماليك البحرية، ويحتوي على قيمة معمارية جمالية عالية؛ نظراً لأنه يحتوى على خصائص معمارية تتميز بالندرة والتفرد، بحيث لا يوجد لها مثيل في العالم الإسلامي، يبلغ طوله 150 متراً، وعرضه 68 متراً، ومساحته 7906 أمتار، وارتفاعه 70.37 متراً.

جمال التصميم

يتميز المسجد بخمس خصائص كبرى انفرد بها دون غيره من العمائر الإسلامية في مصر، ومنها عقد إيوان القبلة الذي يبلغ خمساً وستين ذراعاً (حوالي 20,19 م)، وهو بذلك أكبر من إيوان كسرى، ومنها القبة العظيمة فوق حجرة الضريح التي ليس لها مثيل في العمارة الإسلامية (تبلغ مساحتها21 × 21م وارتفاعها 48م)، وللمدرسة واجهتان رئيسيتان، الأولى منهما الشمالية الشرقية، ويبلغ طولها 145 متراً، وارتفاعها 37,80 متراً، أما الواجهة الثانية فتقع في الجنوب الشرقي وتُشرف على ميدان صلاح الدين بالقلعة، ويبلغ طولها 68 متراً، وتتوسطها القبة، وتقع المئذنة الكبرى في ركنها الجنوبي (يبلغ ارتفاعها 81,60 م من صحن المسجد)، بينما تقع المئذنة الصغرى في ركنها الشرقي، وهي أصغر في الارتفاع والحجم من المئذنة الكبرى.

تظهر القيمة المعمارية لجامع ومدرسة السلطان حسن في جمال التصميم المعماري، الذي يظهر في تناسب الكتلة والفراغ، فنجد المدخل يؤدي إلى دركاة تبدأ بفراغ تعلوه قبة وثلاثة إيوانات مُغطاة بمقرنصات، ثم يؤدي هذا الفراغ من خلال ممر معقود بقبو، وفي حركة غير مباشرة في رحلة من الظل والنور تستغرق لحظات يقطعها الإنسان لينتقل من الخارج بكل صخبه إلى الداخل بكل سكونه، ليصل هذا الممر عبر انحناء إلى صحن كبير مربع في وسط المدرسة، تتوسطه ميضأة تعلوها قبة محمولة على ثمانية أعمدة، ويحيط بفراغ الصحن أربعة إيوانات متعامدة التكوين أكبرها إيوان القبلة، حيث يوجد ما بين الإيوانات الأربعة أربع مدارس لتدريس المذاهب الأربعة؛ وكأنها بنمط تصميمها وتشكيل عمارتها مدارس مستقلة ملحقة بالمدرسة الأصلية، وهنا تبرز القيمة الجمالية في تناغم الكتلة والفراغ للإيوانات الأربعة، التي تطوف كتلة المدرسة حول مركز الثقل الفراغي لها، في وسط الصحن المكشوف، بحيث تتناغم الكتلة والفراغ في تتابع وتجاور متبادل، ترتقي فيها العمارة إلى السماء دون أن تفقد رصانة استقرارها على الأرض، في معادلة محسوبة نجح من خلالها المعماري في إبداع تشكيلات متداخلة، تحقق الجمال الفراغي، وحسن الأداء لهذه الفراغات المعمارية.

لم يرغب السلطان حسن أن يكون لأيقونته المعمارية طابعاً تعبدياً فقط، بل أراد لها أن تكون منارةً للعلم وتعلم الدين والقراءة والكتابة، فجاءت المدرسة كعنصر مهم من عناصر المبنى، ومكون محوري في تصميم الفكرة المعمارية.

للمدرسة ثلاث وظائف رئيسة، هي إقامة الصلاة الجامعة، والتدريس، وإقامة الدارسين؛ أي أنها تجمع بين المسجد ودار العلم وسكن الدارسين، ومن ثم كان من الضروري مراعاة ذلك في تصميم أقسامها حول الفناء لأداء هذه الوظائف، وفي سبيل تحقيق الوظيفة الأولى للمدرسة وهي صلاحيتها لإقامة الصلوات الجامعة اشتملت مدرسة السلطان حسن على إيوان موجه نحو القبلة، وبه محراب ومنبر لإقامة الخطبة ولقراءة المصحف، ولجلوس الشافعية مع مدرسيهم لأداء وظيفة الدرس، وهو أكبر إيوان بالمدرسة، كذلك اشتملت على مئذنتين تأكيداً لصلاحية المدرسة لوظيفة الصلاة، كما كان شائع في معظم المدارس بمصر، أما بالنسبة للوظيفة الثانية وهي التدريس، فكان من الضروري أن تشتمل المدرسة على قاعات للمحاضرات العامة على حسب عدد التخصصات التي تدرس بالمدرسة.

تدريس المذاهب الأربعة

نظراً لأن مدرسة السلطان حسن أنشئت لتدريس المذاهب الفقهية الأربعة؛ فقد خصص الإيوان البحري لتدريس المذهب الحنفي، والإيوان الشرقي لتدريس المذهب المالكي، والإيوان الغربي لتدريس المذهب الحنبلي، وقد وضع المصمم هذه الإيوانات حول الصحن، بحيث تكون في منتصف الجوانب، على أن يستخدم الإيوان الموجود في جهة القبلة للصلوات الجامعة فضلا عن التدريس، وجرت العادة أن يخصص هذا الإيوان لتدريس المذهب الذي يميل إليه المنشئ، وبالتالي يكون متسعاً نسبياً، لذا خصص إيوان القبلة لتدريس المذهب الشافعي الذي يتبعه السلطان حسن منشئ المدرسة.

أما الوظيفة الثالثة؛ وهي توفير أماكن الإقامة للدارسين، وهذه الوظيفة هي التي تميزت بها المدرسة عن المسجد، باعتبار أن كلاً منهما قد استخدم للصلاة والتدريس، ونجد أن ضرورة توفير أماكن إقامة هي التي ساعدت على ظهور الطراز المحوري من جهة، وإبدال الأروقة بالأواوين من جهة أخرى، وذلك لأن الإيوان لا يشغل جانب الفناء كله، ومن ثم كان من الممكن بناء المساكن بين الأواوين وحول أركان الصحن. ومن جهة أخرى كان الإيوان عادة أكثر ارتفاعاً، بحيث يناسب ارتفاع عدة طوابق من مساكن الدارسين، حيث اشتملت مدرسة السلطان حسن على أربعة مبانٍ سكنية -خصصت لإقامة الدارسين- في جوانب المدرسة الأربعة، أكبرها من ناحية المساحة مبنى المدرسة الحنفية.

المصمّم محمد بن بيليك المحسني

وضع شادِ العمائر محمد بن بُليك المحسني كل علمه وفنّه في تصميم مسجد السلطان حسن، أراده نموذجاً للعمارة المملوكية، وأثراً يُقاوم مرور الزمن، ألحق به مدرسة لتدريس علوم المذاهب الأربعة، فتجاوز دوره الجامع للمصلين والعابدين ليصبح منارة لطلاب العلم من كل فجّ عميق، ووجد اسم المشيد محمد بن بُليك المحسني على نص مكتوب في طراز جصي بالمدرسة الحنفية وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}.
 "اللهم يا دائماً لا يفنى، يا من نعمه لا تحصى، أدم العزّ والتمكين والنصر والفتح المبين ببقاء من أيّدت به الإسلام والمسلمين.. حسن ابن مولانا السلطان، وأعنه على ما وليته، وخلّده في ذريته. كتبه باني عمارته محمد ابن بيليك المحسني".

تصميم البيمارستان

بالنسبة للبيمارستان فقد روعي في تصميمه أن يفي بالمتطلبات الوظيفية المخصص لها؛ لذا احتوى في مسقطه الداخلي على أفنية داخلية تختلف في مساحتها تبعاً لوظائف العناصر المطلة عليه، كذلك اشتمل على أقسام للجراحة والتحجيم، وأمراض العيون والأمراض الباطنية والنفسية والعصبية، بالإضافة إلى غرف العزل للأمراض المعدية، كذلك خصص في تصميمه قاعات للدرس ومكتبة علمية، ووفر المسقط كافة الخدمات اللازمة من مطابخ ومغاسل ومرافق. وقد تم عزله عن الطريق لتوفير الهدوء والسكينة للمرضى، ومن أبيات الشعر التي وجدت مسجلة على جدران إيوان القبلة:
الخط يبقي زمانا بعد كاتبه .. وكاتب الخط تحت الأرض مدفونا
تبلى محاسنه والدود يأكله .. ووجهـه لجميــع الدود مرهونا
يا رب ارحم عبداً كان كاتبه .. يا قارئ الخط قــــــــل بالله آمينا

اللهم آمين؛ في 23 شهر رمضان، سنة: 1136.

رأى المؤرخين والمستشرقين:

يتميز المسجد بعجائب من البنيان، ومنها الزخارف البديعة الدقيقة جداً، وقد ذكر السلطان حسن عن تحفته المعمارية: "لولا أن يُقال ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صُرف عليه"؛ إذ استمر العمل 3 سنوات بدون توقف، وقيل إنه تكلف 750 ألف دينار من الذهب.

كَتبَ عن المسجد العديد من المؤرخين وخبراء الآثار والمستشرقين، وقال المؤرخ الفرنسي آدم فرانسوا جومار في كتاب: "وصف مصر": إن مسجد السلطان حسن من أجمل مباني القاهرة، ويستحق أن يكون في المرتبة الأولى للعمارة العربية بفضل قبته العالية، وارتفاع مئذنته، وعظم اتساعه، وفخامة وكثرة زخارفه.

وقال المستشرق الفرنسي جاستون فييت: "هذا البناء العالمي الشهرة والعظيم القيمة، رمز لمجد الإسلام وقوته وعظمته"، بينما وصفه ابن تغري بردي بقوله: "إن هذه المدرسة ومئذنتها وقبتها من عجائب الدنيا، أحسن بناء بُني في الإسلام"، كما وصفه الرحالة المغربي الورتلاني بأنه: "مسجد لا ثاني له في مصر ولا غيرها من البلاد في فخامة البناء ونباهته". واعتبره المهندس البلجيكى جوزيف إتيان لينوار "أجمل جامع في الشرق كله بلا نزاع".

لم يدفن السلطان حسن في الضريح الذي أعد له، ولكن دفن فيه ابنه الشهاب أحمد المتوفي 1386م 788ه، وقام المملوك الطواشي بشير الجمدار باستكمال أعمال المسجد والمدرسة خلال العامين التاليين، فكانت العمارة المملوكية عالمية الطابع، وتظهر فيها تأثيرات من الأندلس وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى وبلاد فارس.

وما زالت الأبنية المعمارية التي شيدها المماليك باقية حتى الآن، تنطق بعظمة وإبداع المماليك، في فترة تعد من الفترات المهمة في التاريخ الإسلامي، شهدت تقدم فريداً في الفنون والعمارة في كافة المجالات مع تنوع طُرزها العمرانية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها