لا ينفك المثقف الحق يعمل بكل ما أوتي من عُدة، وما يتسلح به من أدوات؛ من أجل جعل البعد الإنساني حاضرًا في بؤرة اهتمامه في جميع القضايا التي يتبنَّاها ويعرض لها، سواء أكان ذلك بطريق الخطاب المباشر أم بطريق الخطاب غير المباشر، ولا يُعْيِي المتلقي أو المحلل لهذا النوع من الخطابات الإمساكُ بخيوط هذا البعد والوقوف على تجلياته في البعدين السطحي أو العميق.
وليس هذا بالشيء العُجاب، إذ المثقف إنسان، بكل ما تعنيه اللفظة من معان، وما يتكشف عنها من دلالات... يسعده ويشقيه ما يسعد ويشقي بني جنسه مهما تعددت ألوانهم أو تباينت أعراقهم أو اختلفت عقائدهم؛ ولذا يضحي هذا المثقف بكل شيء من أجل أن ينتصر للإنسان، فيعرِّض نفسه لصنوف من الأذى، وضروب من المكائد، وقد ينال من أنواع من التنكيل ما ينال.. وكلها لا تثنيه عن رسالته التي وهب نفسه من أجلها.
والخطاب القاسمي الذي خطه يراع صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ينتصر للإنسان وقضاياه، بل إن البعد الإنساني حاضرٌ فيه بقوة، لا يحتاج إلى كبيرِ عناءٍ في الوقوف على تجلياته، أو الكشف عن خباياه، أو إماطة اللثام عن دلالاته في جمل الخطاب، وفي تراكيبه، بل وفي مفرداته.
إنَّ حضور الإنسان بقوة -كما أسلفنا- في الخطاب القاسمي يظهر للوهلة الأولى في صدارة واحدة من العتبات النصية للكتاب الذي جمع هذه الخطابات الموسوم بــــــ(فرائد البيان)، إنها عتبة (المقدمة) التي تغري المتلقي وتدفعه بقوة إلى الإبحار في عوالم النص الذي تصدَّرته، يقول صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة:
"تندرج هذه النخبة المختارة من خطب، وكلمات، ومحاضرات، وأحاديث، عبر سنين من معايشة لمتغيرات وظروف زلزلت العالم، مرورًا من الشأن المحلي الإماراتي، إلى المحيط الخليجي، فالعربي، فالدولي، وذلك أن المشاغل متداخلة، متشابكة، متكاملة، متلازمة، من منظور استراتيجي، فكري، سياسي، ثقافي، حضاري، يسعى إلى أَنْسَنَةِ وإلى بناء منظومة تعاونية عالمية، يحظى فيها الإنسان بكيان وشخصية وحضور لا يسلبه الخير والجمال"1.
وعلى الرغم من بروز سمة الإيجاز التي طُبِع بها خطاب هذه المقدمة، والتي يختفي معها التكرير الذي يقف كمظهر من مظاهر السمة المقابلة لها وهي الإطناب، نجد اللفظة الوحيدة التي تكررت دون غيرها من العناصر التي شكلت نص هذه العتبة هي لفظة (الإنسان)، ولا ريب أنَّ في ذلك إصرار على مكانة الإنسان ومحورية قضاياه في الخطاب القاسمي. سواء أكان ذلك على المستوى المحلي الإماراتي، أو الإقليمي الخليجي، أو العربي، أو الدولي... من هنا كانت معالجة قضايا الإنسان في الخطاب القاسمي عابرة للقارات، متحدية للحواجز الطبيعية والمصطنعة من حدود أو قوميات أو عرقيات... كما أنها لا تقف عند بعد واحد، بل مجالها كل الأبعاد التي تستهدف الإنسان، فهي ذات بعد (استراتيجي، فكري، سياسي، ثقافي، حضاري).
لقد عمد الخطاب في هذه المقدمة -والإيجاز سمتها- على أن تقف بالمتلقي على ظروف إنتاج الخطابات التي تقدَّمتها، وقدَّمت لها، وكان ذلك بإيجاز أيضاً غير مخلٍ، وجعل بسط الكلام وتفصيله في الهامش من الصفحة الأولى من كل خطاب.
ومن هذا الإيجاز عن ظروف إنتاج هذه الخطاب، إلى الكشف عن الهدف المباشر الذي يَصب في خير الإنسان، والذي يتمثل في الأَنْسَنَة، التي جاءت ردًا على منْ أعلن نهاية الإنسان وانتصار الطبيعة/المادة، أي انتصار الموضوع اللاإنساني على الذات الإنسانية فيما يشبه نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي. حيث الانتقال إلى العيش في مجتمعات تتأكد فيها الصبغة المادية التي يتم اتخاذها محورًا لنشاط الإنسان في كل الميادين، في بناء يرتكز على مبدأ اقتصادي يفترض ضمنا أنَّ غاية الإنسان الكبرى هي تحقيق الربح والمصلحة الذاتية، وهي غاية مادية صرف، يتم تغليفها بواجهة تتخذ شكلًا روحياً رفيعاً، يُنصِّب فيها بعض السياسيين -ومن يدورون في فلكهم- أنفسهم كمدافعين عن كرامة الإنسان، والمبدأ هذا لا يخص الأفراد فحسب، بل يتم تطبيقه بين الدول كذلك في علاقات دولية يتجاهل فيها حافز الربح أي نظرة إنسانية كونية، فتفقد شعارات حقوق الإنسان التي ترفعها الدول الكبرى معناها وتفرغ من محتواها في ظل سياسات فعلية منشغلة بالمصالح الاقتصادية وفقط. وبكل ذلك يدخل العالم في نظام عالمي جديد، يصبح الإنسان فيه كائناً طبيعياً لا عمق له ولا ذاكرة ولا قيم، يبدأ من نقطة الصفر وينتهي إليها، عالم كل فرد فيه عبارة عن جزيرة منعزلة أو قصة قصيرة، يبني قيمه حسب الإشارات التي تأتيه من أصحاب القرار عبر الإعلانات ووسائل الإعلام، فتختفي الذاتية والحضارة والإنسان وتختفي معها أية قداسة أو أسرار، فيتساوى الإنسان بما حوله من مكونات الطبيعة2.
جاءت الأَنْسَنَةُ في مقدمة الخطاب القاسمي بمفهومها الحضاري الذي يرتكز وينطلق من ثوابت الأمة: الكتاب والسنة، تلك التي تحافظ على كيان الإنسان (مطلق الإنسان) واحترام شخصيته، وتأكيد حضوره وتميزه في هذا الوجود، إذ هو خليفة الله في أرضه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]؛ لذا جاء خلقه في أحسن تقويم، وجاء تكريمه على ما عداه من المخلوقات: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وهذا التكريم لا ينسحب على الإنسان حال حياته بل حتى بعد مماته، حتى ولو كان غير مسلم، فقد جاء في الحديث: "قام النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لجِنازةِ يهوديٍّ، مرتْ به، حتَّى توارتْ"3.
ولعل خير دليل على النظرة الإنسانية الكونية التي يسعى إليها صاحب خطاب المقدمة ومنتجه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، من خلال إنتاج هذه الخطابات بعد الأَنْسَنَةِ، قوله: "بناء منظومة تعاونية عالمية"، والعلاقة بين السابق واللاحق لا شك قوية ووطيدة؛ فالأَنْسَنَةُ في جوهرها لا يمكنها أن تلتئم وتتحققَ على نحو صحيح ومتكامل الجوانب إلا عندما تدخل ضمن منظومة تعاونية عالمية، وبناءُ هذه المنظومة لا يُؤسَس ولا تقوم دعائمه، ولا يشتد بنيانه تجاه ما قد يعصف به من رياح هوجاء من هنا أو من هناك، إلا على الأَنْسَنَة.
كما أن المناظير الخمسة (الاستراتيجي، والفكري، والسياسي، والثقافي، والحضاري) التي حلَّق فيها الخطاب القاسمي، ووصفها بأنها: متداخلة، ومتشابكة، ومتكاملة، ومتلازمة... تكشف عن عمق الرؤية، وشمولية التناول التي يؤمن بها صاحب الخطاب ومنتجه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة؛ ومن ثم فإنَّ النظرة الأحادية نظرةٌ منقوصة، والبعد الجزئي معيب، وإقصاء أو تنحية أو إهمال جانب ما، أو التَّسرع في الوقوف عليه عند المعالجة أو التخطيط أو التنفيذ؛ لا ريبَ أنه يضر بالهدف العام... إلا إذا كان ذلكَ لغرض التحليل أو الدراسة.
من هنا كانَ للإنسان حضوره القوي والفاعل والــمُعلَّل في خطاب المقدمة لكتاب (فرائد البيان) لصاحب السمو، ولا شك أن الخطابات الذي ضمها الكتاب قد حوت مادة دسمة، تستوجبُ الوقوف عليها من عدة زوايا معرفية تحليلا ودرسًا، والله الموفق.
هوامش:
1. الشيخ الدكتور سلطان القاسمي: فرائد البيان، منشورات القاسمي، (2016م)، ص: 7.
2. انظر في ذلك: عادل كوننار: الحداثة وسؤال الأنسنة، في: https://bit.ly/3AoHRHh
3. انظر الموسوعة الحديثية في الدرر السنية: https://www.dorar.net/hadith/sharh/41192