إدوارد سعيد.. المثقف الموسوعي

عبد الرحمن مظهر الهلوش


في سبتمبر الماضي مرّت الذّكرى السنوية لوفاة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، والذي تُوفي بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر عام 2003م في الولايات المتحدة الأمريكية. الذي اشتهر بين المفكرين والمثقفين في الشّرق والغرب بكتابه الشهير "الاستشراق" (1978م). حيث يُعدّ الأكاديمي الفلسطيني -الأميركي الرّفيع، عدو السرديّات الملفقة وصائد مثقفي الاحتلالات، صاحب النصوص المؤسِسة لدراسات ما بعد الكولونياليّة (الاستعماريّة) في جامعات العالم، الذي كان وكأنه جيش من رجل واحد اخترق أقوى حصون الإمبراطوريّات المتقاعدة، وتجرّأ من قلب وارثتها الإمبراطوريّة الأميركيّة على أن يصرخ بالمصفقين جميعاً أن إمبراطورتيكم هذه عارية.
 

كان سعيد في الاستشراق والنظريّة الثقافيّة كما غاليليو أو تشارلز داروين، أو كارل ماركس، أو أنطونيو غرامشي، مؤسس "برادايم جديد" ونسقٍ مغاير كليّاً لكيفية رؤية العالم.

 

 النشأة

وُلِدَ إدوارد سعيد في القدس عام 1935م، لأسرة غنية وعاش في القدس وتنقل بين القدس والقاهرة ودرس في (كلية فيكتوريا)، التي تضم النخبة من الناس من المنطقة العربية، حتى أوائل الأربعينيات عندما عادت العائلة إلى القدس، وأُرسل إدوارد إلى مدرسة (سان جورج) للدراسة، حيث لم يكن يهتم كثيراً بالقضايا العربية والشرق الأوسط، وحتى لغته العربية لم تكن لغة جديدة، حيث أرسله والده الذي يحمل الجنسية الأميركية إلى الولايات المتحدة وقد دَرَسَ في (برينستون) ومن ثم إلى (هارفارد)، وقد حصل على الجنسية الأميركية عام 1953، ونال شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة (هارفارد) في عام 1964.

 البدايات

يُعَدُّ إدوارد سعيد مفكراً متعدد الانتماءات الثقافية، ولن تستطيع أن تنمِّطه أو تحصره في حيّز معرفي ما، مغلق. فهو يمثل باختصار إرادة ونزق وطموح وتمرد المثقف الكوني (الكوزموبوليتي). كان اهتمامه بالأدب الإنكليزي، حتى أن أطروحته للدكتوراه كانت عن أدب الروائي الإنكليزي البولندي الأصل (جوزيف كونراد) بعنوان: "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية"، ويبدو تأثّر سعيد بالأديب والكاتب الإنجليزي جوزيف كونراد صاحب رواية (قلب الظلام)، بوضوح في مختلف كتاباته؛ إذ إن سيرة حياة الرجلين تبدو متشابهة إلى حدّ بعيد فكونراد كان يعاني من التشرّد والمنفى، مع أنه اختار منفاه بنفسه، واختار الكتابة باللغة الإنكليزية، في حين أن سعيد أُجبِرَ على البقاء في الولايات المتحدة بعد إنجاز تعليمه بسبب استيلاء الصهاينة على فلسطين. واضطّر بالتالي للكتابة باللغة الإنكليزية، ولم يبقَ أسيراً لدراسة الأدب المقارن، لكن الهزيمة العربية (1967) كان لها تأثير كبير على سعيد. وفي هذه الفترة بدأ يتعرف على الأفكار الأوروبية الجديدة، وقد تأثر بثلاثة مفكرين: الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984م)، والمنظر البريطاني الشهير، الماركسي، ريموند هنري وليامز (1921-1988م)، وهو مفكر ماركسي ويعتبر من أساطين النقد الأدبي في بريطانيا. وأيضاً بدأ إدوارد سعيد بقراءة المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937)، صاحب (دفاتر السجن)، وفيها ثورة في الفكر الماركسي كتبها غرامشي من داخل السجن أيام حكم موسيليني، حيث ركز غرامشي على الهيمنة والتي استهوت إدوارد سعيد، ولكن التأثير الأكبر على إدوارد سعيد كان للمفكر الإيطالي الكبير جامباتيستا فيكو (1668-1744م)، الذي كتب بنفس روح ابن خلدون في فلسفة التاريخ مع وجود اختلافات بينهما، ولكن بنفس الأسلوب الموسوعي الذي يهدف إلى فهم كيفية تطور المجتمعات وكيف تُقاد تلك المجتمعات.

(كان نقد إدوارد سعيد نقداً براقاً أبرز الطابع (الاستعماري)، و(التوتاليتاري= الشمولي) الذي يتسم به خطاب الغرب عن الشرق، ويشير إدوارد سعيد إلى أنّ أول جمعية استشراقية كانت (الجمعية الآسيوية 1822م) ودورياتها، كمجلة مناجم الشرق 1809))، ويقرر أن الاستشراق في نهاية المطاف كان رؤيا سياسية للواقع، وما تزال مؤسساته وتأثيره الشامل حياً حتى اللحظة الحاضرة. لقد أصبح الشرق، وبخاصة الأدنى، معروفاً في الغرب بوصفه نقيض الغرب المتمم له، وذلك لأن الاستشراق يظل المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق.

 العوالم البديلة وآليات الاستشراق المعقدة

انتقل سعيد في مطاردته للسرديات الغربيّة شديدة الأدلجة في كتابه الأقوى (الثقافة والإمبرياليّة) إلى قراءة نسق أكثر شموليّة في فهم العلاقات بين الغرب المتحضر الحديث وأصقاعه الواقعة ما وراء البحار.

تقول المفكّرة الأمريكية جوديث بتلر: إنَّ "رؤى سعيد العميقة وامتلاكه قدرة استثنائيّة على تخيّل عوالم بديلة ممكنة للصور الديماغوجيّة التي تروجها الإمبراطوريّات هي التي مكّنته من كشف آليات الاستشراق المعقدّة". نُقل عن إدوارد سعيد قوله: (أنا مجرد أستاذ يعلّم استخدامات اللغة وسوء استخداماتها أيضاً). وكأنه يقول إن الإمبراطوريات تكبر في فضاء سوء الاستخدام المتعمد للكلمات. أليست تلك هي خلاصة التاريخ البشري كلّه؟ كما أن الكثيرين يعرفون الدكتور إدوارد سعيد بوصفه رجل الاستشراق وكفى، وقليل منهم يعلم أن الرجل كان من أوائل الذين رصدوا مبكراً ظاهرة العداء للإسلام والمسلمين في الغرب. ومن موقعه الفريد في جامعة كولومبيا اقتحم سبات النخب الأميركية والأوربية وجعل من نفسه رمزاً مغايراً، ليس رمز الفلسطيني المشرد، بل الفلسطيني والعربي والشرقي؛ الناقد القادر المتربع في صدارة الأكاديميا الأميركية، اقتحم أميركا بصفته النموذج الآخر للعربي، لذا تفوق تلميذاً ومحاضراً في هارفارد وييل وأكسفورد، كان متعدد الآفاق والأعماق والاهتمامات والثقافات. فالجامعات الأميركية اعتبرت إدوارد سعيد جزءاً من الثقافة الأميركية. فإذا بأساتذتهم يصفونه قبل نعوم تشومسكي في المكانة والتأثير بالفيلسوف وناقد أدب وصاحب أفكار سياسية، يتحرك انشغاله في القضايا على قوس واسع يشمل مناطق تفكير مختلفة اختلاف الثقافات، ويملأ ثغرات أساسية تتعلق بالأسئلة الكبرى.

 الشرق والغرب.. الثنائية المتجذرة

كان إدوارد سعيد منظمة قائمة بذاتها، فلم يطرح نفسه كداعية سياسي؛ وإنما كقيمة ثقافية وداعية حضاري.

وضع كتاب "بدايات: القصد والمنهج" (1974)، ليشرح وجهة نظره في الأسس النظرية للنقد الأدبي، وهو واحد من أبرز نُقاد الأدب في الولايات المتحدة الأمريكية. من أعماله (تناول الإسلام)، و(لوم الضحايا)، الذي اشترك في تحريره مع كريستوفر هيتشنز. ومن بين كتبه النقدية "العالم والنص والناقد" (1983م)، وهو انطلاقة جديدة للنظرية الأدبية المعاصرة. بنى سعيد جدليته على أعمال نقاد الاستشراق الأوائل أمثال: (عبد اللطيف الطيباوي)، و(أنور عبد الملك)، والمفكّرين محمد البهي والمغربي عبد الله العروي. و(مكسيم رودنسون)، و(ريتشارد ويليام ساوثرن).

ويُعدّ سعيد واحداً من أهمّ نقاد الخطاب (النقدي) للمفاهيم الملازمة للخطاب الاستعماري. حيث طَوْر إدوارد سعيد، هارفارد، وانكب على دراسة الآداب الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإغريقية والرومانية، ولكنّ سجيّته المتمردة قادته إلى قراءة كتابَي المفكر الهنغاري الماركسي جورج لوكاش (1885-1971م)، (التاريخ والوعي الطبقي) في الترجمة الفرنسية، و(الرواية التاريخية) في ترجمتها الإنكليزية. كذلك تعمّق أكثر في الفلسفة الأوروبية، فقرأ للمفكرين الألمان: آرثر شوبنهاور، ومارتن هايدغر، وإريك أورباخ، وتيودور أدورنو، والفرنسيين: موريس ميرلو بونتي ولوسيان غولدمان وكلود ليفي ستروس، وميشيل فوكو، ورولان بارت.

وكان إدوارد سعيد رصد في كتابه (الاستشراق) بعض نجوم الفكر والأدب الأوروبيين الذين (كانت لهم آراؤهم المحددة بشأن الامتياز العنصري والامبريالية ومن اليسير إدراك تأثيرهما في كتاباتهم)، ومنهم المؤرخ توماس كارلايل (1795 – 1881)، والفيلسوف جون ستيورات ملْ (1806-1873)، والشاعر ماثيو أرنولد (1822-1888)، والروائيون جوستاف فلوبير (1821-1880)، وتشارلز ديكنز (1812-1870)، وجورج إليوت (1819-1880). وكانت الأعمال ذات القيمة العظيمة لإدوارد سعيد هي بمثابة احتجاج على النظرة المشوهة للمجتمعات العربية التي يمنحها علم احتكره متخصصون خرجوا من الدول الاستعمارية.

ويعتقد سعيد أن البنية الاستشراقية للصور النمطية للشرق -التي أوجدها مستشرقون مثل سلفستر ساسي (1758-1838م)، وأرنست رينان (1823-1892م)، وكذلك: وليام موير، ورينهاريت دوزي، وكوسان دي بيرسفال- قد قويت مراراً في القرن التاسع عشر، في كتاباتٍ لعلماء أوروبيين، ورحالة، ومستكشفين، وحجاج.

ويَذكُر سعيد في نصه كيف جرت الاستعانة بالاستشراق ليبدو ناس هذه المنطقة مثيرين للريبة والخشية على السواء.

 علامة ثقافية وتاريخية

هكذا وضع المفكر إدوارد سعيد كتابه (الاستشراق)، في إطار نقد موضوعي للاستشراق، ولكنه لم يكن يعرف المصائر التاريخية لكتابه عندما أرسله للناشر، ولم يكن يعرف بأن هذا الكتاب سيكون مهماً، ولا يزال كتابه (الاستشراق) علامة ثقافية وتاريخية فارقة في الغرب، تدور حوله المراجعات وتطلق منه مناقشات بالغة الأهمية. إن هذا الكتاب أثار الكثير من نقاط الجدل وأفاد في التأثير الإيجابي على دراسات هذا المجال بعد ذلك. والكتاب بدأ يأخذ مجرى في سياق الفكر والنقد الأدبي في الغرب باتجاهات حتى إدوارد سعيد نفسه لم يكن يتوقعها، الاتجاه الأول: وضع هذا الكتاب في إطار نقد الاستشراق، ولكنه لم يكن السباق، فقد كان هناك الفرنسي مكسيم رودنسون (1915-2004م)، والفلسطيني عبد اللطيف الطيباوي (1910-1981م) الذي كتب مقالتين مهمتين في نقد الاستشراق الأنكلوساكسوني تحديداً، والمصري أنور عبد الملك (1924-2012م)، الذي اتهم إدوارد سعيد بأنّه قام بجمع أبحاث له ونشرها في كتابه (الاستشراق)، حيث كان عبد الملك هو أول من طرحها أمام الغرب (نقد الاستشراق) على صعيد جدي، وكان أول من أثار الردود من كبار المستشرقين. حيث فجر عبد الملك عام 1963، في مجلة (ديوجيه) عبر مقالته (الشهيرة) بعنوان: "الاستشراق في أزمة" النقد الجدي للاستشراق. ومن المعروف أنّ صدور كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق، عاد فطرح القضية على نطاق أوسع، لسبب واضح، وهو أنَّ حضور عبد الملك الثقافي محصور في العالم الفرانكوفوني الأكاديمي، في حين أن إدوارد سعيد كان له حضور خارج نطاق الأكاديمية، ويتعدى الدوائر الثقافية إلى دائرة القراءة العامة. إذاً لم يكن إدوارد سعيد أول الحاملين منهجياً على الاستشراق، حسب بعض المفكرين.. حيث سبقه إلى ذلك المفكر عبد الله العروي الذي حمل على ثقافوية غوستاف فون غرينباوم في (الآيديولوجيا العربية المعاصرة) منتصف الستينات. حيث تلتقي في غوستاف فون غرينيباوم تقاليد استشراقية عدة، فقد ورث من فيينا فقه اللغة، ومن ألمانيا تقاليد مدرستها التاريخانية، ثم هاجر إلى أميركا فانضم إلى جامعة شيكاغو الشديدة الـتأثر بعلم الاجتماع الألماني، وقد انطلق في دراسته للإسلام من اعتقاده بأنَّ الثقافة الإسلامية منظومة مغلقة.

وفي السبعينيات جاء كتيب ماكس تيرنر: (ماركس ونهاية الاستشراق)، ليدخل من باب نقد الاستعمار وأيديولوجياته لاعتبار الاستشراق إحدى تلك الأيديولوجيات.

 إدوارد سعيد وبرنارد لويس.. المناظرات الأدبية

ركّز المستشرق برنارد لويس (1916-2018م) هجومه على إدوارد سعيد الذي كان كتاب "الاستشراق" يتحدث عنه بشكل مباشر، كما كتب برنارد لويس العديد من المقالات للرد على إدوارد سعيد، حيث عُرِفَ المستشرق لويس بنقاشاته الأدبية مع المنظر الأدبي الأميركي ذي الأصول الفلسطينية إدوارد سعيد، ولكن إدوارد سعيد رد في نيسان/أبريل من عام 1994 على برنارد لويس عبر مقال تحت عنوان: (قضية برنارد لويس) بأنّ لويس كان من أكبر مزوري سجل الاستشراق. واعتبر سعيد بأنّ برنارد لويس مزيف للتاريخ، ويبدو أن حجج كلٍ من المستشرق وناقده في السجال فيما بينهما كانت تتميز بالجدية والتاريخية.

وكان لويس على خلاف كبير مع إدوارد سعيد حول الاستشراق، فقد وصفه سعيد (بأنّه التمثيل الكامل لأساس الاستشراق، والتي كانت أعماله تدعي بأنها أكاديمية ليبرالية لكنها في الحقيقة ما هي إلا دعاية ضد موضوع ما). واعتبر إدوارد سعيد الذي كان أستاذاً في جامعة كولومبيا النيويوركية أعمال لويس بأنها مثال أولي على الاستشراق. وعلى الرغم من تلك السجلات يقرُّ برنارد لويس بأنّ إدوارد سعيد في كتابه (الاسشتراق) قد قلب الطاولة فوق رؤوس المستشرقين وعليهم إثبات براءتهم. ونلاحظ تأثر لويس بمدرستي الاستشراق البريطانية – الأمريكية من خلال تأثره بالعديد من مفكريهما ومنهم أستاذه (هاملتون جب) الذي أشرف على الدكتوراه. من هنا قام (لويس) بإنشاء مراكز للدراسات الاستشراقية أو دراسات الشرق الأوسط، في كل الجامعات الأميركية ساهم ذلك بدخول أميركا إلى الميدان السياسي والاستشراقي بالنسبة للمنطقة العربية.

 الاستشراق.. الأبواب المفتوحة

هناك من انتقد منهجية إدوارد سعيد في كتابه "لاستشراق"، حيث يشير الكاتب البريطاني، روبرت إروين، الذي يعرض كتابه "المعرفة الخطرة" تاريخ الاستشراق بشكل مفصل وأيضاً دحضاً لسعيد، إلى أنه، تاريخياً، "كانت هناك نزعة مميزة للمستشرقين متمثلة في كونهم مناهضين للاستعمار؛ إذ إن حماسهم للثقافة العربية أو الفارسية أو التركية، عادة ما اقترن بكراهية لرؤية هؤلاء الأفراد يهزمون ويخضعون لسيطرة الإيطاليين، أو الروس أو البريطانيين أو الفرنسيين"، على غرار الأنثروبولوجي الأمريكي دانيال مارتن فاريسكو، ويوضح إروين أنه ليس معارضاً لموقف سعيد السياسي، ولكنه مستاء من تزييفه مكانته العلمية، وقد سعى الكاتبان: ليزا جاردين وجيري روتون، في كتابهما الموسوم بــــــ(اهتمامات دوليّة: فنّ عصر النّهضة بين الشّرق والغرب)، إلى تحقيق هدف كبير يتمثّل في إبطال التّهمة التي ساقها إدوارد سعيد في كتاب "الاستشراق" بأنّ أوربا الغربيّة اعتبرت الشّرق عموماً "آخر" غريباً تُسقط عليه أفكارها المسبقة؛ إذاً نقد الاستشراق ليس اكتشافاً جديداً فهو موجود من فترة بعيدة نسبياً ولم يكن شيئاً جديداً، ولا يبدو أننا سنغادر ساحة النقاش والجدال مع وحول (الاستشراق) لإدوارد سعيد، فهذا آلان روسيون الباحث الفرنسي المعروف يستعرض في بحث بعنوان: (المناقشة الدائرة حول الاستشراق في الساحة الثقافية العربية)، وهناك آراء لمجموعة من الباحثين والمثقفين العرب حول كتاب (الاستشراق)، يتهمونه بأنّه: (قد ثقب أبواباً كانت مفتوحة سابقاً).

 الطرق الجديدة

يرى الباحث الفرنسي آلان روسيون بأنّ إدوارد سعيد قد أخطأ من خلال الرد على أطروحاته المناوئة للاستشراق، حيث يقول: (إنّ سعيد قد أخطأ هدفه أو ما ينبغي أن يكون هدفه)، أي أنه قد قام بفتح طريق جديدة وربما وعرة لتجاوز الاستشراق عن طريق هضم مكتسباته الإيجابية السابقة، وتشكيل فكر متجدد عن الشرق. وبهذا الصدد لا ينفك صادق جلال العظم (1934-2016م) على التأكيد على جدلية (الاستشراق) و((الاستشراق المعاكس))، مفنّداً نظريّة إدوارد سعيد التي طرحها في كتابه – المرجع- (الاستشراق). بيت القصيد في طرح العظم هو النظرة المعاكسة التي يلقيها الشرقيّون على الغرب، ويختصرها بمصطلح (الاستغراب)، ما يعيد إلى الذاكرة الجدل القديم الجديد في كسر الحواجز بين الشرق والغرب وكره الغرب بالمطلق، وما أراد المستشرق الألماني المعروف فرتز شتبات F. Steppat الدخول في جدال من جديد مع طرح إدوارد سعيد حول كولونيالية الاستشراق، وضرورات زواله، ولذلك فقد قال في كتابه: الإسلام شريكاً (الصادر عن المعهد الألماني ببيروت عام 2001، والمترجم جزءٌ منه من جانب د. عبد الغفار مكاوي)، وفي سياق مناقشته لطرح صدام الحضارات: إنّ الاستشراق شكّل نافذةً جيدةً على الشرق، تم التعرف من خلالها، وطوال قرن ونصف القرن، بالعرب والإسلام، وحضارتهما، بطرائق موضوعية وودودة في أكثر الأحيان.

ووفق ذلك فأنّ انتقادات إدوارد سعيد قد ساهمت في التقليل من قيمة المعرفة الاستشرافية، ويؤكد المفكر العراقي المعروف هادي العلوي مادحاً كتاب (الاستشراق): "أنّ كتاب الاستشراق، عمل علمي، مشبوب بعاطفة كاتب حر يحمل في اغترابه القسري هموم وطنه المصادر، وهو، في عقليته الباحثة، مثال لِمَا يمكن أن يكون عليه مثقف عربي يحسن استخدام معرفته العلمية، هو أول مبعوث عربي ينفذ إلى العالم الضد ليكتب عنه من داخله، ويعريه من هيبته العقلية، ويضعه في مكانه الحقيقي).

 المركزية الغربيّة.. الخطاب المُسيطر

يعترف المفكر إدوارد سعيد في أكثر من مكان بأنّ الاستشراق أنتج معرفة عظيمة، وهو لم يقل بشكلٍ مباشر بأنّ الاستشراق لم ينتج معرفة؛ إنما روج بعض الباحثين بأنّ إدوارد كان يؤكد بأنّ الاستشراق لم ينتج معرفة. ولكن تلك المعرفة وما أحاط بها تشكلت كخطاب خاضع لعملية تشكل الخطاب المُسيطر أي الغرب، فكان خطاب الشرق اللازمة لخطاب الغرب، فدائماً كان خطاب الشرق تابعاً ومستقى من خطاب الغرب، وعلى عكس ما يعتقد البعض أن كتاب الاستشراق وخطورة هذا الكتاب لا تنبع من أنّه كتاب حول (الشرق والمستشرقين)، بل لأنه كتابٌ حول الغرب تحديداً، من هنا كانت خطورة هذا الكتاب على المفكرين الغربيين، لذلك كان الهجوم على الكتاب ومؤلفه والذي قرر كتابة مذكّراته التي صدرت في عام 1998 في الولايات المتحدة بعنوان: (خارج المكان).

لقد اخترق إدوارد سعيد بنفاذ بصيرته، البُنى التي تقوم عليها ثقافة الغرب الاستعماري، ووضع من خلال كتابه "الاستشراق"، علامة غيرت وجه البحث العلمي حول العرب والعالم الثالث إجمالاً، حسب دنيشيا سميث (أحد أبرز النقاد الأميركيين)، وجعلت الوعي المعاصر في الغرب يقيس في قراءته "الآخر" على ما قبل هذا الكتاب وبعده.

 


مراجع المادة:
(مجلة النقاد، بيروت، 17 تموز/يوليو 2000، ص: 20).
(راجع: حمارنه، د.وليد: أسمار وأفكار، حلقة تلفزيونية، نقاشية حول الاستشراق وكتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد، 2015).
(راجع: خلف، عبد الباقي: إدوارد سعيد والاستشراق، المجلة العربية، الرياض، العدد (428) أغسطس/أب 2012 ص: 44-45).
(راجع: حديدي، صبحي: إدوارد سعيد الناقد الأدبي، بدايات الفصلية، العدد السابع شتاء 2014.).
(راجع: ماكفي، أليكسندر: الهجوم على الاستشراق، ترجمة، بشار بكور، فصلية، التسامح العُمَانية، العدد الثالث والأربعون، 2014).
(راجع: صحيفة النهار، بيروت، 19 كانون الأول/ ديسمبر 2015).
(راجع: قناوي، حمزة، مجلة دبي الثقافية، دبي، العدد(87) أغسطس/أب 2012، ص: 110).
(راجع: الكيلاني، شمس: نظرة غرينيباوم إلى حضارة الإسلام، صحيفة الحياة، لندن، العدد (17242)، 19 حزيران/ يونيو 2010، ص: 16).
(راجع: (مجلة المجلة، العدد (536) تموز/ يوليو 2013).
(راجع: الخوري، سناء، صحيفة الأخبار، بيروت، العدد (769) 13 آذار/مارس 2009).
(راجع: مجلة النقاد، بيروت، العدد (40) 22 كانون الثاني/ يناير 2001، ص: 35).
(راجع: الجابري، محمد عابد: التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 1999).

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها