تيمة الحرب في روايات نادية الكوكباني

مقاربة نقدية في تسريد أحداث "حصار السبعين"

د. عبده منصور المحمودي



من التيمات الرئيسة، التي قامت عليها التجربة السردية، في روايات الكاتبة نادية الكوكباني، تيمة "الحرب"؛ إذ جاء تسريد هذه التيمة متفاوتًا من إصدارٍ إلى آخر، في المنجز الروائي، الذي وصلت فيه تجربة الكاتبة إلى رواياتٍ أربع: "حب ليس إلّا"، و"عقيلات"، و"صنعائي"، و"سوق علي محسن".
 

ويأتي في صدارة هذا المنحى السردي، التعاطي مع الثورة اليمنية، 26 سبتمبر/ أيلول 1962، التي كانت منطلقًا لتكثيف سردي أوسع، في التعاطي مع تداعيات هذه الثورة، وما توالى بعدها من حرب وصراع سياسي، لاسيما ما يتعلق منه بحرب "حصار السبعين يومًا"، الذي فرضه الملكيون على مدينة صنعاء، ما بين تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، وشباط/ فبراير 1968. ومن ثم تسريد ما أفضى إليه الانتصار في هذه المعركة من صراعٍ دامٍ بين الثوار، بعد انقسامهم على اتجاهين: الأول اتجاه تقليديٌّ، والثاني تنويريٌّ حداثيّ.

 

الحرب في سياق الحب:

قامت المركزية السردية في رواية "حب ليس إلّا"، على تسريد تجربة الحب والعاطفة المشاكسة لأنساق اجتماعية، غير متصالحة مع هذا النوع من التجارب الإنسانية. وعلى ذلك، فقد تضمنت هذه الرواية تجلياتٍ من تسريد الثورة و"حصار السبعين"؛ إذ تضمّن حديث الشخصية الرئيسة فيها "فرح"، إشارةً إلى حرص أبيها على كثرة الإنجاب، حتى لا يرث أبناؤه الشعور بالوحدة التي عذبته طوال حياته، "بعد أن حرمه المرض من شقيقته الكبرى، نتيجة عدم الرعاية الصحية والتخلف قبل قيام الثورة في 1962 وبعد أن حرمته رصاصة غادرة آثمة، مجرمة، ظالمة، من شقيقه الوحيد وهو مستظل تحت شجرة إبان قيام الثورة. لقد أطلق الرصاصة من أنصار الحكم الإمامي السابق ... وكان رصاصهم يصطاد الآمنين دون تدقيق في ميولهم الثورية من عدمها، في تلك الفترة"، (ص: 8).

وعلى لسان "فرح" ــأيضًاــ وردت إشارة إلى حرب "حصار السبعين"، في سردها لبشائر السعادة التي كانت تغمر أباها مع كل مولودٍ جديدٍ، لاسيما في استقباله لمولوده "سلى أوائل العام 1968، تحديدًا في شهر فبراير، الشهر الذي انتهت فيه حرب السبعين يومًا"، (ص: 9).

الحرب.. والانتهازية السياسية:

على ما اتخذتْه الرؤية السردية في رواية "عقيلات" من غايةٍ ــ تمحورت في تسريد تجارب نسائية متعددة في معاناة الثقافة الذكورية، أو الاصطدام معها ــ فقد كان لهذا البُعد السردي (الثورة و"حصار السبعين") حضوره العابر، في التعريج على حياة أب الشخصية الرئيسة "روضة"، وإضاءتها من زاوية ممارسته للانتهازية السياسية، في موقفه من أحداث الثورة فور اندلاعها؛ إذ فر من قصر الإمام ــ الذي كان يعمل فيه ــ إلى منزل جد "روضة" لأمها، وبقي فيه حتى أعلن الثوار عن انتصارهم، فسارع إلى سرقة ما استطاع سرقته، من كنوز قصر الإمام، ثم أخبرهم بما بقي منها، (ص: 59ــ62).

والأمر ذاته، كان في تعاطيه مع حرب "حصار السبعين"؛ إذ اختفى طيلة أيامها، ولم يخرج من مخبئه إلّا بعد انتهائها، ليمارس سلوكه الانتهازي، في "انضمامه لصفوف الثوار من جديد وإقناع كل رئيس جبهة أنه كان على الجبهة الأخرى من القتال"، (ص: 251). ثم اتخاذه الطريق الانتهازي نفسه، متقلبًا في مواقفه مما استجد بعد ذلك من صراعٍ دموي؛ إذ "كان كالحرباء في مهادنته لجميع الأطراف من الجمهوريين المختلفين في وجهات النظر لترسيخ الحكم، ليعرف من الذي سيمسك بزمام الأمور ليكون معه"، (ص: 251).

مركزية الحدث:

كانت السياقات السردية ــ المتعلقة بأحداث الثورة و"حصار السبعين"، في الروايتين الأولى والثانية من هذه التجربة السردية ــ سياقاتٍ ثانوية ضمن نسيج حكائي خاص بتجربة عاطفية في الأولى، وبتجارب نسوية في الثانية، لكنها لم تكن كذلك في الرواية الثالثة "صنعائي"، التي مثّل فيها تسريد هذا البعد التاريخي سياقاتٍ رئيسة وجوهرية.

تحكي الرواية قصة الفتاة اليمنية "صبحية" ــ شخصيتها الرئيسة ــ التي ولدت في صنعاء، وهاجرت مع عائلتها إلى القاهرة، وبعد ما يقارب ثلاثين عامًا، عادت مع أمها إلى اليمن، وكانت غاية عودتهما تنفيذ وصية أبيها بدفنه في صنعاء، وصلتا إلى صنعاء ومعهما جثمانه، وعملتا على تنفيذ وصيته، فاستضافته مقبرة "خزيمة" أشهر مقابر المدينة.

ومن تسريد حدث العودة ومراسيم التشييع والدفن، تناسلت أحداث الرواية، تناسلًا منسوجًا بغايةٍ واحدة، تمثلت في سعي "صبحية"، إلى الكشف عن إشكالية العلاقة بين أبيها ومدينة "صنعاء القديمة"، فعلى كثرة ما عرفتْه من حبه لها وحديثه عنها، إلّا أنها احتارت في اصطباره على غربته بعيدًا عنها.

سردية تفكيك الحيرة:

كانت تلك الغاية التي تسعى إليها "صبحية" ــ المتخصصة في دراسة الفنون الجميلة ــ نسقًا فاعلًا في تضفير السياقات السردية؛ إذ بدأت في العمل على تفكيك حيرتها، فاستأجرت إحدى دور مدينة "صنعاء القديمة"، وجعلت منها مرسمًا، وفيه نشأت قصتها مع "حميد" ــ الشخصية المحورية الأخرى المهمة في تسريد الأحداث ــ وقد كان فن الرسم قاسمًا مشتركًا بينهما، وأكثر منه كان اشتراكهما في حب مدينة "صنعاء القديمة"، ثم اشتراكهما في ثورية أب كلٍّ منهما. وبذلك، نمت عاطفة الحب بينهما، وتكررت لقاءاتهما الثرية بالحديث عن صنعاء، وعن أحداث متعددة من تاريخ اليمن الحديث.

وجدت "صبحية" ــ في علاقتها مع "حميد" ــ سبيلًا إلى تحقيق رغبتها، في أن تظفر بزوج من صنعاء؛ لتعيش فيه ماهية المدينة التي عشقها أبوها، لكنها لم تنل مرادها؛ إذ انتهت هذه العلاقة بالقطيعة. وعلى ذلك، فقد كانت هذه التجربة العاطفية ــ بمعية سياقات وأحداث سردية متعددة ــ فاعلة في الوصول بـ "صبحية" إلى تفكيك ذاك اللغز الذي احتارت فيه.

على لسان "حميد"، بدأت سردية هذا البعد من تيمة الحرب؛ في استرجاعه ذكريات من ماضي طفولته، كحديث أمه عن ثورة 1948، التي اغتيل فيها الإمام يحيى حميد الدين، وتصدى ابنه أحمد للثوار، وجزّ أعناق كثير منهم، وإليه انتقلت مقاليد الحكم، فغادر صنعاء إلى مدينة تعز، وفيها قضى على معظم معارضيه، قبل أن تفشل محاولة اغتياله في العام 1959، التي ألحقت به آثارًا بالغة انتهت معاناته لها بوفاته، فقامت ــ على إثر ذلك ــ الثورة السبتمبرية 1962، التي اشترك فيها أب "حميد"، وسمعت "صبحية" بعض تفاصيلها من ابنه حبيبها، وهو يتحدث إليها ــ أيضًا ــ عن الانقسام الاجتماعي حول الثورة الوليدة، بين مؤيد لها ومؤيد للنظام الذي ثارت عليه، وما ترتب على ذلك من استمرار الحرب طيلة خمس سنواتٍ، أدت إلى خسائر مادية وبشرية فادحة.

"غمدان" رافدٌ تفكيكي:

مثلت شخصية "غمدان" ــ الذي كان يزور أب "صبحية" في القاهرة، كونه ابن أحد زملائه، وسبق لها أن رأته في تشييع جنازة أبيها ــ رافدًا جديدًا، استقت منه كثيرًا من تفاصيل الحرب، التي اندلعت بعد انتصار معركة "حصار السبعين"، بين القوى التقليدية والقوى المدنية.

تحدث إليها "غمدان" عما اختزنته ذاكرته من تلك الأحداث؛ إذ قُتل فيها أبوه وكثيرٌ من أنصار الحداثة والتنوير، الذين فتكت بهم القوى التقليدية، بحسب ما عرفه ــ فيما بعد ــ من أحدهم، وتحدث عنه إليها: فهو الذي انتفض حينما مرت جنازة أبيها من أمامه، وشارك فيها، ثم اختفى، كان اسمه "عبده سعيد"، لاذ بالجنون بعد تلك الأحداث وبقي في صنعاء، وتوالت المأساة وصولًا إلى ذروتها التي تمثلت في اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، فكان اغتياله اغتيالًا للرؤية الوطنية المناهضة للرؤى التقليدية، التي استحوذ أصحابها -بعد ذلك- على مقاليد السلطة والحكم.

تشبيك خيوط التفكيك:

في سياق سعي "صبحية" إلى تفكيك حيرتها، تأتي زيارتها لـ"المتحف الحربي" بصنعاء، وأكثر ما لفت انتباهها فيه كانت حجرة مقتنيات "حصار السبعين"، تأملت في محتوياتها، فتذمرت من التعاطي الرسمي مع هذه المعركة بصورةٍ لا تليق بها. كما تأملت في صور المشاركين في فك الحصار، ولاحظت من بينها صورة لأبيها، وأخرى لبطل تلك المعركة: "رأيت صورة أبي مع الصور الجماعية لقوات الصاعقة. لديه صور كثيرة، بهذه الملابس المرقطة؛ لكني أول مرة أرى هذه الصورة في المتحف ... كان هناك استثناء لكل تلك الصور الجماعية. صورة كبيرة منفردة لرجل في ذروة شبابه... كُتِبَ تحتها: "بطل حصار السبعين النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب"" (ص: 179،178).

وبعد هذا التنوع الذي أثرت به "صبحية" مادة بحثها عما يزيل حيرتها، عملت على ربط خيوطه، والاستضاءة به في استيعاب ما تضمنتْه أوراق أبيها ومذكراته وقصاصاته، فوقفت على سيرة بطل الحصار، وما دوّنه أبوها عنه، وعن بعض أحداث الصراع بين الجمهوريين، من ذلك أن بطل فك الحصار كان "محنكًا وعسكريًّا شجاعًا؛ غير أن فتنة بين القوى التنويرية الحداثية والقوى الرجعية المتخلفة اندلعت بين صفوف الجيش الجمهوري، وكان على رأس جانبٍ منها، في 22 و23 و24 أغسطس 1968، أسفرت عن مواجهات دامية بين بعض فصائل الجيش. وعقب هذه المواجهات أُبعد مع واحد وعشرين ضابطًا إلى الجزائر، بحجة أنهم كانوا وراء إشعال فتنة ذلك الصراع الدموي؛ فمكثوا هناك شهرًا، ثم عادوا إلى مدينة صنعاء، وعاد هو إلى مدينة عدن، ومكث فيها فترة قصيرة، ثم عاد إلى مدينة صنعاء، فقتل بعد ذلك بأيام"، (ص: 232).

واطّلعت ــ في السياق ذاته ــ على القصاصات التي كانت جزءًا من مذكرات أبيها، فوقفت على ما تضمنته بعضها من إشاراته إلى الظلم الذي لحق بأبطال الثورة، لكنها بعد الانتهاء منها ومن أوراق أبيها، لم تجد في أي منها سيرته أو سيرة أحدٍ من زملائه، و"أدركت لماذا فضل الابتعاد! مرارة ما حدث قادرة على أن تهزم أقوى الرجال"! (ص: 238).

ثم كانت في انتظارها أوراق أخيرة، لم تكن ضمن ما اطلعت عليه من تلك المذكرات والقصاصات، إذ احتفظت بها أمها بصورة استثنائية، وقد كانت رسالة كتبها الأب ووجهها إلى ابنته "صبحية"، فقرأت فيها حديثه إليها عن حرب "حصار السبعين"، واستبساله ورفاقه في الدفاع عن صنعاء، وما جاء بعدها من صراعٍ دامٍ، مؤكدًا لها "أن جوهر الصراع كان في خشية القوى التقليدية من قوى الحداثة والمدنية"، (ص: 265).

من خلال هذه المسارات المتعددة، التي اتخذت منها "صبحية" ميدانًا لسعيها إلى غايتها ــ المتمثلة في رغبتها في تفكيك لغز حيرتها ــ عرفت دور أبيها النضالي في الثورة، وحرب "حصار السبعين"، وما تعرض له بعد الانتصار، إذ تنوعت الحرب الانتقامية التي شنتها القوى التقليدية عليه وعلى رفاقه بين القتل والاعتقال، وقد كان نصيبه منها السجن، فتعرض فيه للتعذيب النفسي والجسدي طيلة عامٍ ونصف، أفُرج عنه بعدها، فغادر وأسرته الوطن كله، إلى القاهرة، ليعيش فيها منفى اختاره لنفسه، بعيدًا عن احتدام الصراع في بلده بين الحداثة والرجعية.

"رافِعُ الصورتين" امتدادٌ سرديّ:

تضمّنتْ رواية "سوق علي محسن" ــ التي تقوم سرديتها على التعاطي مع أحداث فبراير 2011 ــ بعض الأنساق المتعلقة بحرب "حصار السبعين"؛ إذ وردت بعضُ شخصيات رواية "صنعائي"، بالأسماء ذاتها، "حميد/ صبحية/ عبده سعيد"، مرتبطة بالأحداث والصفات ذاتها، فتحدثت "صبحية"، مع "حميد" في هذه الرواية، عما تمثّله الثورة الشبابية، من فرصة لاستعادة الأحلام التي ضحى من أجلها أبوه وأبوها، إبان الثورة وحرب "حصار السبعين". مع إشارة إلى ماهية هذه الحرب التي فشل فيها أنصار الإمامة في إعاقة الثورة، بعد أن تصدى لهم الثوار المخلصون، ومنهم كان أب "صبحية".

وضمن النسيج السردي الذي أحال على معركة الحصار وما بعدها، تأتي مفاجأة "صبحية" بشخصٍ يرفع حاملًا خشبيًّا عليه صورتان، الأولى للرئيس إبراهيم الحمدي، والثانية لزميل والدها، بطل هذه المعركة عبد الرقيب عبد الوهاب. وبهذا النسق السردي، انعقدت الصلة بين هذه الرواية وسابقتها ــ رواية "صنعائي" ــ من خلال تسريد رواية "سوق علي محسن"، لبعض أحداث "حصار السبعين"، وبوجهٍ خاص ما يتعلق منها بهذه الشخصية "عبده سعيد"، التي تمحور فيها استيعاب مضامين الصلات السردية بين الروايتين.

تكرر حضور شخصية "عبده سعيد"، مقترنًا برفعه لصورتي القائدين الاستثنائيين، في ساحة جامعة صنعاء. وحينما لفتَتْ حالُه هذه انتباه "صبحية"، تذكرت صورة بطل الحصار، التي رأتها في مذكرات والدها، وتساءلت عن رافع الصورتين: "هل يمكن أن يكون هذا الرجل صديق والدها الذي تبحث عنه؟! هل يمكن أن يكون الرجل الذي حدثها عنه "غمدان"، ابن صديق والدها، وقال لها إن اسمه "عبده سعيد"، وإنه اختار ادعاء الجنون ليظل في مدينته ومعشوقته صنعاء، التي أحبها وقدم للدفاع عنها من مسقط رأسه في تعز"؟ (ص: 118).

لقد كان هو الرجل ذاته الذي تتساءل عنه، وهو الذي تحدث إلى "غمدان"، في رواية "صنعائي"، عن هذين القائدين. وهو مَنْ عالجت رواية "سوق علي محسن" رفعَه لصورتيهما في الساحة الشبابية، وصعوده بهما إلى منصتها، ومن ثم انطلاقه لرفعهما أعلى النصب التذكاري "الإيمان يمان والحكمة يمانية"، فحاولت "صبحية" ــ حينها ــ الحديث معه عن إدراكها لحقيقة حرب الرفاق، "لكنه تعمد الاختفاء كزئبق يسيل في قاع فسيح، فلا تتمكن من الإمساك به أو رؤيته. اختفى من أمامها، وعن ناظريها. زاد ما فعله من حيرتها" (ص: 123).

الحيرة تنبت اختفاءً:

استقصى السياق السردي ما تركه اختفاء الرجل، من حيرة لدى "صبحية"، إذ أشركت معها في البحث عنه بعض الناشطين في الساحة، لاسيما "كمال"، الذي تحدثت معه في الأمر، وصادفت ــ وهي وإياه في جولةٍ لهما في الساحة ــ خيمةً، عُلِّقت على واجهتها من الخارج صورتا القائدين الاستثنائيين، فتساءلت أتكون خيمة الرجل؟! ثم طلبت من "كمال" استيضاح الأمر، فنادى، لكن لم يكن في الخيمة أحد، سأل في الخيمة المجاورة عمن يسكنها، فقيل له: "إن الخيمة نصبها رجل مسن يدعى "عبده سعيد"، وعلق على واجهتها هاتين الصورتين" (ص: 171).

تهللت أسارير "صبحية"، وهي تسمع اسم الرجل الذي تشتاق إلى الحديث معه، سوف تبحث عنه، فقد اقتربت من معرفة سر اغتراب والدها، "أصبحت قريبة من أن ترتاح، وتشعر بحقيقة صراع الرفاق في أحداث حصار صنعاء، و"أحداث أغسطس" الدامية التي تلت فك الحصار عام 1968" (ص: 171).

تعضيد الصلات السردية:

تميزت السياقات في رواية "علي محسن"، بنوعٍ من النباهة البنائية، القائمة على التقاط الحدث المتجانس مع ماهية أحداث أغسطس القديمة، واستثماره في تعضيد الصلات السردية بين هذه الرواية ورواية "صنعائي" من جهة، وبين الحَدَثَيْن ــ القديم والمعاصر ــ من جهة أخرى.

تمثّل ذلك، في توظيف حدث الانقسام والصراع بين قوى التقليد والقوى المدنية، الذي آل إليه فك الحصار عن صنعاء قديمًا، وامتد إلى الساحة الشبابية الحديثة، فكانت "صبحية" وصديقتها "بشرى" في طرف القيم المدنية المناوئة للقوى التقليدية، التي تمثّلت في عسكرة الساحة وتسيسها.

تعرضت الفتاتان للأذى، فلاحظت "صبحية"، أن مَن حاول حمايتهما هو الرجل ذاته ــ رافعُ الصورتين ــ وأن "الحامل الذي ضرب به العسكري .. كان ذات الحامل الذي رأته ممسكًا به وعليه صورة عبد الرقيب عبد الوهاب وإبراهيم الحمدي عندما صعد إلى المنصة قبل أيام، وتعمد الاختفاء من أمامها" (ص: 202).

على ما وصلت إليه "صبحية" من تفكيك للغز حيرتها، من خلال استضاءتها بكثير من المعطيات، لكنها على ذلك، تشعر أن لدى رافع الصورتين ما يثري هذه المعطيات، وأن لديه ما لم تظفر به من خيوطٍ أعمق تفسيرًا لحيرتها. وقد عزز حدسها هذا هروبُ الرجل من الحديث معها، فاندهشت من هروبه المتعمد منها، وتحدثت عن ذلك إلى صديقتها "بشرى".

لقد كان السجن مصير الرجل، بعد القبض عليه وهو يحاول حمايتهما، وكان السجن نفسه مصير "كمال"، الذي أُفرج عنه بعد أيّام، فأخبر "صبحية" بحال "عبده سعيد" في السجن، وكيف كان ساخطًا وغاضبًا، يتحدث عن أمور بعضها مفهوم وبعضها لا يفهمه إلّا القليل، وكيف دخل ضابطٌ ليأخذه، كون "الفندم" يريده، وقبل أن يخرج معه أعطى "كمال" حامل الصورتين، ليسلمه إلى "صبحية"، التي شعرت ــ بعد معرفتها مصيره ــ أن وصولها إليه لم يعد ممكنًا.

الرؤية السردية وتجانس الأزمنة:

استوعب تسريد حيرة "صبحية" ــ ورغبتها في مقابلة "عبده سعيد"، في رواية "علي محسن" ــ الرؤية السردية التي امتدت من رواية "صنعائي"، إلى هذه الرواية. كانت تلك الرؤية تشخيصية للمعضلة الوطنية المتقادمة، الكامنة في الصراع القائم بين القوى التقليدية والقوى المدنية، والفاعلة في إفراغ الحراك الشبابي الحديث من غايته المدنية، كما كانت فاعلة ــ من قبل ــ في إفراغ انتصار معركة "حصار السبعين"، من الغاية ذاتها، في سياق صراع تاريخي ممتد، لم تظهر ملامح انتهائه بعد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها