فرادة الأدب الياباني!

جماليات الرمز والالتباس والغموض مثالاً

محمد رمصيص


ترى أين تكمن فرادة الأدب الياباني، في لغته، أم في متخيله، في رموزه وأقنعته أم في صوره الشعرية؟ ومن أين يستمد بالضبط خصوصيته؟ هل في بعده الجغرافي والجمالي الشديديْن عن أدب شمال إفريقيا والشرق الأوسط- علماً أن البعد بين الأوتار ضروري لإنتاج النغم، والبعد هنا محدد لتصورنا للأشياء البعيدة؛ فالقمر مثلاً ليس جميلاً إلا لأنه بعيد ويخرج عن دائرة تملكنا له. وما الغاية من مساءلة الأدب الياباني هنا والآن؟ هل هي محاولة لاكتشافه أم لاكتشاف الذات؟ وهل حقاً أن تميزه يكمن في نهوضه على تأمل مشمولات الوجود، أم في تلك القدرة الكامنة فيه في قوله الكل بالجزء تأسيساً على قانون الندرة.. وشعر "الهايكو" نموذجاً على ما نروم. وما السر في اشتمال الأدب الياباني على كم وافر من الحزن الآسر والواسم لأغلب نصوصه الفارقة، هل هي بقايا وامتدادات تدمير البلد إبان الحرب العالمية الثانية؟ وإلى أي مدى ساهمت الهزيمة في الحرب في توجيه الكتاب اليابانيون إلى كتابة عامرة بالسخط وفقدان الهدف، بل وكتابة متشبعة بالعدمية وتمجيد الانتحار؟

وكيف نفهم جمع الأدب الياباني بين الأسطورة والتاريخ، بين الشعر والدين، بين الواقع والخيال؟ وما السر خلف تقديسه للطبيعة باعتبارها كائناً حياً تسكن الأرواح وليست مجرد ديكور مكمل لكينونة البشر؟ ولماذا تهيمن تيمة العزلة على أغلب رواياته وأشعاره؟ هل لأن اليابان نفسها جزيرة؛ الأمر الذي جعل المجتمع الياباني يعيش عزلة جماعية رداً على التمثلات الجاهزية للجزيرة باعتبارها مكان مشمول بالهدوء والوداعة، مكان للفطرة والوعي الأولي للإنسان.. خلطة أعطتنا أدباً جديداً لا يشبه سواه، فالأدب الياباني يهمس بحقيقته الخاصة ولا يصيح، ينقش فرادته ولا يبحث عن الأضواء.. خلطة جعلت الأدب الياباني يتوج غير ما مرة بجوائز عالمية خطبت وده مرات ومرات. وإن كانت القيمة الحقيقة للأدب لا تقاس بالجوائز لكنها قد تكون مؤشرا على صدى الكلمة، وعلى حضور النص في الوعي الجمعي. تكفي الإشارة إلى "ياسوناري كاوباتا(1972/1899) وهو أول كاتب ياباني فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1968. أديب من أشهر أعماله: "بلد الثلج" و"أصوات الجبل" و"منزل الجميلات النائمات".. كاتب بنى مشروعه الإبداعي على أن فكرة الجمال تكمن في النقص والتآكل والذبول.. فالجمال عنده ملتبس وبعيد عن الصخب، جمال غير مكتمل، جمال الانطفاء والتلاشي. جمال يحس ولا يقال ويستدعي جهاز فرز دقيق لأنه ينهض على الضوء الخافت والذاكرة الباهتة... وهذه ليست مثالية جديدة بقدر ما هي دعوة للتقبل الهادئ للنقص.

ففي روايته "بلد الثلج" نهاية عقد الثلاثينات من القرن (20)، دشن مساره السردي بهذه التحفة التي تبدو في الظاهر راصدة لعلاقة حب عادية بين شاب يهوى الفن من طوكيو، و"غيشا" من إحدى المقاطعات، علاقة تدور أحداثها في مدينة بعيدة ربيعها حار تماماً، لكنها في العمق تناقش معضلة التقدم في العمر وضياع الحب والجمال خلال ذلك. وذات الرؤية رافقته في قصصه الصادرة بعنوان "قصص بحجم راحة اليد". وجدير بالذكر أن هذا الأديب وجد في القصة كجنس أدبي بلوري مساحة مواتية لاستخدام الغموض الذي برع فيه، أمر توافق وخيال القارئ.. قصص اقترب فيها من أسلوب الشعر لتماس الجنسين الأدبيين في الكثافة والتلميح. ولعلها مفارقة أن كل المجد الذي حققه كواباتا انتحر سنة 1972 بخنق نفسه بالغاز!! وحاولت العديد من النظريات تفسير انتحاره، ومن بينها صحته الضعيفة، أو ربما قصة حب محتملة مرفوضة من المجتمع، أو صدمة انتحار تلميذه وصديقه يوكيو ميشيما في 1970. وعلى أي حال؛ فإنه على العكس من ميشيما، لم يترك رسالة قبل انتحاره، وبما أنه لم يناقش مسألة الانتحار بشكل مؤثر في كتاباته؛ فإن دوافعه تبقى غامضة.

أما الكاتب كنزا بورو أوي (2023/1935) الذي فاز بدوره بجائزة نوبل سنة 1994؛ فقد طرق باباً جديداً في الرواية اليابانية، يكفي العودة لروايته "مسألة شخصية" رواية حكت عن الابن المعلول.. تلك العلل الدائمة التي تشقي الآباء والوسط العائلي ككل.. وسط استطاع التكيف مع هذا العطل والنقص لدرجة أنهم تعايشوا معه واعتبروه عادياً.. وقس على ذلك موضوع رواية "صرخة صامتة" التي تطرقت لليأس الوجودي في اليابان المعاصرة على خلفية عودة شقيقان من طوكيو إلى قرية طفولتهما بعد أن باعا منزل الأسرة في بحث طويل عن لحظة صفاء بالبادية لكن المدينة ظلت تلاحقهما في أدق تفاصل كينونتهما وإن ابتعدا عنها مجالياً.. دون أن ننسى أن كنزا بورو أوي كتب بعد الحرب العالمية الثانية عن الحرب والذنب، وجعل من السرد وسيلة للحلم بالسلام، وذلك من خلال وصف دقيق لرصاصة وهي تخترق لحماً آدمياً أو قنابل فتاكة تتربص بحياة الأبرياء تحمل بعض المقاتلين على التفكير مرات ومرات قبل الضغط على الزناد.

بالنتيجة الأدب الياباني يرافق القارئ إبان تلقيه بعيداً عن الوعظ وتقديم الأجوبة، يدفع جمهوره إلى الحفر فيما وراء الحدث، ويعلم متلقيه كيف ينظر إلى الجمال كقيمة لا كزينة، وكيف يحتفي بالزائل بدل الخوف منه.. بهذا المعنى يمكن القول إن انجذاب القارئ العربي للأدب الياباني يرجع ليس فقط لأنه مختلف عن أدبه، لكن لأنه يكمله.. يعطيه ما لم يكتب سابقاً، يعبر عما شعر به دون أن يعرف كيف يكتبه. أدب يأخذك إلى أعماق الروح الإنسانية حيث تعاش اللحظات الصغيرة بكل ما فيها من جمال وخيبة.. في مستوى ثان، يلتقي الأدب الياباني بالأدب العربي في احترام الكبير، وتقديس الطبيعة، والأسئلة الروحية المتعددة.

بالخصوصيات أعلاه، يبدو الأدب الياباني أقرب إلى الأدب الروسي في تأملاته الوجودية وحواره مع العزلة وجرح الموت. ويشترك مع الأدب الفرنسي في حبه للجمال واللغة المتقنة واللحظة العابرة. ويقترب من الأدب الصوفي في تعامله مع الغياب والسكوت والبحث عن جوهر الأشياء.. تكفي مراجعة رواية "كافكا على الشاطئ" لهاروكي موراكامي؛ رواية انبنت ضفيرة السرد فيها على جمع الواقع بالخيال وذلك من خلال حياة مراهق هرب من منزلهم ليجد نفسه في مغامرة ملحمية مليئة بالألغاز والتجارب الفلسفية العميقة.. في المقابل قدمت الرواية بشكل مواز شخصية "ناكاتا"، رجل عجوز يملك قدرة فائقة في محاورة القطط، شخصية تتشابك قصتها مع قصة كافكا بطريقة غير متوقعة.. أسلوبياً تميزت هذه الرواية باشتغالها على وفرة من الرموز والأقنعة، ومناقشة قضايا كبرى منها سؤال الهُوية، والقدر وتبعات الحب من خلال شخصيات مركبة ومتداخلة.

في رواية "ملذات طوكيو" لدوريات سوكيجاوا اشتغل فيها على شعرية التفاصيل الصغيرة لحياة أفراد بسطاء وذلك من خلال طاه يدير متجراً صغيراً لبيع حلوى الفطائر التقليدية اليابانية في طوكيو. طاه تتغير حياته الهادئة عندما تأتي سيدة مسنة تعرض عليه العمل كمساعدة ليكتشف من خلالها أسراراً عن الماضي.. والرواية في العمق تسلط الضوء على العزلة الاجتماعية والمرض، من خلال التفاصيل الصغيرة والعلاقات البسيطة.. واستخدام الطعام كوسيط رمزي للتواصل الإنساني.

في مستوى ثان، حضر صوت المرأة اليابانية المبدعة مميزاً، ولاسيما المنتسبات للجيل الجديد يكفي الإشارة إلى يوكو أوغاوا وهي من مواليد (1962)، وصاحبة رائعة "شرطة الذاكرة" رواية تحكي عن ملاحقة الشرطة للمواطنين في جزيرة معزولة مهددة إياهم بالتخلي عن ذاكرتهم وإلا كان مصيرهم الاعتقال والتعذيب.. فيتخلون مكرهين عن ماضيهم أو يحتفظون بها سراً في أحسن الأحوال.. هنا يطرح سؤال الهُوية سواء الفردية أو الجماعية التي يتعذر تحققها في غياب الماضي والذاكرة.. والرواية ككل مفعمة بالغموض بسبب السرد المتقطع، فضلا عن عمقها النفسي.

وفي ذات السياق يمكن ذكر الشاعرة والروائية والمغنية ميكو كواماكي صاحبة رواية "كل العشاق في الليل" وهي من مواليد (1976). طرحت الرواية بدقة وعمق مشكلة العزلة من خلال بطلة تعمل مدققة لغوية في طوكيو.. تعيش عزلة فادحة التبعات، حيث تجد نفسها مضطرة لمغادرة بيتها كل ليلة متناولة النبيذ عله يخلصها من وحدتها دون جدوى.. فتجرب الصحبة العاطفية لرجل فتجد نفسها فريسة الظنون.. لغوياً، تميزت هذه الرواية بتوسل الكاتبة لهجة سكان مدينة أوساكا التي تختلف عن لهجات المدن المجاورة قصد إضفاء واقعية مطلوبة على متنها السردية فضلاً عن لغتها الشعرية.

نخلص على هامش هذه الجولة السريعة في الأدب الياباني؛ أنه رغم بعده الجغرافي والثقافي عن الأدب العربي، فإن ترجمته إلى اللغة العربية أو اللغات الحية الأخرى ساهمت في تسليط الضوء على حياة المجتمع الياباني من الداخل، وعرفت الجمهور العربي على حساسيات الكتاب هناك، وزاويا تعاطيهم مع قضايا كبرى من قبيل العزلة والهوية والحرية والحب والموت، وطرق تقديمها جمالياً من خلال الرمز والقناع وتوسل شعرية الالتباس والغموض.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها