الطاقة البشريّة لا تنحصر في مدى الإرادة الفرديّة، ولا في مدى الإجرائيّة المنهجيّة التي ترسم بها فعلها الخاص. ظلّت جدليّة الإنسان والزمن الأكثر تفاعليّة في سياقات متعدّدة. بقيت تجربة «صموئيل بيكيت» - في هذا الإطار - الأكثر نفاذاً وحيويّة من خلال الدراسات والأبحاث والتمثّلات. في هذه السطور نحاول إقامة رؤيّة تجميعيّة لانبعاثات الزمن وإيماءاته في مشروع بيكيت، والتي تتفاعل مع المدى التشابكي لواقعنا.

بين صموئيل بيكيت ومارسيل بروست
عندما ظهرت أُولى روايات الكاتب الإيرلندي المعاصر «صموئيل بيكيت» وعنوانها «مالون يموت» عام [1951]، تلقّاها النقّاد بشيء من الدهشة والحيرة. عندما ظهرت من قبل «في انتظار جودو» أولى مسرحيّات بيكيت، وكان ذلك في عام [1949]، تساءل النقّاد والجمهور ما الذي يقصده بطلاها وهما صعلوكان وقفا عند شجرة جرداء ينتظران مخلّصاً مجهولا اسمه جودو؟ ما الذي يقصدانه من حوارهما وهما يتحدّثان عن الأمل الذي يترقّبانه دون أن يجيء، دون أن يكلّا من الانتظار؟ ما الذي يقصدانه من ذلك الرجاء؟ وما الذي يقصده بيكيت ذو الصنعة الأدبيّة والمسرحيّة من إغراق صعلوكيه في فراغ الزمن أو بعبارة أكثر إيجازاً، ما المأساة الإنسانيّة؟
جعل الإقبال الذي لقيته مسرحيّة بيكيت والنجاح الذي حقّقته روايته الأولى، الأضواء تعود إلى الوراء لتسلّط على دراسة قديمة كتبها عام [1931] عن الروائي «مارسيل بروست » صاحب رواية «بحثا عن الزمن المفقود»، ولتربط بين النتائج المهمّة التي وصل إليها فنّ الروائي الفرنسي، وما تردّد صداه في أعمال الإيرلندي؛ الذي يعدّ في طليعة كتّاب جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا الكتاب، كما يقول بيكيت لا يتضمّن سيرة لبروست. أكّد فيه أنّ أدب بروست قد بُني على وهمٍ خادع بتمامه. في مسرحيّته "شريط تسجيل كراب الأخير"، حاول بيكيت أن يقدّم صورة ساخرة للزمن المستعاد "زمن لا نجد فيه أنفسنا قط"، رأى في عمل بروست عالم لا ثبات فيه، عالم يعيش فيه الإنسان في طلب ضرورة الانتظار. انتظار واقع ملتبس وغريب.
وقد خلص بيكيت من خلال دراسته لبروست إلى تسجيل انطباعات متعدّدة. وكان هدفه الأوّل من دراسته تلك على حدّ قوله: "التقصّي عن وجهَيِ، ذلك الغول الذي يهلك وفي الوقت ذاته يخلص".
ولكن ما هو ذلك الغول ذو الوجهين؟ إنّه الزمن..
بصرف النظر عن المضمون؛ فإنّ الماضي بالنسبة إلى الحاضر خيبة أمل والمستقبل بالنسبة إلى الحاضر طموح سيتحوّل بدوره إلى خيبة أمل. من ثمّ كان الحاضر عذاباً ذا وجهين؛ لأنّ الاشتياق إلى المستقبل عذاب لانصرافه إلى شيء هو بالنسبة للحاضر غير مدرك. وتذكّر الماضي عذاب لانصرافه إلى شيء خرج بالنسبة للحاضر عن اليد. الحاضر عمليّة عذاب مزدوج؛ لأنّه من ناحية عمليّة انتقال إلى المستقبل، ذلك بسبب تفاؤلنا الذي لا براء منه وإرادة الحياة المحمومة التي لا رادّ عنها. ولأنّه من ناحية أخرى عمليّة معاناة ممّا ألحقه الماضي بنا من تشويه... إنّنا لسنا سجناء الساعات والأيّام فحسب، بل نحن أيضاً كائنات غير ما كنّا أمس. تطلّعات الأمس غير صالحة إلّا بالنسبة لشخصيّة الأمس لا بالنسبة لشخصيّة اليوم.
ولكن ما هو بلوغ الأمل؟
هو اتّحاد الشخص بموضوع رغبته. هو وضع الشخص يده على موضوع رغبته.. الشخص في كلّ لحظة يموت.. وإنسان اليوم ليس إنسان الغد. إنسان هذه اللّحظة قد تغيّر عنه في اللّحظة التي سبقتها وسيتغيّر في اللّحظة التي تليها. وسيمضي في التغيّر في كلّ لحظة آتية. إنّ تجربة الماضي إذن تلد إنساناً جديداً شوّهته عجلة الزمن التي تدوسه منطلقة في طريقها. لا تقتصر وضعيّة الزمن المسمومة على التأثير على المرء تبعاً لسلسلة متلاحقة من التبديل الذي لا ينقطع، بحيث تصبح حقيقة، إن كان ثمّة حقيقة، ذات طابع انضمام إلى الماضي، بل ويصبح الفرد محل عمليّة سكب من القارورة المحتوية على سائل الماضي المرجوج والمتعدّد الألوان، إلى القارورة المحتوية على سائل المستقبل الذي لم يأخذ لوناً بعد. ولا يمكن تحديد الحادثة المستقبلة ولا حصر مضمونها حتّى تتّخذ لنفسها تاريخاً، أي مكاناً في الماضي ومن ثمّ لا يمكن أن تتّصف أيّة حادثة مستقبلة إلّا بأنّها مجرّدة وغير واضحة.
ماذا عن التذكّر؟
قوانين التذكّر فتخضع لقوانين التعوّد الأكثر منها عموميّة. والمادّة عمليّة توفيق ومصالحة والحياة ذاتها عادة.. أو إن شئت هي عادات متتابعة طالما كان الفرد تتابع أفراد. لمّا كان الوجود عمليّات استنباط يقوم بها الضمير الفردي؛ فإنّ التحالف لا بدّ أن يتجدّد على الدوام.
إنّ معاينة الإنسان للوجود لا تتمّ مرّة واحدة، بل تتمّ كلّ يوم، بل في كلّ لحظة، وتمثّل فترات الانتقال التي تقع بين عمليّات التكيّف المتلاحقة المناطق الخطرة في حياة كلّ فرد. على أنّ فترات الانتقال هذه ليست لحظات غامضة مؤلمة فحسب بل ومجدية مثمرة أيضاً. وذلك عندما تجد ملكات الفرد الأصيلة فرصتها في أن تتحرّر في الوقت الذي تحلّ فيه محلّ ضجر الحياة وألمها أحاسيس العذاب والألم إزاء المجهول الذي لم يؤلّف بعد. الولاء للعادة يشلّ انتباهنا، ممّا يجعلنا غير مستعدّين بصفة مبدئيّة لمواجهة أيّة تجربة جديدة خشية التعرض للألم.
ما رهان العادة؟
واجب العادة الأساسي هو عمليّة دائبة من التوفيق وإعادة التوفيق بين الحواس وأوضاع الحياة. العذاب أو المعاناة مظهر عدم قيام العادة بذلك الواجب. أمّا في حالة قيام العادة بواجبها فإنّ مظهر الحياة هو الضجر والرتابة. الروتينيّة هي أكثر المساوئ الإنسانيّة دواماً واحتمالاً. وإذا لم يكن لإعادة وجود، فإنّ الحياة ستبدو متعة بالنسبة لكلّ أولئك الذين يهدّدهم الموت في كلّ لحظة، أي لكلّ البشر.
عندما تخون العادة الثقة -التي أولتها إيّاها الضحيّة- في أن تجنّبها مشقّة مواجهة الواقع؛ فإنّ العادة تزول وتضحي الضحيّة، التي لم تعد ضحيّة للحظة قصيرة في مواجهة الواقع مباشرة، ممّا يحتّم عليها أن تشحذ حواسّها لمواجهة المجهول. وبين لحظة وفاة العادة القديمة واللحظة التي يقدّر فيها لعادة جديدة أن تتمكّن من الضحيّة؛ فإنّ الواقع الذي تتشرّبه الضحيّة محمومة متيقّظة الحواس لتفادي الخراب يكون في أعلى درجات كثافته. لكي تتوصّل الشخصيّة إلى إحلال عادة جديدة -محلّ العادة التي ودّعتها بين البكاء والعويل- تقوم بإفراغ المجهول أو اللّغز من الخطر الذي يتهدّدها، تقوم بإفراغه من جماله أيضاً.
يقول بروست: "إنّ العادة لو كانت طبيعتنا الثانية فإنّها تخفي عنّا طبيعتنا الأولى. وهي مجرّدة من قسوة طبيعتنا الأولى وفتنتها. وفي المرحلة الانتقالية التي تلي وفاة طبيعتنا القديمة تقف طبيعتنا الأولى عارية؛ بكلّ ما فيها من قسوة وفتنة، هي قسوة الواقع وفتنته".
ولكن هل للواقع فتنة؟
أجل للواقع فتنة، عندما يقف منعزلا غير مفهوم إزاء جهلنا وحيرتنا وحبّنا للاستطلاع، وللأسف، العادة التي هي طبيعتنا الثانية تعترض على ذلك الشكل من الإدراك طالما تقوم بإخفاء الجوهر. لأنّ مخلوق العادة يشيح بوجهه عمّا لا يتلاقى مع هذه أو تلك من أفكاره المبشّرة التي يديرها على أساس مبدأ توفير الجهد. إنّ العادة نعمة ونقمة في آن واحد. الذاكرة معمل عامر بالسموم والمطيّات، والفكاك من قبضة الذاكرة لا يتأتّى إلّا عرضاً، عندما تشتدّ الذاكرة اللاإراديّة بفضل وصول العادة إلى مرحلة من الضعف والاحتضار.
ماذا عن الصداقة والحب؟
مضى بيكيت إلى الحديث عن الصداقة والحب خلال انطباعاته البروستية فيقول: "إنّ المرء يتطلّب من الآخرين أن يفهموه لأنّه يرغب في أن يحب. ولكنّنا لا نكترث أن نفهم الآخرين في حين أنّنا نلح عليهم أن يولونا هم حبّهم". أمّا الصداقة فهي محاولة بائسة الخروج من تلك العزلة المرّة المحكوم بها على كلّ إنسان. وليس صحيحاً ما قاله «نيتشه» من أنّ الصداقة تقوم على التعاطف الفكري، غالباً ما نرتاح في الواقع إلى أولئك الذين تتّصف أفكارهم بذات البلبلة والحيرة التي تتّصف بها أفكارنا. تعادل ممارسة الصداقة التضحية بجوهر الذات للانطلاق من داخلها إلى خارجها. وباختصار، إنّنا في عزلة فلا يمكننا أن نعرف.
وأخيراً، ما المأساة؟
المأساة هي تسبيل لعمليّة تكفير عن خطيئة أصليّة. عن الخطيئة الأولى والأبديّة. هذه الخطيئة تتمثّل في أنّ الإنسان قد ولد، هذا ما يعبّر عنه بيكيت في مسرحيّته الاُولى:
- فلاديمير: لنفترض أنّنا تبنا.
- ستراجون: تبنا من ماذا؟
- فلاديمير: أوه … (يفكّر) لا يجب أن تدخل في التفاصيل.
- ستراجون: كوننا قد ولدنا.
هوامش المقال:
◅ كتاب بروست، صموئيل بيكيت: ت، ت عجّة حسين، ط1، دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، 2022.
◅ كتاب مالوم يموت، صموئيل بيكيت: ت.ت شاهين أحمد عمر، ط1، دار الهلال، القاهرة، 1999.
◅ كتاب في انتظار غودو، صموئيل بيكيت: ت. سليمان أزهر، ط1، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2012.
◅ كتاب الزمن المفقود، مارسيل بروست، ت. بديوي إلياس، م. شحيّد جمال، ط1، منشورات الجمل، بغداد، 2020.