يجب أن أحزن، هذا ما قررتهُ وأنا في طريقي إلى المقبرة، يجب ألّا تخذلني مشاعري المحايدة، يجب أن تتحوّل نار الحقد إلى رماد، العيون تبحث، والآذان تُرهف السمع لأي نأمة أو أنة أو سقطة، حتى إن لم تخرج من الصدر، يجب أن أحزن، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أعمد إلى إيقاظ الأيام القديمة، تلك الأيام بما حوته من بياض ونقاء هي الباعث الأكبر، سأستدرك ذاكرتي، سأكدها إلى أن تبعث دقائقها الأولى، لحظات بكورها الصباحي، قبل أن تشتدّ أشعة شمس الأيام، وقبل أن يعصف الظلام بنور النهار. في بكور تلك الأيام كانت الشمس لذيذة والهواء نقيّاً، ستكون تلك الأيام باعثة لدمعتي التي يجب أن تقفز من عينيّ، يجب أن أحزن ولا مناص من ذلك مهما كلّفتني مشاعري المستعارة من إرهاق وخداع!
رأيت جثمانه يخرج من سيارة الإسعاف، استوقدت ندوب روحي، ركضت نحوه، رفعت معهم خشبة النعش على كتفي، وحين تدخّل أحدهم ليسير أمامي حاملًا النعش، دفعته بقوّة فكاد يتعثّر ثم خرج، وقف ينظر إليّ متعجّبًا، انبهرت أنفاسي ليس حزنًا بل ثقلًا فقد كان النعش ثقيلًا.
كل ما أدرته في ذهني من حزن مستعار وتذكر مستطاب، وأنّة لم تسكن صدري أبدًا، كل ذلك تلاشى بعد خطوة أو خطوتين فقط، فقد حضرت صفعاته لقلبي منذ دفن شقيقه -والدي- فعادت ملامحي إلى سيرتها الأولى، بل أبت الانصياع لتصميمي، استهللت قوّة لا أملكها، واستهل الدمع تساقطه بمهارة طربتُ لها، كانت عيناي تتلصصان النظرات لوجوه تترصد مشاعري، وتؤكد ما كانت تتوقعه من أن أي حزن لن يعبر نفسي، فطفقت أنهض مشاعر الحزن والفقْد الخائبة في نفسي، وأبعث فيها من رغباتي حياة قصيرة تلائم موقفي الجنائزي هذا، وبعد ذلك فلتنطفئ كل مشاعري المستعارة، أقبض على زوايا نظراتهم كأنها تسألني: «هل أنت حزينٌ»؟ النعش ثقيل والخطوات متقاربة بطيئة وأنا أريد أن أُنفّس عن روحي، وكنت أرتجف خوف فضح مشاعري، اتخذ وجهي سيماء حزن مستعار، كانت محاولة مُرهقة، وكنت أظنني نجحت في تمثيلها حين رأيت رجلًا مسنًّا يمسح بيده كتفي ويدعو لي.
رائحة نتنة تنبعث من الجثة، وصوت بكاء يأتي من بعيد الزمن، تقف خطواتي، أُريد أن أقول لهم إن الميت لم يمت، وإنني سمعت صوت بكائه! لكن جموع حاملي النعش اندفعوا بي إلى الأمام فكدتُ أسقط على وجهي، كنتُ في عناء وشدة وعرق ينزّ، تُثيره الأقدام، عيون أشعر بسياطها على وجهي، رائحة تزداد نتانةً مع كل خطوة، وصوت بكاء يستغيث، صوته، نعم هو صوته تمامًا، يحفر عطب روحي، لمحت رجلًا يمشي بجانبي، عرفته، نعم هو قريب لي كقرابة الجثة التي أحملها على عنائي، كان ذاك القريب يتقدم أمام سير النعش عدة خطوات راصدًا ملامحي، يريد أن تتأكد ظنونه البائسة، وكنت أُمعنُ في تضليله والسفر به نحو ظنون أخرى، فلم أحضر إلا كي أبدو على عكس ما كان ينتظر.
للحظة وقف سير حاملي النعش وكأنهم وصلوا إلى مشارف فوّهة القبور المحفورة، ويستشيرون المنتظرين قدوم الجثمان في أيّ هوّة قبر يوارون هذه الجثة. شعرت بزعقة بكاء تخترق أذني اليمنى، أذني اليمنى تحت رأس الجثة تمامًا فأسمع ما لا يسمعه غيري، كان البكاء هذه المرة قويًّا ولافتًا، أملت رأسي نحو رجل يلاصقني من الخلف، سألته وعيني نحو الجثة: «هل سمعت البكاء»؟ دفعني بحمحمة وغضب وكأنه ظنني مجنونًا!
أيّ أوجاع تتلبسني وأنا أصارع نفسي فتغلبني تارة وأغلبها أخرى، وفي كلتا الحالتين لا تغيب عنّي صفعات الأيام الخوالي!
كيف يجب أن أحزن وهاهو الموت بقداسته وهيبته وفجيعته فوق كتفي؟! أي قسوة تلك التي لم تزعزعها خطواتي نحو القبر؟! نزّ عرق بارد أعلى جبهتي، أملت رأسي لأسمع تشاور المنتظرين مع رجل يتقدم الجثمان ويقودنا، كانت عيناي تتعقبان كل المحيطين بي، وكنت أبالغ بشكل مفضوح في بذل مشاعر الحزن التي امتلكت زمامها بعد أن انفلتت منّي، رأيت رجلًا يشير إلى فوّهة قبر ينتظر ويقول: «هنا»، لحظات ثم أمرنا بإنزال الجثمان، كان عليّ إكمال مهمتي، فوقفت بجانب فوهة القبر لأرى الجثة تهوي نحو قعر القبر تتلقفها الأيدي.
مسحت وجهي جيّدًا بباطن كفّيّ، تلفَّتُّ في كل اتجاه، تسلَّلت من بين الرجال المتحلقين حول فوهة القبر، وغادرتُ بصمت.