ليست خاتمةُ الخطابِ الأدبيّ أيّ خطابٍ إلاّ قطْعًا وإعلانًا من الأديبِ عنْ نِهايةِ الكلامِ واستيفائهِ، فينغلقُ القولُ إنباءً بالخروجِ من الكلامِ إلى الصمتِ بعد أن طُرِحَت المعاني وبُسِطَتْ، فباحتْ الذَّاتُ بما خفيَ في الصّدُورِ وجاشت به الخواطرُ. وهكذا، ليست الخاتمةُ بأمرٍ يسيرِ المنالِ ناهيك أنّ المبدعَ يؤثرُ الفصل بعد الوصلِ ويخلد إلى راحةٍ بعد عَنَتِ ترويضِ العبارةِ العصيّةِ المنفلتة أبدا عن مُعْتَرَكِ النّظمِ. فيحزُّ مفاصل الكلام ويسبق فيها إلى درك المرامِ، فكأنّ النّاظمَ يأخذُ بأزمّةِ القولِ يقودها كيف أرادَ ويجذبها أنّى شاءَ. وتجري الخاتمة مجرى مخصوصا في الإنشاء، فهي تجمع إلى فنّيَةِ المَسْكِ طِيبَ المِسْكِ لأنّ الأدباءَ يهزمون الخواءَ بترويضهم العبارة الشّرودَ الماكرةَ، فتخصب وتزّيَنُ وتستوي قولا مؤثِّرًا ممتعاً مقنعاً، وهكَذَا، يسُوسُ الأديبُ الكلامَ طوعًا أو قهْرًا نحو خاتمةٍ مخصوصةٍ تكونُ أشدَّ لأنّها ضربٌ من البترِ لما انثالَ وفتورٌ للقريحةِ عمّا انكشفَ. ومن ثمّة، ارتأى العربُ القدماءُ أنّ الكتابةَ الأدبيّةَ تستوجِبُ إحكام الصنعةِ، فيضطرُّ الأديبُ إلى التأنّقِ في تأسيسِ مبانِي كلامه وإحكامِ صنعته، واتّخذوا الكلام المحكمَ نظماً ونثراً للوعظِ والحضِّ على المصالحِ1.
وقد تواضع أهل البلاغة والأدب على تَدُبُّرِ رُكْنَ الخَاتِمَةِ بوَصْفِهَا عُنْصُرًا بِنَائِيًّا أحوجَ إلى تجويد صنعته وتحسين هيأته بالنظر إلى دوره البارز في إنهاء الانفعالات التي تتدفّقُ أثناء عملية الإنشاءِ. فالمبدع يجري كلامه وفق نظام محكم ونسقٍ دقيقٍ بحسب الموضعِ والمقصدِ حتّى يكون الكلامُ ملذوذا تامّ الصنعة يسلمكَ مطلعُهُ إلى مختتمه في ضرب من التّماسكِ وَالانْسِجَامِ، يأخذُ بعضهُ برقابِ بعضٍ ملتحما ليثير العجبَ والدهشةَ في نفس المخاطبِ، ويفعل فيه فعل السّحرِ. وبسبب من ذلك، يعدّ التأليف الإبداعيّ صنعةً لغويةً عصيّةً تفتقِرُ إلى دقّةٍ في معمارها، يستحضِرُ الأديبُ كلّ أركانها بدءًا بالمطالع ووصولا إلى المقاطعِ والخواتيمِ.
ولعلّ الناظرَ في أدبيات الفقهاءِ يدرك بيسرٍ وعيهم العميقَ بقيمة الخاتمةِ وبحسنها. فقد جعلوها هبة إلهيةً بل ضرباً من ضروب الفتح الربّانيّ وعلامة من علامات التوفيق الذي يحصل بفضل المدد الخفيّ، إذ يسند المفتوح عليه بقدرة خارقة فارقة بها تكون قوّة الإبصارِ وصحوةُ النفسِ ويقظةِ العقلِ، وعلى أساسها تحصل المعرفةُ وينشأُ اليقينُ، فيكون المبدعُ ناظماً أم ناثِراً بما صاغَ مغلاقًا للشرور ومفتاحا للهدى. إلاّ أنّ هذا المبحثَ على دقّته كان مدار نظرِ النقّادِ العرب ممن سعوا إلى استكشافِ منْزلَةِ الخاتمةِ ببيان مقوّماتها الجمالية ومصادر قوّتها التأثيريةِ وجلاء مقاصدها ووضوح مآلاتها، مثلما شغلتهم المقدمات ومطالعُ القصائدِ وطرائق الشعراء في الاستهلالِ. ويتضح للناظرِ في مصنفات النقد العربي القديمِ أنّ الاهتمام بهذه المسألةِ الفنيةِ على جلال قيمتها يتراءى ضعيفًا رغم وفرة ما صنِّفَ في مجالِ الأدبِ ونقدهِ مقارنة بغيرها من القضايا الأخرى. ولعلّ من شأن كلّ تلك الملاحظات أن يوهمنا بغياب القضية في مباحث البلاغة والنقد وحضورها في أدبِ الفقهاءِ ورقائقِ السّالكينَ وتبصرة الوُعّاظِ ممن شدّدوا على فضلِ حُسْنِ الخاتمةِ من سيّئها. وكأنّ الظنّ يوهِمُ أنّ شأنَ القطع والخاتمة موصول فقط بدائرة الفقيه ولا يتعدّاها إلى حوزةِ الإنشاءِ الأدبيِّ. وليس الأمرُ في حقيقته إلاّ مدعاةً إلى دراسة كلّ الآراءِ النقديةِ المعقودةِ حول هذا العنصرِ ورصد خصائصه ووظائفه. فقد آثرنا النظرَ في آراء النقادِ العربِ القدامى للخاتمةِ ولوظائفها وتبيّن مدى وعيهم بقيمةِ هذا العنصر الخطابيّ.
مفهوم الخاتمة في اللغة والاصطلاح
يذكر ابن منظور في لسان العرب مادة ختم جملة من الدلالات لعلّ أوكدها العاقبة ثم بلوغ آخر الشيءِ والتغطية على الشيء وستره. ويشيرُ إلَى معنى الاستيثاقِ بإحكَامِ الغَلْقِ. ونظفَرُ بمعنى دفع العاهات وجلب السلامة حتى يحجب كل نقص سابق وتجبر كل عاهة تعتور النصّ ببلوغ الآخر فضلا عن ارتباط الختم بمعنى الرجاء لأنّ الأديب يرجو أن ينال طلبته بنصّه. فيمتع ويفيدُ. وينشأ معنى آخر موصول بالزينة وذاك جليّ في إطلاق الخاتمة على فصوص مفاصل الخيلِ. نتبينُ ذلك المعنى في قوله: "ختم يختمه ختماً وختاماً، طبعه فهو مختوم. والختم على القلب أن لا يفهم شيئاً ولا يخرج منه شيء كأنه طبع. وفي التنزيل العزيز: {ختم الله على قلوبهم}. فلا تعقل ولا تعي شيئاً. قال أبو إسحاق معنى ختم وطبع في اللغة واحدٌ. وهو التغطية على الشيء والاستيثاق من أن لا يدخله شيء كما قال جلّ وعلا: {أم على قلوب أقفالها}. الختم المنع والختم أيضاً حفظ ما في الكتاب بتعليم الطينة. وفي الحديث أمين خاتم ربّ العالمين على عباده المؤمنين قيل معناه: طابعه وعلامته التي تدفع عنهم الأعراض والعاهات لأنّ خاتم الكتاب يصونه ويمنع النّاظر عمّا في باطنه... ويقال فلان ختم عليك بابه أي أعرضَ عنك، وختم فلان لك بابهُ إذا آثرك على غيركَ. وختم فلانٌ القرآنَ إذا قرأهُ إلى آخرهِ.. وخاتم كلّ شيءٍ عاقبتهُ وآخرهُ. وختما كلّ مشروبٍ آخره. وفي التنزيل العزيز: {ختامه مِسْكٌ} أي آخر ما يجدونه رائحةُ المسْكِ.. وختام الوادي أقصاهُ، وقي الخِتامُ أي سقى الزرعَ أوّل سقيةٍ لأنّه خُتِمَ بالرّجاءِ. والختام أن تثار الأرضُ بالبذرِ تحتها ثم يسقونها. وقيل للزرّاعِ كافر لأنّه يغطّي البذر بالتراب"2.
وأمّا ابن فارس في معجم مقاييس اللغة فيرى أنّ مادة ختم اللغوية لها أصل واحدٌ هو بلوغُ آخر الشيءِ بقوله: "يقال ختمتُ العمل وختم القارئ السّورةَ. أمّا الختمُ وهو الطبعُ على الشيءِ لأنّ الطبع على الشيء لا يكونُ إلاّ بعدَ بلوغِ آخرهِ.. والنبيّ صلى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء لأنّه آخرهم"3. والذي يخرج به الناظرُ في المعاجم العربية أنّ كمّاً وافراً من المفردات تجاور معنى الختم وتردفه من قبيل القطع والنهاية وغيرهما. وتلتقي كلّها مؤتلفة في تأكيد معنى قطع الكلام إذا بلغ منتهاه ثم حملها على دلالة التغطية والستر والتزيين. ثم تومئ الخاتمة إلى معنى التلازم بين البداية والنهاية لأنّ الاحتفاء بالخاتمة يعكسُ بجلاءٍ أنّ النص بناءٌ يستوي بحسنِ القولِ وبانسجامِ عناصرهِ حتّى لا يكونَ الخطابُ مبتورًا.
حضورُ مصطلح الخاتمة في النقدّ العربيّ القديم
ينبه أرسطو في سياق دراسته بنية الكلام إلى ضرورة توفّر أركان ثلاثة متلازمة ومنها الخاتمة إلى جانب المقدمة والوسط. وذاك جليّ في قوله: "أن تكون للكلام له بداية ووسط وخاتمة"4. ففي سياق تعريفه المسرحية، يشدّد أرسطو على القول إنّ قيمة الوحدة الفنية وكمالها تتأتّى في "محاكاة فعل تامّ، والتّام هو ما له بداية ووسط ونهايةٌ"5. ووصلًا بذات السياق، فقد بحث النقاد العرب القدامى مسألة الخاتمة في النص الأدبيّ وقد تأثّروا بالموروث الأرسطيّ. من ذلك ما أورده الجاحظ في كتابه البيان والتبيين على لسان "شبيب بن شبّة" بقوله: "النّاسُ موكلونَ بتفضيلِ جودة الابتداء وبمدْحِ صاحِبِه، وأنا مُوَكَّلٌ بتفضيل جودة القطْع"6. وقد تبعه أبو هلال العسكريّ في الإبانة عن قيمة الخاتمة في المنظوم، فأولى ركن الاختتام في صناعة النظم في كتابه "الصناعتين" واستحضر في سياق ذلك إشارة الجاحظ من قبل إلى الابتداء والاختتام بقوله: "كان شبيب بن شبة يقول الناس موكلون بتعظيم جودة الابتداء وبمدح صاحبه وأنا موكل بتعظيم جودة المقطع وبمدح صاحبه. وخير الكلام ما وقف عند مقاطعه وبيّن موقع فصوله"7.
وأمّا القاضي الجرجاني فقد نبّه إلى قيمة الاختتام بقوله: "فالشاعر الحاذق يجتهد في تحسين الاستهلال والتخلّص وبعدهما الخاتمة، فإنّها الموقفُ التي تستعطف أسماع الحضور وتستميلهم إلى الإصغاء"8. وجاء في كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني بابٌ وسمه بـ"باب المبدأ والخروج والنهاية" يبرز فيه منزلة هذه الأركان الثلاثة في صناعة الشعر عامة. ويتضح للدارس أنّه يحتذي بمن سبقه من أسلافه في عنايتهم بركن النهاية في النظام الفنّيّ الذي يسلكه الأديبُ عامة والنّاظمُ على وجه الخصوص لحظة تقريض القصائد ونسج أقاويله المخيلة. ويظهر ذلك بقوله: "قيل لبعض الحذّاق بصناعة الشعر: لقد طار اسمك واشتهر، فقال: لأنّي أقللت الحزّ وطبقت المفصل وأصبت مقاتل الكلام وقرطست نكت الأغراض بحسن الفواتح والخواتم، ولطف الخروج إلى المدح والهجاء. وقد صدق لأنّ حسن الافتتاح داعية للانشراح ومطية النجاح. ولطافة الخروج إلى المديح سبب ارتياح الممدوح. وخاتمة الكلام أبقى في السمع وألصق بالنفس لقرب العهد بها. فإن حسنت حسُن وإن قبحت قبح. والأعمال بخواتيمها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلّم"9. وأجرى ابن رشيق مصطلح النهاية والانتهاء بوصفهما رديفين لدالّ الخاتمة، إذ نلفيه في تضاعيف مصنّفه يراوح بينهما في الاستعمال. فأمّا الانتهاء عنده فـ"هو قاعدة القصيدةِ وآخرُ ما يبقى في الأسماعِ. وسبيلُهُ أن يكونَ مُحْكَمًا، لا يمكن الزيادةُ عليه، ولا يأتي بعدهُ أحسنَ منه. وإذا كان أوّل الشعرِ مفتاحا له وجب أن يكون الآخرُ قُفْلاً عليْهِ"10. ولم يشذَّ النويري عن هذا التصوّرِ عندما أوردَ في الجزء السابع من كتابه "نهاية الأرَب في فنون الأدبِ" ما يخصّ فنّ الكتابةِ وتحديداً في قسم وسمه بالإنشاءِ وما يتّصل بها من فنون البلاغة والإيجازِ والجمع في المعنى الواحدِ بين الحقيقة والمجازِ والتّلعّبِ بالألفاظِ والمعاني والتّوصُّلِ إلى بلوغِ الأغراضِ والأماني، فبحث هاهنا مسألة براعة المطالعِ بقوله: "أمّا براعةُ المقطعِ فهو أن يكونَ آخرُ الكلامِ الذي يقفُ عليهِ المترسّلُ أو الخطيبُ أو الشاعرُ مُسْتَعْذَبًا حَسَنًا لتبقى لذَّتُهُ في الأسماعِ كقول أبي تمام [البسيط]:
أبقت بني الأصفرِ المصفرّ كأسهمٍ .. صُفْرُ الوجُوهِ وجلّت أوجهَ العربِ
وأمّا السؤال والجواب كقولِ أبي فراسٍ [مجزوء الخفيف]:
لك جسمي تعلّهُ .. فدمي لمْ تطلّهُ
قال إن كنتَ مالكا .. فَلِيَ الأَمْرُ كلُّهُ11
وحذا إبراهيم بن علي الحصري القيرواني حذو نظرائه من نقاد الشعر في صياغة المصطلحات المخصوصة. فقد أجرى مصطلح الانتهاء في سياق بحثه وجوه إعجاز القرآن الكريم حتى يبين عن فضله على سائر الكلامِ، إذ يقول: "وفضلُ القرآن على سائرِ الكلام معروفٌ غير مجهولٍ، وظاهر غير خفيٍّ. يشهد بذلك عجز المتعاطين ووهن المتكلّفين، وهو الجديد الذي لا يبلى"12. وعرّف البلاغة على لسان عليّ بن عيسى الرمّاني فقال: "البلاغةُ ما حطّ التكلّف عنه، وبني على التبيين.. وأن يكون حسن الابتداء كحسن الانتهاء، وحسن الوصل كحسن القطع في المعنى والسمع، وكانت كلُّ كلمةٍ قدْ وقعتْ فِي حقّها وإلى جانب أختها"13. والحاصلُ مما سبقَ، يمكن القولُ إنّ مصطلح الخاتمة قد جرى على ألسنةِ أهل النقد العربيّ والبلاغةِ، فتداولوا ذكره أو استعاضوا عنه برديفٍ ارتأوهُ الأقْدَرَ على الإبانةِ عن المقصدِ من قبيل القطع أو القفل أو المختتم أو حسن الخاتمة وغيرها. ومما يشدّ الانتباه أنّهم أجروا مصطلح الخاتمة، فذكروا مقابله، فنلفي تلازماً بين المصطلحيْن البداية والخاتمةِ، فهما على طرفيِ النقيضِ بين البداية باعتبارها وجهًا من وجوهِ الوصلِ وبين الخاتمة بوصفها علامة على الفصلِ. ويحسن بنا التذكير بأنّ العربَ الفصحاءَ آثروا كلّ شيء بوسمِ النهاية، فآخرُ الشهر غرّتُهُ وأوّل الليلِ زلفةٌ وآخره سحرةٌ، وتجري عندهم على هذا النحوِ الأسماءُ. وتجتمع الأضداد وتوصل الأوائل والبدايات بالنهايات والأواخر تعريفاً واقتضاءً لتكون لكلّ بداية نهاية، وكمال العقل رُشْدٌ كالتّمر أوّله بسرٌ وآخره رطبٌ إلى غير ذلك.
وممّا نخلصُ إليه أنّ خواتيم الأشياءِ هي خلاصةُ ما سبقَ، وفيها قطعٌ لما اتّصَلَ في حركةٍ تتخذ مساراً معلومًا له مبتدأ ومنتهى، تسير الأمور وتنتقل وتكتمل وتجري لتعكس ما ترسّخ في الوجدان وما استساغته العقولُ، فرضيت به معتقداً. وهذا الضرب من التفكير جار في ضروب من السلوك عند العربيّ قديماً، إذ يلجأُ فيما دأب عليه أهل الأدب في فواتح مصنفاتهم، إنهم يدبّجونَ ذلك الاستهلالَ بجُمَلٍ دعائيةٍ تحمل رغبة في حسن الختام، فقد جاء في مقدمة كتاب خزانة الأدب وغاية الأرب للحموي قوله: "الحمد لله الرفيع الذي أحسن ابتداء خلقنا بصنعته وأولانا جميل الصنيع، فاستهلت الأصواتُ ببراعةِ توحيدهِ... أدّب نبينا محمدا صلى الله عليه وسلّم فأحسن تأديبهُ حتّى أرشدنا جزاه الله عنّا خيراً إلى سلوكِ الأدبِ وأوضح لنا بديعهُ وغريبهُ، نحمدهُ حمداً يحسن به التخلّص من غزل الشهوة إلى حسن الختام"14.
وقد يحمل كل ذلك على توجسّ العربي خيفة من الخواتيم والعواقبِ بوصفها غيباً محجوباً يستعجل بلوغه وكشفه والتوفيق في حركاته ودأبه. وهكذا، تسري في نفس العربيّ رغبة شديدةٌ في بلوغ النهايات والوقوف عند عتبات الاختتام لمعرفة المآلاتِ. ومزيّة النهاية أيّ نهاية أن تخرج الأمر من الظنّ إلى اليقين ومن الأذهان إلى الأعيان. وقد يفسّر معطى الخاتمة من منظور نفسيّ فالعربي كغيره من الآدميين يجنح إلى طلب المنتهى والتوفيق في ذلك، فهو عجول في معرفة الخواتيم، يحرص على حسن الخاتمة. وكان لمثل هذه التصورات صدى في المأثور والحِكمِ المشهورة التي تجري من قبيل قولهم: "أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى"، فالتردّد تعبير نفسي عن حال من النكوص والإحجام عن الفعل خشية العاقبة. وفي القرآن الكريم آيات كريمة تدل على منزلة الختام.
وقد استجادَ أهلُ النقد الخاتمةَ الحسنةَ في تلك الأبيات الشعرية بقولهم: "خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته"15.
الخاتمة:
هكذا، يقودنا هذا البحثُ في مدونة النقد العربي القديم في أمر الخاتمة والقطع إلى استجلاء نتائج من أهمّها أنّ حجب الأديب ركن الخاتمة وتغييبه يعدّ تقصيراً يضعف من قيمة المنجزِ. ويخيّب أفق انتظار المتلقّي، وقطع لمتعة الارتواء من معين المعاني، فيكون القارئ متشوّقاً إلى الاستزادة. بيد أنّ اكتمال متعته بما يستقبل من معان تودع في ركن الخاتمة لأنّها آخر ما يقرع الأسماع. ومن ثمة، تكتسب الخاتمة عند الناقد العربي مزيتها في أسر القارئ وشدّه إلى النصّ المنجزِ، فلا يبرحه قارئاً أو حافظاً أو مورداً ينهل من معين صوره وأصالة معانيه.
الهوامش: 1. أبو عليّ المرزوقي: مقدّمة شرحِ الحماسة، ص: 33. ┃ 2. لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت- لبنان، ط1، 1990، المجلد 12، ص: 163.┃3. معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، تحقيق وضبط عبد السلام هارون، طبعة اتحاد كتّاب العرب، 2002، ج2، ص: 385.┃4. فنّ الشعر، أرسطو، ترجمة عبد الرحمان بدويّ، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1952، ص: 23.┃5. نفسه، ص: 26.┃6. البيان والتبيين، الجاحظ، ص: 112.┃7. أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط1، 1952، ص: 442.┃8. القاضي عبد العزيز الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، مطبعة باب الحلبيّ، ط2، 1951، ص: 48.┃9. ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر ونقده، ط1، 1996، ج1، ص: 355.┃10. العمدة، ج1، ص: 355.┃11. نهاية الأرب في فنون الأدب، تحقيق الدكتور علي أبو ملحم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2004، ج7، ص: 113.┃12. زهر الآداب وثمر الألباب، الحصري القيرواني، شرح د. إبراهيم زكيّ مبارك، دار الجيل، بيروت- لبنان، ط4، ج1، ص: 140.┃13. نفسه، ص: 141.┃14. خزانة الأدب وغاية الأرب، تقيّ الدين بن حجّة الحموي، ص: 2.┃15. البيان والتبيين، ج1، ص: 116.