الحكاية الشعبية في روايات خيري شلبي

ما أنا إلا حكواتي صريح.. شرير ومجنون

خليل الجيزاوي

يُعدُ الروائي خيري شلبي حَكّاءً شعبياً بالفطرة، تربى في الموالد الشعبية وسط دلتا، ولد 31 يناير 1938 بقرية شباس عمير محافظة كفر الشيخ، شمال القاهرة، وتوفى بالقاهرة 9 سبتمبر 2011، هو الابن الشرعي لجده الراوي الذي وقف يشكو حاله أمام باب السلطان، الولد الفقير الذي عمل في مطلع شبابه مع عمال التراحيل في تطهير الترع والمصارف؛ ليحصل على أجره اليومي البسيط؛ ليوفر بضعة قروش قليلة آخر النهار؛ لأسرته الفقيرة.. وهكذا ظلَ يُؤكدُ لنا جمهور الحضور في ندوة نادي القصة بالقاهرة، أنه كان يعمل مع المزارعين وعمال التراحيل، حتى حفظ معظم الأغاني الشعبية التي كان عمال التراحيل يرددونها طوال اليوم؛ ليدخلوا البهجة والفرح البسيط على أنفسهم، ويخففوا عنهم عناء العمل الشاق، وكانت أغنياتهم السبب الرئيس في حبه وتعلقه بالفولكلور الشعبي والاهتمام به والقراءة فيه، خلال هذه الفترة الباكرة من حياته التي ساهمت في ترسيخ حب الأرض والانتماء لها، وتحولت هذه الذكريات فيما بعد إلى حب وعشق جارف للأرض في كل رواياته.
 

كان خيري شلبي يتمتع بذاكرة قوية نابضة وحية وحاضرة دوماً.. احتفظ بهذه الذاكرة القوية حتى آخر يوم في حياته، وبهذه الذاكرة القوية والنادرة، استطاع أن يحفظ الكثير من الدواوين الشعرية، وكان يحفظ مئات الأبيات الشعرية من السير الشعبية، ومئات الحكايات من قصص ألف ليلة وليلة، والملاحم الشعبية.

 

∵∴∷ التشرد عشر سنوات ∵∴∷

عاش سنواته الأولى في مدينة الإسكندرية شريداً، بلا سكن، بلا وظيفة، وعمل بالكثير من الوظائف الصغيرة والبسيطة، عمل بائعاً للسندوتشات في دور السينما، وأكد لنا في ندوة نادي القصة بالقاهرة وهو يسرد سيرة حياته قبل الكتابة قائلًا: عملتُ بائعاً سرّيحاً، أحملُ حقيبةً مليئةً بنحو 50 كيلو اغراماً من المنظفات، أدورُ بها على المحلات؛ لكي أكسب خمسة قروش في اليوم، ثم تمردتُ على هذا العمل، لأبيع الأمشاط، والفلايات، وعلب الكبريت، وإبر الخياطة، في الترامايات، ثم تعلمتُ الخياطة والنجارة وسمكرة بوابير الغاز، وعملت كواءً وأستطيع حتى هذه اللحظة أن أحيك قمصاني إذا لزم الأمر؛ لأنني قضيتُ في مهنة "الخيّاط" شطراً طويلاً من الوقت أثناء فترة الصبا.

ويكشف خيري شلبي عن مفاجأة أثناء سرده أحداث وقصص البدايات في نادي القصة قائلاً: منذ بضع سنوات، عند دخول شهر رمضان، وبعد أن صرت كاتباً مشهوراً واجهت أزمة مالية، فلم أتورع عن التّجول في الأحياء الشعبية، للبحث عن تُرزيٍّ عربيّ، أقـــدم له نفسي كــــ(صنايعي)، وأعمل طوال ليال شهر رمضان بالقطعة، وحتى هذه اللحظة لدي بعض الآلات الخاصة بالنجارة والحدادة، فأنا أقدسُ العملَ اليدوي وأرى أنه سر تقدم البشر، وعملي في تلك المهن طويلاً جعلني أطّلعُ وأعرف حقيقة الشعب المصري، وأكشف المخفي من أسراره، وتجربتي في الأعمال الحِرفية البسيطة، كانت شاقة وخصبة في نفس الوقت، ووسط هذا الشقاء اليومي أدركتُ أن مستقبلي أن أصبحَ كاتباً، وكنت خلال تلك الفترة أكتبُ الشعرَ، وبعد فترة تأكدت موهبتي الحقيقية بكتابة القصة والرواية، وبذلتُ جهوداً مُضنيةً وكبيرة، حتى يتخلص أسلوبي من الموازين الشعرية التي كنتُ أسيراً لها.

وعن ظروف انتقاله وحياته بالقاهرة أكد لنا خيري شلبي: دخلتُ القاهرة من باب الخدم، بمعنى أنني لم أكن أجرؤ على اقتحام الأماكن البراقة، كنتُ أجدُ الأنسَ والمودةَ في الحواري والمقاهي الشعبية، حيث أجد أناساً يشبهونني ولا يملكون نقوداً مثلي، أتعاطفُ معهم ويتعاطفون معي، وكلما أتوغلُ في الحواري، أكتشفُ نفسي وأهلي، أما إذا انتقلت للأماكن التي يرتادها الأفندية ذوو الياقات المنشأة فأشعر بالغربة والوحدة.
 

∵∴∷  رواية الأيام مسلسل بالإذاعة ∵∴∷

في القاهرة بدأ يترددُ على الصحفِ والمجلاتِ ويكتبُ معهم بالقطعة، وبدأ يترددُ على برامج الإذاعة، ويكتبُ لهم برامج وأغانٍ شعبية، ثم بدأ يكتبُ تمثيليات من حلقةٍ واحدةٍ، ثم تمثيلية من عدة حلقات، وأخبرنا في ندوة نادي القصة: أن عميدَ الأدب العربي الدكتور طه حسين، لم يعطيه موافقة تحويل روايته الأيام ليحولها إلى مسلسل إذاعي من إعداده، إلا بعد أن استمع لأكثر من عشر حلقات، قرأها خيري بنفسه أمام طه حسين وباللهجة الصعيدية، حتى وافق أخيراً أن أقوم بتحويلها إلى مسلسل بالإذاعة، وأضاف قائلاً: أنا ابن الخيال الشعبي والسير والملاحم والفلكلور، مولعٌ بالتفاصيل الدقيقة وأحشدها في أبنيةٍ ذات شعب موصولة بالمسكوت عنه من الواقع الإنساني المؤلم والساحر في آن، فأنا ابن الفلكلور المصري الذي رسّخَ في وعي طفولتي المبكرة أنّ لي أُختاً تحتَ الأرضِ يَجبُ أن أحنو عليها وأن أتركَ لها لقمةً تقعُ من يدي. إنَّ كل ما كتبته من قصص وروايات أنا في الواقع أغوصُ فيها على صعيد الوقائع الحياتية، التي أكادُ أزعمُ بالفعلِ أن كل ما كتبته من رواية أو حتى أقصوصة من نصف صفحة كان تجربةً فنيةً نابعةً من تجربةٍ حياتيةٍ. وأكد خيري شلبي في ختام ندوة نادي القصة قائلاً: إن أثرَ كتاب ألف ليلة وليلة عليّ كبير، ولها أكبر الفضل في تكوين مرجعيتي الأدبية، بل ساهمت في تشييد معظم ما كتبته من روايات ومجموعات قصصية؛ لأنها رافدٌ مُهمٌ من روافد مراحل التكوين عندي، وأضاف: إن ألف ليلة وليلة، هي السيرة الذاتية للشعب المصري، ومعزوفة شعبية في تمجيد المرأة العربية؛ ولهذا لعبتْ ألف ليلة وليلة دوراً كبيراً منذ البدايات المبكرة في الكتابة، بل وجهتني للانشغال بالثقافة الشعبية عامة، وبدراسة علم الفولكلور خاصة، حتى أصبحتُ أحد الباحثين الجادين في التراث الشعبي.

ويشرح الروائي إبراهيم أصلان، الصديق ورفيق الدرب، قدرات خيري شلبي وذاكرته النادرة قائلاً:
إن خيري شلبي كان مُستودعاً ضخماً لذكريات وعلاقات وحكايات في مساحاتٍ ومناطقَ لا نعرفها جيّداً، مثل: الألحان والشعر الشعبي، وعوالم الصعاليك.. واستطاعَ من خلال هذا المخزون الهائل أن يتقمصَ مصر بكاملها، ويجسدها كاملةً في رواياته الثرية الغزيرة، وكان من المُبهرِ أن يتمتعَ خيري بذاكرةٍ نادرةٍ، لم يؤثرْ عليها الزمنُ إلا قليلاً، فقد كان يحفظُ دواوين شعرية كاملة للشاعر فؤاد حداد وآخرين.
 

∵∴∷  التقليب في كنوز التراث العربي ∵∴∷

اعتاد خيري شلبي الترددَ على مكتباتِ الجامعِ الأزهر، والتقليبَ في الكتبِ الصفراء القديمة، حتى اكتشفَ الكثيرَ من الأعمالِ المجهولة التي تُعدُ اليوم من عيونِ التراثِ العربيِ، وكان أول ما اكتشفه بين رُكامِ الكتبِ القديمةِ، في إحدى مكتبات درب الجماميز بحي الجمالية المتخصصة في بيع الكتب القديمة، قرار النيابة العامة بحفظ التحقيق مع الدكتور طه حسين، حيث اكتشفَ كراسةً قديمةً بها قرار النيابة العامة في كتابِ الشعر الجاهلي، وعليها توقيع النائب العام محمد نور الذي حقق في هذه القضية، وكان الحاقدون على فكر الدكتور طه حسين قد نشروا في معظم وسائل الإعلام: أن الدكتور طه حسين قد استتيب.. وأعلن توبته وتراجعه أن أفكاره، حتى تنتهي القضية.

ممّا دفع خيري شلبي المحب للدكتور طه حسين أن يُعيدَ تحقيق قرار النائب العام محمد نور من الزاوية القانونية، ويُعيدَ رصد وقائع هذه القضية، ونشر ردود أفعال القضية التي شغلت الناس في تلك الفترة، اجتماعياً وسياسياً وأدبياً وأكاديمياً، وانقسم الناس إلى فريقين، فريقٌ يهاجمُ طه حسين ويتهمه بالكفر والإلحاد، وفريقٌ يُدافعُ عنه، وجاء اكتشاف قرار النائب العام؛ لينصفَ الفريقَ الذي دافع عن طه حسين؛ ليتضح للناس جميعاً أن النائب العام حفظ القضية لعدم كفاية الأدلة.

كانت أسئلة النائب العام محمد نور وردود طه حسين عليها شيئاً مُمتعاً وعظيماً، كما ظهر أن المستوى الثقافي للنائب العام محمد نور كان رفيعاً، وطبع كتاب: محاكمة طه حسين، إعداد خيري شلبي، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب لأول مرة عام 1969، وبات من أهم كتب خيري شلبي؛ لأن الكتاب زاد الإقبال عليه فتمت طباعته عدة مرات مثل: طبعة دار الهلال بالقاهرة، وطبعة دار المستقبل بالقاهرة، ثم طبعة دار الدراسات العربية والنشر في بيروت.
 

∵∴∷  كشف عن 200 مسرحية من القرن التاسع عشر ∵∴∷

خلال حقبة السبعينيات انشغلَ خيري شلبي بالتقليبِ بين رُكامِ الكُتبِ القديمةِ، فاكتشفَ من خلال التقليبِ والبحثِ المستمرِ أكثر من مائتي مسرحية مطبوعة، ما بين أول القرن التاسع عشر ووسط القرن العشرين، هذه المسرحيات تم تنفيذها على خشبة المسرح من خلال بعض الفرق المسرحية المشهورة في تلك الفترة، ووجد أن بعض هذه المسرحيات لم تظهرْ على خشبةِ المسرحِ؛ لأنها عصيةٌ على التنفيذِ، وأطلق خيري شلبي عليها: أدب المسرح العصي على التنفيذ.

واكتشف خيري شلبي وهو الباحث المسرحي، أن هذه المسرحيات لم يردْ لها أي ذكر في جميع كتب الدراسات النقدية التي عُنيت بالتأريخ للمسرح المصري، فحملَ هذه المسرحيات وعرضها على الكاتب بهاء طاهر الذي كان يُشرفُ على إدارة البرامج الثقافية بإذاعة البرنامج الثاني -البرنامج الثقافي حالياً- بالإذاعة المصرية، وتم الاتفاق بينهما على إعداد برنامج خاص يشرحُ ويتحدثُ فيه عن هذه المسرحيات، وهكذا تمت استضافة خيري شلبي؛ ليتحدث ويقوم بتحقيق هذه المسرحيات في برنامج: مسرحيات ساقطة القيد، من تقديم الروائي بهاء طاهر، فتحدثَ في البرنامج عن المسرحيات التي اكتشفها ومن أهمها: مسرحية بعنوان: فتح الأندلس، تأليف الزعيم مصطفى كامل، ثم قام خيري شلبي بتحقيق النص المسرحي، ونشره في كتاب بنفس العنوان بالهيئة المصرية العامة للكتاب.

ثم تحدث عن كشفه المهم، وهو مسرحية من تأليف: الشيخ أمين الخولي، بعنوان: الراهب، كتبها لفرقة عكاشة المسرحية، وتذكر أوراق المسرحية: أن الشيخ أمين الخولي كان يَحضرُ جميع بروفات التدريب على العرض المسرحي كل ليلة، وكان وقتها من أشهر قضاة مصر، ولم يكتب أمين الخولي اسمه كمؤلف للمسرحيةِ، ونجح خيري شلبي في تحقيق المسرحية ونسبتها للشيخ أمين الخولي، حيث أكد الكثير من رفاقه حبه للمسرح ومحاولاته المتكررة للتأليف، وأن المسرحية نشرت باسم مستعار، في مجلة المسرح التي كان يصدرها الشيخ أمين الخولي، وهكذا جاءت دراساته الشعبية وتحقيقاته لكتب التراث مثالاً واضحاً على بحثه الدؤوب بين كتب التراث، مثل: محاكمة طه حسين، ولطائف اللطائف: دراسة في سيرة الإمام الشعراني، وأبو حيان التوحيدي، ودراسات في المسرح العربي، ومسرح الأزمة.. نجيب سرور.


∵∴∷  سر الاختلاف عن الآخرين ∵∴∷
 

يُعرف خيري شلبي نفسه قائلاً: ما أنا إلا حكواتي صريح.. شرير ومجنون، ولو كنت عاقلاً ما بقيتُ خيري شلبي.

وقد اعتمد منجزه الأدبي على ركيزتين أساسيتين:
الركيزة الأولى: رصد التغييرات الاجتماعية والاقتصادية للقرية المصرية، فالقرية التي ولد وعاش فيها سنوات طفولته الأولى خلال الأربعينيات والخمسينيات، غير القرية التي زارها بعد ثلاثين عاماً خلال الثمانينيات والتسعينيات؛ لدرجة أنه لم يعرفها ولم يعرف شوارعها؛ ولهذا كتب خيري شلبي عن التحولات الجذرية التي حدثت للقرية المصرية في روايته الشهيرة: الوتد، التي حازت جائزة الدولة التشجيعية، وتحولت إلى مسلسل تليفزيوني بنفس الاسم، بطولة الفنانة القديرة هدى سلطان التي أدت شخصية الفلاحة المصرية العظيمة: فاطمة تعلبة، وبطولة الفنان القدير يوسف شعبان.

الركيزة الثانية: الكتابة عن الفقراء والبسطاء والمهمشين، ملح الأرض الذين يسكنون الحواري الضيقة من أحياء القاهرة الفقيرة، هؤلاء الذين شكلوا معظم أبطال قصص وروايات خيري شلبي، بالإضافة إلى سكان المقابر.

الركيزة الثالثة: الفقر الشديد، يقول خيري شلبي: أنا من أسرة جار عليها الزمن وانقلب حالها، وأصبح الطفل خيري شلبي الذي يتأهبُ لدخول المدرسة مُطالباً بالإنفاق على تعليمه، بل وأسرته، فبدأت رحلة الشقاء في حياتي وعملتُ بالعديد من المهن كما ذكرت، ومنها مهنة بائع في محلات كثيرة، وسمسار بضائع، وهذا ما صورت جانباً منه في رواية: زهرة الخشخاش، وكان ذلك في مدينة الإسكندرية التي انتقلت إليها بعد أن تم فصلي من معهد المعلمين بمدينة دمنهور. وعندما ترك الإسكندرية وحضر للقاهرة، لم يكن معه فلسٌ ليستأجر غرفة النوم.. ولهذا هام على وجهه في شوارع القاهرة، لينام مرة في محطة السكك الحديدية، أو يقضي معظم ليلته في المقاهي الجانبية بالحارات الضيقة التي تسهر طوال الليل؛ وكيف كان يبحث عن موضع قدم أو مساحة متر في متر لينام ساعة واحدة من الليل الطويل؛ ويكتب لنا واحدة من أروع الروايات العربية، لنعيش المأساة التي استمرت عشر سنوات، شريداً مُطارداً كل ليلة، وهكذا كتب رواية: موّال البيات والنوم.

هذه التجرِبة الثرية التي عاشها خيري شلبي تكشف لنا عالم القاهرة السري، والطبقة السفلة التي تعيشُ تحت الأرض، نماذج من المستحيل أن يتعرف عليها المواطن العادي، عن هذا العالم العجيب والغريب، عالم الحشاشين والمخدرات.. يكتب خيري شلبي كيف كان يتعرف ويعيش معهم ويصاحبهم، ويرتبط بصداقات حميمة مع شخصيات الطبقة السفلى من قاع المجتمع المصري، راح يكتب كل هذه التفاصيل في واحدة من أروع الروايات العربية التي ترصد قاع المجتمع المصري، وترصد تجارة الحشيش، والمقاهي التي يمكن أن تتردد عليها للحصول على التعميرة وقطعة الحشيش الهندي، وكيف تعرف الحشيش الأصلي من الحشيش المغشوش، يكتب كل ذلك في روايته البديعة: صالح هيصة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

محمود كحيلة

مقال رائع كما كل المقالات التي تدهشنا بروعتها مجلة الرافد

1/1/2022 9:31:00 PM

1