حكايات مسرحية!

مريم سلطان.. وحكاياتها مع "شمس النهار" و"رأس المملوك جابر"

أحمد الماجد


لم يدر في خلد مريم سلطان، "أم عادل"، وأم المسرحيين، تلك المرأة التي وجدت نفسها تحت طائلة ضغوط الحياة ومتطلباتها، أن يبتسم لها القدر، ويسوق إليها دون جهد منها عربة الحلم، لتركبها وتتسابق بها نحو طموحها. اتصال هاتفي، غير مجرى حياة مريم بالكامل، وجرى حيث تشتهي سفنها، حينما وردت إلى هاتف منزلها في إحدى ليالي شهر رمضان المبارك، مكالمة من الصحفي والمسرحي البحريني عبدالله العباسي، والذي كان مقيماً في الإمارات، وطرح عليها فكرة الانضمام إلى فريق مسرحي يقوده أبناء مسرح الشارقة الوطني، وهم في طور تأسيس الفرقة والعمل على إشهارها بشكل رسمي، فوافقت مريم على الفور.

في مسرح الشارقة الوطني، التقت مريم بالفنانين "عبدالله المناعي، علي خميس، محمد حمدان، عبدالعزيز سالم، غصن سالم، وآخرون، ليولد سطرها الأول في حكايتها المسرحية الثرية، بمشاركتها في العام 1976 بمسرحية "هارون الرشيد في القرن العشرين"، من تأليف عبدالله العباسي وإخراج الفنان عارف إسماعيل، وأدت مريم في ذلك العرض دور الأم، ولاقى العرض نجاحاً، وتميز بالظهور الأول لمريم سلطان على الخشبة.

بعد حضورها الجيد وتألقها في "هارون الرشيد في القرن العشرين"، فتح الحظ ذراعيه لمريم، حينما اختارها المخرج الكويتي القدير "صقر الرشود" رحمه الله، لتلعب دوراً مهماً في رائعته "شمس النهار" لمؤلفها توفيق الحكيم، وهو أول عرض مسرحي يخرجه الرشود في الإمارات، وكان ذلك قبل انتدابه لتنشيط المسرح من قبل وزارة الإعلام والثقافة في العام 1978، فقد كان مجيئه إلى الشارقة تلبية لرغبة الفنان عبدالرحمن الصالح، والأهم من ذلك كله، أن هذا العرض شاهده صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، إبان عرضه في العام 1977، وكانت فرحة مريم، لا تضاهيها فرحة حينما صافحت سموه بعد نهاية العرض، وأثنى على جهودهم.

والجدير بالذكر، أنه لم يكن مخططاً لمسرحية "شمس النهار" استقدام "صقر الرشود" كمخرج للعرض، بل كان العرض سيحمل اسم المخرج البحريني الراحل "عبدالله السعداوي" حينما قدم بنص "شمس النهار" إلى فرقة مسرح الشارقة الوطني، وعرض عليهم أن يقوم بإخراج المسرحية، وكان توقيت قدوم السعداوي قد تزامن مع قرب افتتاح قاعة أفريقيا، فوافقت الفرقة، وتم بدء التمارين من أجل عرض المسرحية على القاعة في حال جهوزيتها لاستقبال الجمهور، حيث إنها كانت في مراحل إنجازها الأخيرة، غير أن خلافاً نشأ بين "السعداوي" و"عبدالرحمن الصالح" الذي ذاع صيته المسرحي في الكويت والإمارات، مما حدا بالأخير، وبعد التشاور مع إدارة فرقة مسرح الشارقة الوطني، بتنحية السعداوي وجلب "صقر الرشود" مخرجاً لذلك العرض. الرشود كان يجري تمارين المسرحية على فترتين صباحية ومسائية، وفي كثير من الأحيان تمتد بروفات العرض إلى ساعات متأخرة من الليل، وتذكر مريم سلطان أن الرشود مخرج لا يكل ولا يمل من الإعادة، وهو شخصية مرحة ومحبوبة، غير أنه يخلع جلده ويتحول إلى شخص عصبي أوقات التمارين.

في مسرحية "شمس النهار" أيضاً، جلبت مريم سلطان ماكينة خياطة من بيتها من أجل خياطة الملابس المسرحية، وكانت أيضاً بالإضافة إلى تلك المهمتين، التمثيل والخياطة، تعمل في تجهيز الإكسسوارات، وتذكر مريم أن أولادها كانوا ينامون في القاعة خلف الستارة لخوفها عليهم من البقاء لوحدهم في البيت، باعتبار أن العرض المسرحي ينتهي في وقت متأخر. وفي لحظة إحباط انتابت مريم ذات مرة، قالت لصقر الرشود بعد انقضاء بروفة العرض: يا أبو فراس.. أشعر أني ما أعرف أمثل ".. فابتسم الرشود وقال لها: "أنت بطبيعتك ممثلة وسيأتي اليوم الذي أثبت لك ذلك وسأذكرك به". وصدق الرشود بما وعد، غير أن التذكير بهذه الموهبة الفذة وبذاك الحضور المسرحي البهي، تولاه تاريخها وفرادة أدوارها، ولم يفعل الرشود ذلك، حينما شاءت إرادة المولى عز وجل أن يغادر الحياة، في العام 1978 بحادث أليم.
 

"مغامرة رأس المملوك جابر" 1984

في العام 1984 لمريم سلطان حكاية أخرى، حدثت في مسرحية "رأس المملوك الجابر" لمؤلفها سعد الله ونوس، ومخرجها عبد الإله عبدالقادر، والتي تعاونت 4 فرقة مسرحية في إنتاجها: مسرح الشارقة الوطني، ومسرح خالد "المسرح الحديث بالشارقة" حالياً، وجمعية كلباء للفنون الشعبية والمسرح، ومسرح خورفكان الشعبي "مسرح خورفكان للفنون" حالياً، وقدم العرض للجمهور في العام 1984. وقفت مريم سلطان في ذلك العرض إلى جانب الفنانين: "أحمد الجسمي، عبدالله مفتاح، محمد يوسف، سالم هيف، حميد سمبيج، علي خميس، أحمد النابودة، عبدالله بوعابد، علي خدوم، سيف الغانم، أمينة القفاص، محمد الحمر، محمد إسماعيل، علي جوكة، وآخرون.

وفي هذه المسرحية حكاية حدثت مع مريم سلطان، يرويها الدكتور عبدالإله عبدالقادر، حيث ذكر أنه لم يكن للفنانة مريم سلطان دور في مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر"، إلا أن الممثلة المشاركة فيها، غابت عدة أيام، فكان لا بُد من الاستغناء عنها، وبناء عليه، اختيرت مريم سلطان لتأدية الدور نفسه في المسرحية، إلا أن الإشكالية هي أن أم عادل تعرضت إلى حادث أدى إلى دخولها مستشفى الكويتي القديم في الشارقة، إذْ أصيبت بكسور عديدة، ولم يكن يُسمح لها بالحركة. واقترح الفنان سيف الغانم، القيام بزيارة مريم سلطان في المستشفى، للتعرف على حالتها الصحية، وكانت الحالة ليست بالجيدة، ولكن أيضاً، غير سيئة، إذْ تجاوزت مرحلة الخطورة. وكان العائق الوحيد، أنها لا تزال تخضع للعلاج، وليس بمقدورها التحرك إلا باستخدام عكازين. وبعد حديثهم معها عن العرض، واستغنائهم عن الممثلة المشاركة في المسرحية، بفعل غيابها المتكرر، أبدت مريم استعدادها للمشاركة بالمسرحية، إلا أن عبدالإله وفريق العمل رفضوا ذلك بدافع عدم أهلية حالتها الصحية، خصوصاً أن الأمر يتعلق بساقيها. يقول الدكتور عبدالإله: "تركنا أم عادل في المستشفى مساء ذلك اليوم، دون أن نزيد أو نغيّر في مضمون حديثنا وقرارنا ببقائها بعيدة عن المشاركة في المسرحية.. ولكننا فوجئنا، في اليوم الثاني، وتحديداً خلال موعد الساعة المخصصة للبروفة، بدخول مريم سلطان، وهي مستندة إلى عكازيها، قاعة أفريقيا في الشارقة. وبادرتنا فوراً، وبإصرار، بطلب إشراكها في المسرحية، معلنة هروبها من المستشفى، بعد أن رفض الطبيب السماح لها مغادرته بشكل قانوني. وكانت فرحتنا كبيرة، حينها، لا لأنها فقط ساعدتنا على حل إشكالية الدور الشاغر؛ وإنما لما جسدته وعكسته في موقفها هذا، من قيمة أخلاقية وفنية فريدة تتمتع بها. فأحضرنا لها كرسياً متحركاً لتستعمله في مشاركتهـــا بالبروفات على الخشبة، ومع تعافيها الجزئي، مثّلت مريم سلطان، نموذج الفنانة الرائعة والمميزة، كعادتها. وذلك ليس في فنها فقط، بل في جملة ما تحمله هذه الإنسانة، من نقاء وأخلاق وتسامح وشفافية. وكذا في مضمون مخزون منجزاتها في المسرح الإماراتي، عبر تاريخها الطويل، منذ سنوات التأسيس الأولى.. إنها امرأة عصامية تحدت عقبات كثيرة، ولم تسمح للحواجز والعقبات أن تكبلها أو تؤطر نجاحاتها".

مريم سلطان.. الرائدة الصابرة، التي حوى سجلها المسرحي الذهبي، منجزات لا حصر لها، وقفت فوق المنصات، وحملت الجوائز، وظلت نبض مشهدنا المسرحي الدائم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها