سلطة الميديا.. أو عندما يقل الاحتكاك ويكثر الاتصال

د. مصطفى حكماوي

من تأليف فيليب بريتون وترجمة حسن إياس صدر عن دار الينابيع كتاب "يوتوبيا الاتصال: أسطورة القرية الكونية"؛ وهو كتاب يقع في 228 صفحة من الحجم المتوسط، مقسم إلى قسمين كبيرين؛ الأول بعنوان "نشأة المفهوم الحديث للاتصال"، والثاني بعنوان "أزمة القيم وصعود اليوتوبيا".
 

يرى فيليب بريتون ضمن مقدمة كتابه هذا أن مجموعة من العلماء الذين كانوا وراء ثورة الاتصالات التي حصلت بعيد الحرب العالمية الثانية، عملوا على تكريس نمط جديد من الإنسان هو الإنسان المسير من الخارج؛ أي الإنسان المنفعل الذي يتصف بتعامله مع المعلومة في أجواء مغلقة يقل فيها الاحتكاك ويكثر فيها الاتصال، فتتحقق بالتالي يوتوبيا الاتصال، فنحن اليوم نعيش في مجتمع تأكدت فيه سلطة الميديا، واحتكارها شبه الكامل للمعلومة بشكل ليس له مثيل في التاريخ البشري؛ يقول فيليب بريتون: "إن تقديم الإنسان على أنه كائن مكرس بالكامل للاتصال وخاضع لطغيان الصورة، صورته هو، وفي الوقت نفسه تلك التي تقدمها له الميديا أصبح مسيطراً بشكل واسع. يتم كل يوم نشر فانتازم قرية كوكبية على شكل فضاء سيبراني خلف تقدم الطرائق السريعة للمعطيات شديدة الميدياتية".

في القسم الأول من هذا الكتاب يتساءل المؤلف بالقول: لماذا تضفي مجتمعاتنا منذ منتصف القرن العشرين هذا القدر من الأهمية على الاتصال؟ في الوقت الذي نرى فيه أن من الآثار السيئة لتمجيد مجتمع الاتصال بالوسائل كافة، جعلنا نخسر الفائدة الحقيقية التي سنستخلصها من وسائل الاتصال. ويرى أيضاً أن لهذه اليوتوبيا ملامح حداثة كاذبة، وهي تظهر بعض سمات محافظة بشدة. وأن وجود التقنيات في حياتنا اليومية ليس علامة بديهية للحداثة، وأن الحداثة الحقيقية تكون في البدء سياسية، وبعد ذلك تكون تقنية.

وفي هذا القسم أيضاً يرى فيليب بريتون أن مجتمع الاتصال ليس له أعداء من البشر، لكن ذلك لا يعني أنه لا يتعارض من أجل بقائه مع عوامل تهدده. إذن؛ تظل يوتوبيا الاتصال على الرغم من كل شيء يوتوبيا صراع؛ عدو هذه اليوتوبيا الجديدة هو ما أسماه الكاتب بالضجيج "الإنتروبيا" وهو عدو ليس عديم التأثير، بل يكاد يهدد بالسيطرة على العالم، وإن الانتقال الحر للمعلومة وحده يسمح باحتوائه.

في القسم الثاني يرى فيليب بريتون أن فكرة مجتمع الاتصال انبثقت خلال اضطرابات منتصف القرن العشرين، وبتحديد أدق في عام 1942 م وهو التاريخ الذي وسم تحول الصراع العالمي نحو البربرية بشكل نهائي. في ظل هذه الظروف التي غرقت فيها البشرية بالوحشية في أبرز ظاهرتين؛ ظاهرة معسكرات الاعتقال، وظاهرة القنبلتين النوويتين اللتين ضربت بهما هيروشيما وناكازاكي، في هذه الظروف ظهرت يوتوبيا الاتصال الجديدة، ويرى أن هذه اليوتيبيا تظهر في ثلاثة مستويات: مجتمع مثالي، وتعريف أنثروبولوجي آخر للإنسان، والترويج للاتصال بوصفه قيمة. وستتركز هذه المستويات حول ثيمة إنسان جديد يسميه المؤلف "الإنسي الاتصالي".

إن الإنسان الجديد الذي يخرج من أنقاض منتصف القرن العشرين هو إنسان مسير من الخارج، يحصل على طاقته وعلى مادته الحية ليس من خصاله الداخلية الآتية من أعماقه هو؛ إنما من قدرته كفرد موصول مع "أنظمة اتصال واسعة" على تجميع المعلومة ومعالجتها وتحليلها، تلك المعلومة التي يحتاجها لكي يعيش.

وكونه لم يعد مسيراً من الداخل ولم يعد يبحث عن مشروعية الفعل أو القرار من خلال توافقه مع حدس داخلي أو تناغم داخلي؛ فإن البحث عن القيم سيتجه نحو الخارج، نحو أنماط من الاتصال ومن السلوك التي هي إلى حد كبير بوصلات للتوجه ضمن العالم. إن دور الميديا مصمم هكذا بشكل أجوف، مثل الآلة الأساسية التي تسمح للإنسان بأن ينفعل بشكل يتناسب مع ردود الفعل المحيطة به.

هذا الإنسان الجديد إذن لا يتوافق في شيء، من منظور الكاتب، إلا مع محاولة تجميع القطع التي بعثرتها حضارة منهزمة، ويرى الكاتب أيضاً أن هذا الإنسان الاتصالي كائن من دون "جوانية" ومن دون جسد، يعيش في مجتمع من دون أسرار، كائن يتوجه بالكامل نحو الاجتماعي، وهو لا يوجد إلا عبر المعلومة والتبادل، في مجتمع أصبح شفافاً بفضل "آلات الاتصال" الجديدة. هذه صفات إنسان الاتصال، وهو الذي يسهم في تغذية الإنسان الحديث، والتي تبدو كبدائل لتقويض الإنسان، التقويض الناتج عن إعصار القرن العشرين.

إنسان الاتصال الجديد لم يعد كائناً إنسانياً حسب فيليب بريتون، بل كائناً اجتماعياً، يُعرف بالكامل من خلال قدرته على الاتصال اجتماعياً. وبالعودة إلى أَبِ السيبريانية "فاينر"، يرى المؤلف أنه يقف وراء إعادة التمركز التي تسمح بتوصيف الإنسان، ليس كذات فردية؛ إنما بدءاً من نشاطه في التبادل الاجتماعي، وهو بهذا يؤسس لرؤية جديدة للمساواة من خلال استبعاد مسألة الذات بصفتها فرداً معزولاً ومن خلال نقلها صوب النشاط الاجتماعي للتبادل. فالإنسانية الجديدة تخص البشر كافة، لكن يمكن أن تتوسع أيضاً إلى الكائنات كافة المرشحة لكيان الشريك الاتصالي كامل الحقوق.

فالإنسان الاتصالي إذن خلافاً لإنسان القرن التاسع عشر، وحتى النصف الثاني من القرن العشرين، يتصف بأنه كائن من دون "جوانية"، من دون حيز خاص، موقعه غير محدد، لكن محتواه كائن يحدد شخصيته؛ الإنسان في النزعة الإنسانية الكلاسيكية هو إنسان مسير من ذاته، تأتي من هذا التصور تعابير مثل عمق المشاعر أو غنى الحياة الداخلية، وسَيُسهم فرويد من خلال اكتشافه اللاّشعور في تغذية هذا التصور عن الكائن الإنساني كمتحرك من الداخل. لكن، تُقدم اليوتوبيا الجديدة بديلاً للإنسان المسير من ذاته، هو الإنسان الجديد، فهو عكس الإنسان الكلاسيكي، هو "كائن اتصالي" جَوانِيَّته موجودة بكاملها في الخارج، الرسائل التي يتلقاها لا تأتيه من ذاتية أسطورية؛ إنما تأتيه من محيطه، إنه لا يفعل بل ينفعل، لا ينفعل تجاه فعل، بل ينفعل تجاه رد فعل. 

وفي ختام هذا الكتاب يتساءل الكاتب: مـا هو بالفعل نمط الإدارة السياسية لمثل هذا المجتمع؟ ويجيب بأن هناك ثلاث خطوات ضرورية لتحقيق هذه الإدارة الرشيدة: في البدء الضرورة المطلقة بأن يُعترف بالإنسان على أنه كائن اتصالي، وأن تستخدم ملكاته بهذا المعنى، ثم أن تمتلك الآلات في المجتمع الكيان الذي تستحقه، وأن تنقل إليها مسؤولية عمليات السيطرة والقرار، وأخيراً أن ينتظم المجتمع ذاتياً بفضل التأقلم والانفتاح الّلذيْن تتصف بهما طرائق الاتصال. 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها