حُضورُ التُّرَاثِ فِي الشِّعرِ

دَعْوَةُ النَّقدِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا

د. محمد محمد عيسى


النصُّ الأَدبيّ أيًّا كان شكله ولغته ومكانه وزمانه هو مستودع لثقافات عامة، هذه الثقافات تمثل عبر الأجيال تراثًا يمثل أمةً. والنصُّ الأَدبيّ من شأنه أَنْ ينفتح على العالم بكل حضاراته، لاسيَّما الشعر على اعتبار أنَّ الشعر يتشكل عبر الوجدان الإِنساني العام، وقد حملت لنا القصيدة العربية القديمة تاريخ العرب، وحواضرهم، وحضاراتهم، ومعارفهم، وعلماءهم، ومفكريهم، وساستهم، وقادتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، فخبرنا مجدهم السالف حال سموه وحال خفوته.


وعبرَ العصور التاريخية للأدب العربي كان الشاعر يغترف من ذاكرته المُمتدة إلى قرون سابقة، وظلَّ هذا دأب الشعراء الذين اهتموا بالتراث، حيث جاءت نصوصهم لوحة تشكيلة، أو قطعة من الفسيفساء، يتعانق فيها التاريخي بالأُسطوري بالديني بالشعري، كل هذا والنص يجد طريقه نحو الشعرية.

ولا تحيا أمةٌ بعيدةً عن ماضيها، بكل ما يحمل هذا الماضي من انتصارات أو هزائم، أفراح أو أحزان، عادات وتقاليد، عقائد وأديان، معتقدات، ويبقى كل ذلك في الذهن، تتناقله الذاكرة ليمثل التراث الذي يعني –كما يُعَرِّفه حسن حفني- "كل ما وصل إلینا من الماضي داخل الحضارة السائدة، فهو إذن قضیة موروث، وفي نفس الوقت قضیة معطى حاضر على عديد من المستویات"1، ولم يكن هناك حدود فاصلة قاطعة، بل هناك إشارات تدل عن انتهاء عصر وبداية عصر، لكن يظل هناك تداخل وترابط بين كل هذه العصور.

وإن كان لا يمكن فصل زمانين عن بعضهما البعض بسبب تغلغل أولهما في الآخر، أو بسبب شدة تعلق اللاحق منهما بالسابق، فإنَّ القول عن التلاحم والتلاقي، أو التعالق الأدبي بنظيره أو بغيره يكون أكثر تحققًا ووقوعًا، وقد حفل النقد العربي القديم والحديث بتكوين الذاكرة لدي كُلٍّ من الشاعر والناقد على السواء، ودعا إِلى ذلك.

ويرى ابنُ طباطبا أنَّه ينبغي للشاعر أنْ "يُديمَ النظرَ في الأشعار... لتَلصَقَ معانيها بفَهْمِه، وترسخَ أُصُولُها في قلبه، وتصيرَ موادَّ لطبعه، ويذوبَ لسانُه بألفاظها فإذا جاش فكرُه بالشعر أدَّى إليه نتائجَ ما استفاده مما نظَر فيه من تلك الأشعار، فكانَتْ تِلْكَ النَّتيجةُ كسبيكَةٍ مُفْرَغَةٍ من جَميعِ الأصْنَافِ الَّتِي تُخْرِجُها المَعَادن، وكما قد اغترف من وادٍ قد مَدَّتْه سيولٌ جاريةٌ من شعابٍ مُختلفةٍ، وكطيبٍ تَركَّبَ من أخلاطٍ من الطيب كثيرةٍ، فيسْتغربُ عِيانُه، ويَغْمُضُ مُسْتَبْطَنُهُ، ويذهبُ في ذلك إلى ما يُحْكى عن خالد بن عبدالله القَسْرِيِّ، فإنَّه قال: حَفَّظنِي أبى ألفَ خطبةٍ ثم قال لي: تناسَهَا؛ فتناسَيْتُها، فلم أُرِدْ بعدُ ذلك شيئًا من الكلام إلَّا سَهُلَ عليّ. فكان حِفظُهُ لتلك الخُطب رياضةً لِفَهْمِهِ، وتهذيبًا لطبعه، وتلقيمًا لذهْنِهِ، ومادَّةً لفصاحَتهِ، وسببًا لبلاغَتِه ولسنه وخَطَابته"2.

كذلك ذهب النقد الحديث إِلى تأكيد الدعوة السابقة، كما لفت الانتباه إِلى قيمة الذاكرة الثقافية لدى الشاعر، ودعا إِلى استدعاء التراث الملائم للحدث المعاصر؛ حيث قال يوسف نوفل: "من العالم الشعري الخاص بالشاعر تنبع رؤيته للعالم في صياغة خاصة به على نحو مستحدث، يكشف فيه الشاعر عن مضامين متزاحمة متعانقة: اجتماعية وسياسية وفكرية وثقافية وحضارية، تستحضر التجربة البشرية الماضية والأخرى المعيشة الحاضرة، وليس غريبًا أنْ يستدعي الحدث المعاصر التراث الملائم للغة التعبير عنه، وأَنْ يختار – أيضًا – كمّ هذا الاستدعاء: جزئيًّا، أو كليًّا، على نحو مستمر في خطابه الشعري كله أو على نحو متقطع في شكل إشارات"3.

كما إِلى ذلك ذهب محمد عبد المطلب، في كتابه قراءات أُسلوبيّة في الشعر الحديث، من أَنَّه "يجب أنْ نُدرك أنْ أكثر المبدعين أصالة من كان تركيبه الفني ذا طبيعة تراكميَّة، على معنى أنَّ الروافد السابقة قد وجدت فيه مصبًّا صالحًا لاستقبالها"4.

كما رأى مصطفى السعدني أَنَّ النصَّ "في مفهومه العام يطرح علاقة الإبداع بمواده الأولية، وبتعبير نقدي يعالج إشكالية القديم والحديث. وثمة عدة حقائق: (منها)... أنَّ الذاكرة وعاء يملأ بقيم التراث المتعددة، فضلا عن التجارب والمشاهدات المتنوعة، والعبارات والصور"5.

ومن قبل هؤلاء ذهب إِحسان عباس إِلى أَنَّ "للماضي حضورًا حتميًا لا تستطيع أية ثورة أن تنفيه- لأنَّه أرسخ من "الأهرام"، وأكثر سموقًا واستعصاء على الهدم -وأبرز شاهد على ذلك هو اللغة، وغير خاف أن الشاعر الحديث لا يريد أن ينكر اللغة، وإلا لم يكن شاعرًا عربيًا - بكل ما يحمله هذا الوصف من مميزات لغوية - ولكنه إنما يعني التحول بها، إلى مستوى يحقق ذاتيته، ويطبع على تاريخ اللغة ختمه، ويفرده بدور يبدو فيه وجوده معلما شهقا في تيار الزمن"6.

وبعد هذا الطرح السابق للنقد القديم المتمثل في دعوة ابن طباطبا، أو من خلال الرؤى النقدية الحديثة، وغيرها لنقاد سبقوا هؤلاء أو لحقوا بهم؛ نستطيع أَن نقول: إِنَّ التُّراثَ العربيَّ قضيَّةٌ حاضرةٌ على مرِّ العصور، وظاهرةٌ نابِضَةٌ في أَدبنا المعاصر.

وقد اتخذ الشاعرُ العربيُّ قديمًا وحديثًا من ثقافاته (القديمة والحديثة) موردًا استقى منه فكره ولغته؛ مِمَّا جعل نصَّه مُورقًا أبدًا، وقد صار من الحقائق التي يجب الاعتراف بها - حسب مُحمَّد عبدالمطلب - "أنَّه لا وجود لمبدع يخلص لنفسه، وإنما هو مكون – في جانبه الأكبر – من خارج ذاته بوعي أو بغير وعي"7، وجاءَ التُّراثُ العربيُّ بَطَلاً سامقًا؛ يتصدرُ قائمةَ المتعالياتِ النَّصيَّة في القصيدةِ العربيَّةِ الْمُعَاصِرةِ، ولعل حضور التُّراثِ الشعريِّ في نظيره الشعريِّ المُعاصِر من أصدق الأدلة على التواصل أو الحُضُور الفعلي الأَدبيِّ، ويظلُّ النصُّ الأيقونة الوحيدة الدالة على شكل علاقة التناصية.

وقد وجد الشعراءُ المُعاصِرُون في التُّراثِ مُتَعاليًا نصِّيًّا؛ يَنْطَلِقُون منه، أو يَعُودُون إِليه في النهاية، وإِنَّما يَدلُّ ذلك على قدرة التُّراثِ العربيِّ في التعبير عن الحاضر. واستطاع الشاعر المعاصر أنْ يستدعي التُّراثَ في جميع أشكاله، وأنْ يجعل منه دربًا للوصول إلى غاياته، وأفكاره.

ولكنَّ الإِفادةَ الحقيقيَّةَ للشِّعْرِ المُعَاصِرِ مِنَ التُراثِ العَرَبِيِّ، يَنْبَغِي أَلَّا تكونَ مِنْ بابِ سَرْدِ الوقائعِ والأَحْدَاثِ والنقلِ فحسب؛ وإِنَّما على الشَّاعرِ أَنْ يَجْعلَ مُحَاوَرَتَه لِلتُّرَاثِ مُحَاوَرةً خلَّاقةً ذاتَ أَبْعادٍ جَمَاليَّةٍ وفنيَّةٍ ودلاليَّةٍ، تَتَجَاوزُ المَكْرُورَ والْعَادِيَّ، وفِي إِطارِ ذَلِك لا يَنْبَغِي لِلنَّصِّ الشِّعْريِّ الرَّاهِنِ أَنْ يَنْمُوَ خِلالَ صُوَرِهِ التَّقْلِيدِيَّةِ؛ وإِنَّمَا مِنْ شأْنِه أَنْ يَثُورَ عَلَى كُلِّ مَأْلُوفٍ، وَلا يَتَنَافى هَذا مَعَ مَا يَذْهَبُ إِليهِ الْقَوْلُ بِأَهَميَّةِ التَّوْظِيفِ الدَّقِيقِ لِلتُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ فِي الشِّعْرِ الْحَدَاثِيِّ؛ إِذْ يَتَحَدَّدُ أَثرُ شِعْرِيَّةِ التُّرَاثِ فِي النَّصِّ بِنَاءً عَلَى طَرَافَةِ التَّنَاوُلِ لِلتُّرَاثِ، وَحَيْثُ كَانَ فَاعِلاً فِي إِقَامَةِ لُغَةِ النَّصِّ.
 


هوامش: 1. حسن حنفي: التراث والتجديد – موقفنا من التراث القديم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط4، بيروت – لبنان، 1992م، ص:13.┇2. ابن طباطبا العلوي: عيار الشعر، تحقيق: عبد العزيز بن ناصر المانع، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض – السعودية، 1985م، ص: 14 -15.┇3. يوسف نوفل: طائر الشعر - عش الفيض، فضاء التأويل، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط1، القاهرة، 2010م، ص: 481.┇4. محمد عبد المطلب: قراءات أسلوبية في الشعر الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص: 162 .┇5. مصطفى السعدني: التناص الشعري-  قراءة أخرى لقضية السرقات، منشأة المعارف بالإسكندرية،1991م، ص: 67.┇6. إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، سلسة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، فبراير، 1978م، ص: 111.┇7. محمد عبد المطلب: قراءات أسلوبية في الشعر الحديث، ص: 162. 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها