مع الانتشار الفظيع للقنوات الرقمية والحرية التي تتيحها مواقع التواصل الاجتماعي في النشر، صارت التفاهة تتسلل إلى مستعملي الأنترنيت من كل صوب وحدب، وأصبحت الطرق جميعها تؤدي إليها، وهو ما جعل المتفائلين إزاء التحول الرقمي والثورة الصناعية الرابعة، يشعرون بنوع من الإحباط إزاء الرقمية عموماً وإزاء هذا المد التكنولوجي المستمر، الذي أدى إلى تراجع خطير على مستوى القيم، عوض أن يدفع بالأمم إلى التحضر والرقي؛ بحيث ساعد انتشار التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي على خلق نوع من الانحراف الأخلاقي لدى الأجيال الصاعدة، وجعلنا نعيش تحولًا سلبياً على مستوى منظومة القيم.
فإذا كانت الرقمية والتكنولوجيات الحديثة قد عبرت عن تطور عقل الإنسان وعن ذكائه الذي نتج عنه هذا التقدم الحاصل على مستوى التكنولوجيا والإبداع والابتكار، بحيث استطاع أن يصنع كائنات روبوتية أكثر منه قدرة على التخزين وأكثر دقة في أداء مختلف العمليات المعقدة؛ فإنها في الواقع قد عبرت في الوقت نفسه، خاصة في الدول النامية، على التخلف الكبير الحاصل في مستوى القيم والأخلاق والسلوك البشري، فما يتم إنتاجه عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة من تفاهات يعبر عن انحرافات خطيرة في مستوى السلوك لدى الأفراد المستعملين للأنترنيت والمستعملين للمواقع الإلكترونية الذين يجرون وراء الربح المالي مضحين في ذلك بكل القيم والاخلاقيات التي تنتظم حياة البشر.
أولاً: مشاهد من التفاهة
1. نساء يتباهين بالتبرج:
من بين مظاهر التفاهة التي انتشرت بشكل مقرف على مواقع التواصل الاجتماعي وبشكل مثير للاشمئزاز، ظهور نساء يتباهين بما يقمن به يومياً من تفاهات يومية تثير المشاهد وتجذب إليها المراهقين عبر مظاهر الفحش والتبرج والكلام الفاحش، في ظل تفشي الفساد الإلكتروني وبحث الغوغاء من الناس عن التفاهة التي تزيد من مستوى المشاهدة، ومن ثمة من الأرباح حتى صارت بعض النساء اللواتي يبحثن عن الشهرة والمال يلجأن إلى تصوير أنفسهن في وضعيات تخلو من العفة والحشمة والوقار لاجتذاب جمهور المشاهدين، وفي غياب الرقابة على النشر وفي غياب المتابعة القضائية لمظاهر الفساد الإلكتروني، صار عدد هؤلاء الباحثات عن الشهرة والمداخيل المالية عبر ما يمكن تسميته الدعارة الرقمية صار يتضاعف بشكل يومي، ويجر أسراً بأكملها إلى هذا النوع من التفاهات التي صار لها جمهورها الخاص من الباحثين عن التفاهة والقذارة.
2. مراهقون يتباهون بأشكال اللباس التافه والمظهر المخل بالحياء:
ظهر في الآونة الأخيرة مراهقون يتباهون بتفاهاتهم من لباس وموضة في الحلاقة وما إلى ذلك من أشكال التفاهة، وهو ما جمع لهم جمهوراً كبيراً من المراهقين والباحثين عن التفاهة، يتفاعلون معهم، حيث إن البعض منهم حققوا في فترة وجيزة عدداً هائلًا من المشاهدين فاق الملايين من المشاهدات التي لم يحصل عليها أكبر العباقرة في العالم في مجالات العلوم والفنون والآداب، وهي من الأمور التي شجعتهم على أن مضاعفة الجهد لإنتاج مزيد من التفاهات على اعتبار أنه في عالم الأنترنيت تترجم تلك المشاهدات إلى محاصيل مالية، بغض النظر عن نوعية ما يتم نشره، وفي غضون تلك المنافسة بين من ينشرون التفاهة يتم نشر مزيد من الفيديوهات التي نجد فيها تنابزاً بالألقاب بينهم في شكل ما يسمونه "كلاشات" بلغة الشارع، ينشرون فيه كلام الشارع الذي يزيد الطين بلة، حيث يتفاعل معهم المراهقون، ويتباهى من يسمون أنفسهم صحفيين مع تلك الإنتاجات التافهة على اعتبارها حديث الساعة.
3. تجارب عاطفية تافهة:
تنشر بعض الفتيات بكل وقاحة تجاربهن وعلاقاتهن العاطفية بشكل مقزز لجذب المراهقين والباحثين عن التفاهة، وهذه السرديات والمغامرات العاطفية تحمل أحياناً معالم الجريمة الكاملة الأركان، والتي يفترض إن كانت هناك مراقبة صارمة على ما يتم نشره، أن يتم اعتقالهن ومساءلتهن باعتبارهن مروجات لأشكال الفساد والرذيلة والميوعة، فضلا عن الاعتراف بما قمن به من أشكال الفساد التي تستدعي المساءلة والمحاسبة القانونية.
4. نشر الفساد باسم الفن:
من أشكال التفاهة كذلك ظهور بعض المحسوبين على الفن وهم يقومون بحركات مخلة بالحياء ورقص خال من الحشمة، فضلًا عن التفوه بكلمات تخدش الحياء إما بشكل مباشر مع الجمهور أو من خلال ما يشبه الأغاني التي تحمل معاني تفيض فساداً من قبيل السب والشتم والتنمر اللفظي وما إلى ذلك من الأمور التي تعبر عن انحطاط فني كبير، لكن مع استغلال الحرية في التعبير وغياب المراقبة والمتابعة القانونية تتراكم هذه التجارب الشاذة التي تجمع إليها جمهوراً عريضاً من الشباب والمراهقين والأطفال الذين صاروا يقلدون هذا النوع من التفاهات الدخيلة على المجتمعات المحافظة، وخاصة منها المجتمعات العربية والإسلامية.
5. الكلام الفاحش:
من مظاهر التفاهة أيضاً والتي صار الشباب يطبعون معها التفوه بالكلام الفاحش والخادش للحياء لشد أنظار الجماهير، والرفع من عدد المشاهدين والمتفاعلين، بحيث صار الكلام الفاحش بمثابة الموضة التي ينساق إليها المراهقون، والتي تحولت للأسف من المجتمع الافتراضي إلى الواقع الاجتماعي، فصار من النادر ألا تسمع وأنت تمر في الشوارع الكلام الفاحش، وذلك ما يعتبر دخيلًا على مجتمعاتنا العربية الإسلامية المعروفة بالمحافظة والحياء ونبذ الأخلاق.
ثانياً: من أسباب انتشار التفاهة الرقمية
1. جشع المال:
يمكن اعتبار الجشع من بين أهم العوامل التي دفعت إلى صناعة التفاهة؛ إذ لم يعد للقناعة، للأسف، مكان في مجتمعاتنا اليوم، بما فيها المجتمعات العربية التي تعيش اليوم ما عاشته أوروبا في القرن التاسع عشر من جشع المال عبر عنه بعض الروائيين أمثال دوستويفسكي (Dostoïevski) في روايته "الإخوة كارامزوف" وهنري دي بلزاك (Honoré de Balzac) في روايته "الأب غوريو"، هذا الجشع للمال في ظل تزايد متطلبات الحياة وعدم قناعة الإنسان بواقعه وجريه وراء الربح السريع بجميع الطرق المشروعة منها وغير المشروعة، بأخلاق وبدون أخلاق، والتي تنم عن نزعة فردانية ذاتية ومادية محضة دفعت الكثير إلى التفاهة، وإلى أن يبذلوا قصارى جهدهم من أجل المال مضحين بالقيم والأخلاق.
2. البحث عن الشهرة:
فضلًا عن جشع المال؛ فإن جشع الشهرة لدى البعض تدفع إلى نشر التفاهة، علماً أن الهدف من الشهرة يكون في الغالب هو المال أيضاً، بحيث صرنا نرى بعض المتسلقين للوصول إلى الشهرة يستعملون جميع الوسائل والطرق التي تجذب المشاهدين على صفحات التواصل الاجتماعي، بل إننا نرى من هؤلاء المحسوبين على الفن يذهبون إلى استعمال مختلف الوسائل من أجل جذب الجماهير؛ وصار بعض الذين لديهم طموحات كبيرة للشهرة، يكسرون جميع الحواجز القيمية والأخلاقية وكل الأعراف حتى ولو أدى بهم ذلك إلى الاعتقال الذي صار كذلك مجلباً للشهرة، إذ نجد على القنوات الإعلامية الإلكترونية وعبر مختلف المنابر الإعلامية الرقمية عدداً كبيراً من المساجين يحكون تحاربهم مع الجريمة والاعتقال، بل والجرائم التي تتم داخل السجن نفسه، بحثاً عن الشهرة والمداخيل التي تزداد بازدياد المتفاعلين مع ما يتم نشره من تفاهات.
ما الذي يساعد على انتشار التفاهة؟
3. تسيب الإعلام:
في ظل الميوعة الإعلامية التي أنتجتها مواقع التواصل الاجتماعي، يتم الترخيص للجميع في العصر الرقمي أن ينشر ما شاء، وأن يسمي نفسه صحافياً وهي من الأمور التي تسائل القائمين على الإعلام خاصة في الدول العربية التي كثرت فيها القنوات الإعلامية التي تغيب فيها شروط الصحافة، ولا تستجيب لدفاتر التحملات التي تنظم عادة تأسيس قنوات إعلامية، ولكن يتم الترخيص لها باسم الصحافة فتنشر الفساد، بحيث تجد مئات وأحياناً آلاف القنوات الإعلامية الخاصة لكن المرخص لها قانوناً، على أنه لا يتم متابعتها في ما تنشره من أشكال الفساد والتمييع والانحراف.
فضلًا عن ذلك فإن مواقع فيسبوك ويوتيوب صارا ملاذ الباحثين عن الشهرة، ولكون الأداء والأرباح تتم من خلال عدد الزوار والمشاركين والمنخرطين في تلك القنوات فإن نشر التفاهة بأشكالها المتعددة يعتبر مجلب الأرباح لهؤلاء الباحثين والباحثات عن الاغتناء خارج منظومة القيم والأخلاق، وفي غياب المحاسبة يزداد نشر التفاهة وينمو كما الطفيليات.
4. تفاهة الجمهور:
هل يمكن الحديث عن جمهور تافه، أو عن متلفق تافه، نعم إنه في غياب الذوق الفني السليم والإنسان المتخلق، إن صح التعبير، وفي ظل الفراغ القاتم لغياب الهدف وغياب برنامج عمل، فإن من يتابع التفاهة لا بد أن يكون متلقياً تافهاً يساهم في نشرها.
غير أنه للأسف تجد أحياناً أن التفاهة تجر إليها في أحيان كثيرة حتى هؤلاء الذين يظنون أنهم محصنون ضد التفاهة؛ لأن الصورة تجذب المتلقي حتى دون رغبته، أحياناً، بل إنها تجر حتى الذين ينتقدون التفاهة ويحاولون صد التفاهة بالكتابة أو النقد أو التوعية، وذلك عبر الانخراط في متابعة التفاهة، وذلك هو هدف صانعي التفاهات، أي الزيادة في عدد المشاهدات والتفاعل معها، علماً أن الآلة لا تفرز الصالح من الطالح، ولا تميز الكتابة الناقدة والمفندة والرافضة عن تلك الكتابة أو التعليق المؤيد والمشجع، فلا يهم بمنطق الرقمية إلا كم المشاهدين والمتابعين والمعلقين، فتزداد التفاهة انتشاراً ونمواً، ويزداد التافهون تشجيعاً على نشر مزيد من التفاهات وتطوير آليات نشرها وتضخيم محتوياتها.
5. تراجع الذوق الفني والجمالي:
يعبر هذا الانتشار الفظيع للتفاهة، أيضاً، عن تراجع الذوق الفني والجمالي، بل عن تغيير في فطرة الإنسان التي تميز بين القبيح والجميل، وبين الغث والسمين، بحيث إن غياب ذوق فني جيد ساهم في انتشار التفاهة والتافهين، وإلا كيف نفسر مثلًا أن محتوى تافهاً جمع أشكال الفحش والانحراف يجر ملايين المشاهدين في بضعة أيام، في حين لا تلاقي محاضرة أكاديمي عالمي، أو لوحة فنان راق، أو قصيدة شاعر عظيم، أو موعظة شيخ صالح من المتابعات والتفاعلات إلا النزر القليل الذي لا يتجاوز العشرات أو المئات في حيز زمني قد يتجاوز السنة، ألا يعبر ذلك عن تراجع في الذوق، وعن غياب في الوعي، وتراجع في الذوق، وانحسار ثقافي وعلمي وفني كبير.
6. غياب الحكامة الرقمية:
يبدو أن غياب الحكامة الرقمية، خاصة في الدول النامية، وعدم التعامل القانوني بشكل جاد مع من ينشرون هذه التفاهات من أشخاص ومن مواقع إلكترونية، قد ضاعف من نسبة التفاهة والتافهين على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب غياب الرقابة على الإنتاج الرقمي والنشر الإلكتروني، هذا الغياب للرقابة وللمحاسبة والمتابعة القانونية يسائل طبعاً القائمين على الشأن الصحفي، فضلًا عن المحاكم الإلكترونية والقضاء الإلكتروني ومسؤولي الجرائم الرقمية الذين لا يعون خطورة هذه التفاهات على المجتمع، والذين يساهمون في تمييع المجتمع وفي إفساد الشباب، فغياب الرقابة وغياب المتابعة يراكم إنتاج مزيد من التفاهات ونشر مزيد من المحتويات التافهة التي تمس بشكل مباشر أو غير مباشر كرامة الإنسان، وغالباً ما يكون فيها وبشكل واضح اعتداء على حقوق الإنسان المدنية والسياسية أحياناً.
ثالثاً: كيف نتصدى للتفاهة الرقمية؟
1. الحكامة الرقمية ودور السلطة:
لا بُدّ من حكامة رقمية تضمن نوعاً من الموازنة بينما تتيحه الفضاءات الرقمية من حرية للنشر، وبين الأخلاقيات التي ينبغي أن توازي هذا النشر، بالضمانة نفسها التي نجدها في الإعلام الرسمي الذي يخضع لدفاتر تحملات يكون عدم احترامها موجباً للمتابعة القانونية، والحق أن الحكامة الرقمية لا يمكن أن تتحقق دون تدخل السلطة لمحاكمة الذين ينشرون التفاهة، خاصة أن أغلب تلك التفاهات تكون مرتبطة بجرائم واضحة المعالم تستوجب المتابعة القانونية وتدخل القضاء الإلكتروني، من ذلك مثلًا الممارسات اللاأخلاقية التي يتم توثيقها إلكترونياً، أو الكلام النابي الذي يمس بالأخلاق العامة، أو السب والشتم والقذف الموجه إلى أشخاص بعينهم، أو التهديد، أو الجهر بمظاهر الفساد، فحين يصرح أحدهم أنه باع المخدرات أو اشتراها، أو أنه يتعاطاها خاصة هؤلاء الذين يوثقون تفاهتهم عبر تصوير مقاطع تثبت تعاطيهم المخدرات فهؤلاء لا يحتاجون سوى إلى تفعيل محاكمتهم، وهو ما سيدفعهم فوراً إلى التوقف عن تفاهاتهم.
2. نشر الوعي الرقمي:
كما سبق أن أكدنا في الفقرات السابقة؛ فإن التفاهة تنتشر بتزايد المتابعين لها، والمتفاعلين معها، وذلك ما يهدف إليه ناشرو التفاهات، فحتى هؤلاء الذين يتابعون التفاهة بقصد انتقادها أو تحذير الناس منها أو ما شابه، فيشاهدونها أو يعلقون عليها، فهم في نهاية المطاف إنما يضاعفون من أرباح ناشري التفاهة الذين يعولون على المشاهدة والتفاعل لتحقيق مبتغاهم من الأرباح، وهو ما يشجعهم على نشر مزيد من التفاهات وبمزيد من الوقاحة التي تستفز الجمهور وتجذبه، لهذا يبقى الحل الأساس لإيقاف التفاهات هو عدم متابعتها وعدم التفاعل معها والإعراض عنها، فيمكن أن نميت الباطل بالسكوت عنه، كما يقال، وليس بإذاعته، أو بالتفاعل معه ولو بانتقاده، فكل تفاعل مع التفاهة هو في الواقع تشجيع لها ولناشرها، وإيقافها لا يكون إلا بالإعراض عم متابعتها أو التفاعل معها.
هكذا يبدو أن التفاهة صارت سبيل الباحثين عن الاغتناء السريع ولو على حساب الأخلاق والقيم العليا والذوق السليم، وإيقافها يحتاج في الواقع إلى مزيد من الوعي بمخاطرها على اعتبار أنها تدمر العقول، وتستنزف الوقت، وتقضي على الذوق السليم، وتسهم في نشر الرذيلة وفي تمييع المجال الرقمي، وذلك فضلًا عن خطورتها على الأخلاق والقيم الاجتماعية، ولعل من بين السبل الكفيلة بالقضاء عليها المتابعة القضائية لناشري التفاهة باعتبار ما ينشر من تفاهات تسيء للناس وتعتدي على حقوقهم وعلى كرامتهم جريمة يعاقب عيلها القانون، فضلًا عن نشر ثقافة سليمة حول الرقمية والنشر الإلكتروني تحصن مستعلمي مواقع التواصل الاجتماعي ضد متابعة التفاهة، فضلًا عن التفاعل معها أو الإسهام في إذاعتها ونشرها.