فيلم "طفيلي" من الأفلام العالمية البارزة التي تجاوزت كل التوقعات، وتصدرت شباك التذاكر لأسابيع وشهور عديدة، وتبوأت مكانة سينمائية مرموقة بحصولها على حصة الأسد من الجوائز الكبرى في عالم الفن السابع. الفيلم كوري، إنتاج سنة 2017، إخراج: بون جون هو، حاول إلقاء الضوء على مختلف التحولات الاقتصادية العالمية وتأثيرها في كوريا الجنوبية تحديداً، وآثار هذا التحول الرأسمالي على الأفراد وتحديداً الفقراء منهم، مُعبراً بذلك عن طغيان هذا المنحى الاستهلاكي الضاغط على الفقراء، حتى يكاد يدهسهم ويأسرهم في أسفل قاع المجتمع، في مقابل صعود طبقات أخرى تكتسب المزيد من الثروة، وذلك في إدانة واضحة لسياسات عالمية لا تعنيها إلا مصلحة الأثرياء.
اختار "جون هو" لفيلمه عنوان "طفيلي"، وبتأملنا لهذه الكلمة سنجد أنها مستمدة من المجال العلمي، ويقصد بها تلك الكائنات الصغيرة المتطفلة على أشياء ليست من جنسها ولا من صنفها، خاصة تلك الضعيفة التي تتطفل على الأقوى منها بغرض الاستيلاء على مؤونتها وطعامها. ولفظ الطفيلي في اللغة له معان مختلفة، فهو يشير إلى من يذهب إلى المجالس والولائم من غير أن يدعى إليها، نسبة إلى طفيل وهو رجل كوفي اشتهر بهذه الصفة في التراث العربي. وفي معنى آخر، يشير هذا اللفظ إلى كل من يتدخل في شؤون الغير. وجميع هذه المعاني تتطابق مع اللقب الذي اختاره المخرج كعنوان للفيلم، كونه سلط الضوء على شخوص من بيئة هشة ضعيفة، وهم يحاولون التطفل على شؤون ليست من طبعهم ولا من فئتهم، بهدف الاستيلاء على ممتلكات غيرهم من الطبقات الأرستقراطية في كوريا الغنية.
يحكي الفيلم قصة أسرة فقيرة تتكون من أب وأم عاطلين، وابن انفصل عن الدراسة واشتغل بائعاً لمعلبات البيتزا، وتساعده في ذلك أخته التي أهملت هي الأخرى مواهبها في الفن والتقنيات الحاسوبية، واتجهت لمساعدة الأسرة المعوزة. كانت هذه الأسرة تعيش في شقة تحت الأرض، تنطوي عليها كل صفات البؤس والقتامة والفاقة: تفوح منها الروائح الكريهة وتنتشر فيها الأوساخ والجراثيم والصراصير.
وتتغير حياة هذه الأسرة مباشرة بعد حصول الابن على فرصة عمل، كمدرس خصوصي للغة الإنجليزية لصالح فتاة مراهقة تنتمي إلى أحد العائلات البرجوازية والغنية، وتقطن في فيلا فاخرة بها كل مقومات الحياة والرفاهية والسعادة والثراء الفاحش. تزداد أطماع الابن في أملاك هذه الأسرة فيبدأ بحياكة مجموعة من الخطط بهدف استقدام كل أفراد عائلته للعمل في هذا المنزل وطرد الخدم القديم.
وينجح في حيلته بعد ذلك، ليزداد نهم الأسرة في السيطرة على المنزل، مستهدفين في سبيل هذه الغاية خطة تزويج الابن للفتاة البرجوازية. لكن نهاية الفيلم تحمل مفاجأة درامية لم يتوقعها الفتى وعصابته (أسرته)، حيث ستنقلب المكائد ضد صاحبها، عقب اكتشافهم لمخبأ سري يتواجد فيه زوج الخادمة السابقة. هذا الأخير عاش جزءاً من حياته برعاية زوجته العاملة، لأنها أخفته عن أنظار أهل المنزل وعن أنظار بعض من أصدقائه الذين كانوا يهددونه بسبب دين قديم، واهتمت بكل ما يلزمه بيولوجيا من أكل وشرب وحياة زوجية.
وينتهي الفيلم بمعركة حامية الوطيس دارت بين هذا الزوج المتخفي وأفراد الأسرة المحتالة، في حفلة غنية أقامها البرجوازي صاحب المنزل. ليتحول الحفل إلى طقس دراماتيكي عنوانه الدم والفتك العشوائي، فينتهي المطاف بموت زوج الخادمة السابقة، وجرح الفتى المحتال وأخته، وهروب أبيه متسللا إلى المخبأ السري بعد أن ارتكب جريمة قتل في حق رب المنزل.
يدرك الابن أخيراً أن الحلم تحول إلى كابوس، وأن الفردوس تحول إلى جحيم، وأن الثراء تحول إلى جفاء، فيستوعب أخيراً أن طريق النجاح الحقيقي يكون بالجد والعمل والاجتهاد، لا بطرق الاحتيال والغش والتدليس، وهذا مثل له دفعة قوية في سبيل تحقيق حلم مستجد، مغاير عن الحلم الأول: حلم الدراسة والعمل من أجل شراء المنزل الفاخر، وإنقاذ الأب الهارب من العدالة والمحتجز في المخبأ السري للمنزل.
هكذا إذن، يتضح أن الفيلم هو قصة حلم بالانتقال من حالة إلى حالة أخرى ومن وضعية إلى وضعية أخرى، لكنه حلم غير مشروع، طالما أن أساسه بني على الغش والاحتيال والخداع. وبالنظر إلى الحيثيات التي خلقت الحلم وأسست لإمكانية تحققه، ينبغي أولا تحليل الوضعية الأصلية للأسرة قبل أن يتمكن منها هاجس هذا الحلم. فالأسرة تعيش ويلات الفقر المدقع، وتعاني من قساوة الحاجة والعدم والحرمان. إنها الفئة المنسية والمهملة من طبقات المجتمع الكوري الشاسعة الفوارق، وهي كذلك مجموعة اجتماعية مضطهدة من طرف الجميع، بل الأكثر من ذلك منفية لا اعتبار لها ولا شعور للآخر بوجودها أو كينونتها.
تعيش في قبو معزول في قعر الأرض، وهذه إشارة ذكية من طرف المخرج رمز بها إلى تلك الطبقات الاجتماعية المغيبة والمنفية والمقعرة في أسفل السلم الطبقي، على شاكلة ترتيب منزل الأسرة في المجمع السكني، والذي يصنف في قاع المكان حيث المرائب والمستودعات. الشيء نفسه نقوله عن الوضع المادي للمنزل الذي يفتقد للنظام والنظافة والتجهيز، فتسود فيه بدل ذلك معالم العشوائية والفوضى والتلوث والجراثيم، والأوحال، والحشرات والجرذان، والمجاري الملوثة.. ثم الهشاشة في البنية التحتية، والتي ستنفضح أعمدتها في مشهد الغرق، حيث الفيضان المتسبب في خراب هذا المكان، وانفجار مراحيضه ومجاريه الصحية.
ورغم أن كوريا من البلدان التكنولوجية المتطورة إلا أن المنزل الفقير يفتقد لشبكة الأنترنيت، ويضطر أفراد الأسرة لسرقة "الواي في" من الطابق الأعلى، قصد استغلاله في عملهم (بيع مغلفات البيتزا). وقد وظف المخرج بعبقرية فذة مشهداً معبراً، يرصد فيه الكادر أفراد الأسرة وهم يطاردون ويقتلون الحشرات المضرة، إيحاء بوضعيتهم المهمشة ومكانتهم المحتقرة من طرف الأغنياء. وهي وضعية شبيهة بحالة الحشرات الرديئة التي تضطهد من طرف البشر.
أما عن الوضع الثقافي للأسرة، فأغلب أفرادها متعلمون ومجتهدون وأذكياء في مجالهم. فالفتى كان متميزاً أكثر من طلبة الجامعة في اللغة الإنجليزية، وأخته كانت بارعة في التشكيل وفنون الفوتوشوب. وبما أن المجتمع رفض الاعتراف بإبداعهم وطاقاتهم الإيجابية وعبقريتهم المشروعة، فقد حولوها إلى طاقات سلبية وإلى وسيلة للنجاح غير المشروع عن طريق التزوير، والغش والتدليس والاحتيال على الناس.
الكذب والاحتيال، إذن، سمتان أساسيتان في الفيلم، فكل أفراد الأسرة يتفقون ويحبكون الخطط من أجل بلوغ أهدافهم بطرق ملتوية فيها كثير من المكر والغش والتدليس. بداية بالفتى الذي اشتغل مدرساً خصوصياً للإنجليزية (لابنة صاحب المنزل) في منزل العائلة البرجوازية بعد أن قام بتزوير شهادته الدراسية، مروراً بالأخت التي استقدمها الأخ للعمل بذات المنزل باعتبارها طالبة في كلية الفنون، جاءت لتعلم الطفل الصغير (ابن صاحب البيت) مبادئ الفنون التشكيلية وآثارها النفسية والفكرية. وقد اختلقت في ذلك كذبة أخرى تمثلت في إيهام الأبوين بأن ابنهما مريض بالفصام النفسي، وأنها جاءت لتدريسه ومعالجته بالفن. وبالتالي تبرير الأجر المرتفع الذي تطلبه من جراء هذه الوظيفة المزدوجة (التدريس/ العلاج).
أخت البطل هي الأخرى ستستقدم الأب للعمل كسائق خاص للعائلة الغنية، بعد أن دبرت مكيدة جنسية للسائق الأول وتركت لباسها الداخلي في السيارة، حتى يتهم السائق بأنه يستعمل سيارة أسياده لمآرب غير أخلاقية، فيطرد من العمل على إثر هذا التصرف.
أحداث الفيلم مبنية، إذن، على فكرة استقدام الأهل الجدد وطرد الحرس القديم من الفيلا. نفس الشيء سيقع مع الأم حيث ستنجح هي الأخرى في العمل بالمنزل الفاخر مكان الخادمة السابقة، على إثر الخطة المحبوكة التي حاكتها أسرة البطل بفطنة وعناية وتدبير من أجل طردها. حيث ستستغل الأسرة المحتالة خبراً مفاده أن المربية شديدة الحساسية من زغب إحدى الفواكه، لتوهم ربة الفيلا بأن هذه المربية مريضة بداء السل، وبالتالي فوجودها يشكل خطراً على صحة أبنائها بسبب العدوى التي تهددهم.
الخيانة أيضاً من سمات الفيلم البارزة، فالبطل خان ثقة صديقه الذي كان سبباً في اشتغاله بمنزل الأثرياء. وبينما أوصى الصديق البطل بتدريس حبيبته المستقبلية (المراهقة)، والعناية بها، وتحضيرها للدراسة الجامعية. إذ ببطلنا يخلف وعده وينقض عهده، حينما أصبح عاشقاً لها وطامعاً في أملاكها ومتطلعاً إلى الزواج بها، حتى يرث هذا المنزل الفاره، ويستولي على كل خيراته ومنافعه.
وتظهر هذه الخيانة في مشهد القبلة، أثناء تدريسها، وفي تصريحه لأسرته بأنه سيطلب مواعدتها بعد ولوجها للجامعة. والأكثر من كل هذا أن الخداع والمكر متأصل في طبع الأسرة، ومتشابك في غريزتها واندفاعاتها، وهذا ما صادفناه في المشهد الذي ادّعى فيه الأب الغضب والعتاب والانفجار، جراء كلام الزوجة وتصريحها بأن حياة العائلة شبيه بحياة الصراصير. لكن نهاية المشهد ستكشف أن انفجار الأب ما هو إلا تمثيل وخدعة ساخرة، امتحنت قدرة باقي الأفراد على تشخيصها والتفطن لحيلها.
يعالج فيلم "طفيلي" أيضاً قضية التفاوت الطبقي الشاسع في المجتمع الكوري، وآثاره السلبية على حياة الفرد، خاصة في ظل الهجوم الكاسح لنوازع الرأسمالية المتوحشة على كل مجالات الحياة. فالفيلم يعكس صراع الانتقال من وضعية (الفقر) إلى نقيضها (الثراء) في وطن رائد في التكنولوجيا والرقميات على الصعيد العالمي، وهذه هي المفارقة!
فبطلنا الكوري حينما عزم على الدخول للمنزل الجديد توقف لحظة، تسمر فجأة، فكر فكرة.. هل يلج هذا العالم الجديد؟ هل يتجاوز حدود واقعه؟ هل يخترق عوالم الأغنياء؟ إنه صراع نفسي داخلي ناتج عن صراع اجتماعي خارجي: تناقض بين طبيعة الفقير الأصلية وشخصية الغني التي ينبغي تقمصها والتصنع في تجسيدها. وتعارض بين طبقة مستغلة، منهوكة، ومغيبة وبين طبقة تتبختر وتتباهى وتتغطرس. وقد مثل باب الفيلا حاجزاً أمام العالمين، وفاصلا بين الحالتين، وكان فعل الدخول من طرف الفتى إيذاناً بولوج المضمار، وقبول اللعبة وشروطها المستعصية.
وهذا ما نستشعره في حوار تلا هذه الواقعة، حيث الأسرة قبلت خوض التحدي، بالانطلاق في مغامرة الارتقاء وصعود الأدراج.. أدراج السلم الاجتماعي. "ها نحن ننتقل لمرحلة أخرى ونتناول الطعام في مطعم السائق"، جملة لها دلالة عميقة تحيل إلى التفاوت الطبقي الصارخ، وإلى حلم الأسرة الفقيرة بالصعود التدريجي نحو القمة الاجتماعية، حيث النعيم والرفاهية. وإن كان هذا الحلم ينفذ بطرق غير شرعية كلها غش ومكائد واحتيال. فسائق الطاكسي رغم مكانته البسيطة بين طبقات المجتمع، إلا أنه يمثل حلماً بالنسبة لأسرة البطل، وطموحاً ينبغي الوصول إليه في بداية اللعبة ثم تجاوزه في باقي المراحل المتشعبة.
الرؤية الطبقية التي ينطلق منها الفيلم شملت حتى المربية السابقة، والتي كانت تحتفظ بزوجها في قبو سري في المنزل بغاية الرعاية والتكفل. فهذه الخادمة احتفظت بزوجها في هذا المكان حماية له من تربص الأعداء، بعد أن استدان مبلغاً مالياً، ولم يستطع رده. فكانت الفيلا بذلك، ملجأه الدائم ومقر حياته الأبدي، يقضي فيها كل أيامه، ويمارس فيها، بتلقائية، حياته البيولوجية (الأكل والشرب)، والعاطفية (الحب رفقة زوجته)، والثقافية (مطالعة الكتب).
بذلك تتضح معالم التفاوت وعلامات الصراع الطبقي بين أسر فقيرة محطمة مهضومة، وأسر غنية تعيش الرفاهية والرغد والرخاء. وقد التقط المخرج بونج جون هذا التعارض الطبقي في مشهد مثير ومعبر، جسدته الأمطار القوية التي كانت تتساقط في بيئتين مختلفتين وفي مجالين متناقضين :
- منزل البطل وأسرته أسفل الدرك في المبنى، حيث غمرت المياه المكان، وساد الهدم والخراب وانتشرت الفوضى والضوضاء، نتيجة قوة الهطل والغمر، وشدة الفيضان والطوفان. بل الأكثر من ذلك عانت الأسرة كثيراً في استخراج ممتلكاتها الصالحة في هذا المنزل البئيس، بسبب إتلاف المرحاض ودمار المرافق الصحية الخاصة به، فتحول بذلك المطر من نعمة إلى نقمة، ومن آلاء إلى بلاء، ومن غبطة إلى نائبة.
- منزل الأسرة الغنية (الفيلا الفاخرة): حيث الاستمتاع بروعة المشهد، والابتهاج بالوابل والخير الكثير. ليتحول المطر بذلك من مصدر سلبي (عند الأسرة الفقيرة) إلى مصدر فرحة وتلذذ وهناء عند هؤلاء. والأدهى من ذلك، استغل الطفل الصغير هذا الجو لبناء خيمة صغيرة في بهو المنزل، من أجل التسلي بأصوات الزخات المطرية وإيقاعها الرنان وهو نائم في هذا الكوخ.
وينتهي الفيلم بنهاية مأساوية وأحداث درامية غير متوقعة، حيث ينشب القتل العشوائي بين زوج المربية القديمة وأفراد أسرة البطل، ينتهي بإصابات وجروح وجرائم. فيقتل أب الأسرة الفقيرة رب المنزل الثري عقب استهتاره واستهزائه بجثة زوج المربية بأسلوب برجوازي فيه كثير من التقزز والاحتقار، لينتهي به المطاف هارباً من العدالة ومختبئاً في المخبأ السري للفيلا. فيتحول بذلك الجشع إلى مآس وأحزان وآلام، وتنقلب الآية رأساً على عقب، ليحل الأب الفقير مكان زوج المربية السابقة في السجن الانفرادي.
ثم سيدرك ابنه (البطل الصغير) أخيراً أن النجاح الحقيقي يأتي بالاجتهاد والعمل والمثابرة، لا بالغش والاحتيال والمغامرة. فيقرر أخيراً أن يغير طموحه في امتلاك هذه البناية الفخمة، إلى رغبة كبيرة في شرائها لا بهدف الترفه بممتلكاته كما في السابق، ولكن لإنقاذ أبيه المحتجز في هذه الزنزانة المفروضة عليه قصراً لا اختياراً. وفي سبيل ذلك سيخطط للعودة مجدداً للدراسة، بهدف الجد والوصول العلمي ثم الارتقاء المهني الذي يسر له اقتناء هذا المنزل الفاخر، ولكن بطرق مشروعة هذه المرة.
على المستوى الفني، جاءت الإنارة مزدوجة الوظيفة والإشعاع في الفيلم طبقاً لنسقه الإبداعي، وعوالمه الحكائية، وطبقاته الاجتماعية. فالأسر الفقيرة، تعيش في أسفل الدرك: الطابق السفلي في المبنى بالنسبة لأسرة البطل، والقبو السري الخاص بأسرة المربية. ولهذا أحجم المخرج عنهم الإنارة، وأضعف من وهجها وقوتها، انسياقاً مع ضعفها وعوزها الاجتماعي، فعمت العتمة، وغلبت الظلمة، خاصة في مشهد الغرق والطوفان، أو في مشهد احتجاز زوج المربية.
في مقابل ذلك سطعت الإنارة وأشرق نورها الوهاج بعد انتقال أسرة البطل لمنزل الأغنياء. تماشياً مع إشراق الأمل والحلم في غد مزهر يسوده الغنى والثراء والبهاء، إذا ما نجحت الخطة المحبوكة وتم الاستيلاء على المنزل. كما أن قوة النور ولمعان الضياء في هذا المكان، إحالة فنية من المخرج توحي بالحياة السعيدة والظروف البهيجة التي يعيشها رب البيت وأسرته الفارهة.
على المستوى البصري نوع المخرج من لقطات فيلمه بحسب المبتغى الفني الذي يتوخاه. فنجد مثلًا توظيف اللقطات العامة لوصف الفضاء الذي تدور فيه الأحداث، وتناقضه بين العشوائية والفوضى واللاتزان في منزل البطل وأسرته الفقيرة من جهة، وبين النظام والترتيب والجمال والتنوع في فيلا الأثرياء.
أما اللقطات المتوسطة والقريبة فركزت على النطاق التفاعلي بين الشخصيات، خاصة أثناء تدبير الحيل، وترسيم الخطط، وصياغة الأكاذيب. ثم من جهة ثانية لرصد التفاعل الصدامي العنيف الذي جرى في المشاهد الأخيرة من الفيلم، حيث القتال والعراك بين أطراف شتى، انعكاساً للصراع الطبقي والاجتماعي الذي يعرفه المجتمع الكوري.
ثم نصادف اللقطات المكبرة والمكبرة جداً في مشاهد تعبيرية، اهتمت بالخصائص النفسية والذهنية والفكرية للشخصيات، وذلك من خلال التركيز على وجوه الممثلين، وتصيد مزاجهم (الكذب - المكر - الخداع)، والتعمق في أحاسيسهم (الجشع - الطمع)، والغوص في أفكارهم ومخططاتهم (الاحتيال - المكائد - الاستيلاء والسرقة). ثم التفصيل في عنف المشاهد الأخيرة، وتتبع جزئياتها الكثيفة بصور الضرب والفتك والقتل عن طريق لقطات مكبرة، منجزة بأسلوب سريالي يحيط بالفعل ورد الفعل ونتاج الفعل.
صوتياً، وظف المخرج موسيقى تصويرية وأغان متناسبة مع السياق الدرامي للفيلم؛ لأن طبيعة الفيلم السوداوية، ونهايته الصادمة، وحبكته التي هيمن فيها طابع الديستوبيا والفوضى، فرض على المخرج تكييف الإيقاع النغمي مع وقائع الواقع ومجاراة اللحن لتجارب الحياة والوجود. لهذا اختار المخرج قطعاً موسيقية كلاسيكية وأغان أوبرالية تساير الارتجاج والاضطراب الذي يغرق سفينة الفيلم في وحل القتل والفتك والخراب.
فالفيلم وإن سادت فيه الكوميديا السوداء، إلا أن وقائعه المتلاحقة كلها توتر ودراما وصدام، وهذا المزج بين الكوميديا والدراما يذكرنا بالمزج الكلاسيكي بين خصائص الملهاة والمأساة في الأدب اليوناني القديم. ضف إلى ذلك النهاية الغريبة التي انتهى بها الفيلم، والشبيهة بالنهايات السريالية الغنية بملامح الرمزية والغموض، والقريبة من النهايات الفانتازية الزاخرة بالمفاجآت والصدمات التي لا يمكن التنبؤ بها.
لهذا كان لزاماً على الموسيقي جانغ جي-ايل "Jung Jae Il" المكلف بإنجاز الموسيقى التصويرية - تعزيز الفيلم بقطع موسيقية تواكب اللحظة وتتماهى مع الدفقة. فكان توظيفه للأغنية الإيطالية In ginocchio da te (على ركبتيك) للفنان الإيطالي الشهير (جياني موراندي Gianni Morandi) تلميحاً للعنف والدمار الذي يسود الفيلم في لحظات متأزمة، مشحونة بالفوضى والعشوائية والشر والتنافر الروحي.
هكذا نصل في الختام، إلى الاعتراف بأن فيلم "باراسايت Parasite" من بين أبرز الأعمال العالمية التي تصدرت دور العرض، والمهرجانات، والجوائز العالمية سنة 2020. فقد دخل فيلم (طفيلي) التاريخ لكونه الفيلم الأجنبي الأول الذي يقتنص جائزة الأوسكار لأفضل فيلم سينمائي في حفل جوائز الأكاديمية 2020، كما حاز على جائزة الأوسكار لأفضل مخرج سينمائي (بونغ جون هو)، وجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وأفضل سيناريو أصلي. ناهيك عن تخمة الجوائز التي تحصل عليها مسبقاً في الكولدن كلوب والبافتا ونقابة الممثلين sag، ثم السعفة الذهبية لمهرجان كان عام 2019. ليكون بذلك هذا الفيلم أحد أفضل الأفلام العالمية التي أنتجت في العقد الأخير.
لمشاهدة الفيلم على منصة شاهِد (بترجمة عربية)
انقر الشعار