الخط الحديدي الحجازي.. رحلةٌ في أعماق التاريخ

د. محمد أحمد عبد الرحمن عنب


يُعتبر مشروع سكة حديد الحجاز من أهم الشواهد الأثرية والعمرانية التي تفتخر بها الحضارة الإسلامية، والذي يرجع الفضل في إنشائه للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، فقد بدأت الدولة العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي بالاهتمام المتزايـد بإنشاء شبكةٍ واسعة من الخطوط الحديدية في مختلف أنحائها، بهدف ربـط أجزائهـا البعيـدة لإحكام السيطرة التامة عليها، وقد اهتم السلاطين العثمانيون بشكلٍ خاص بالأماكن المقدسة، وخاصةً الحجاز لوجود أعظم مكان مقدّس فيه بالنسبة للعالم الإسلامي وهو البيت الحرام؛ والذي تحجُّ إليه جموع المسلمين من كافة أنحاء العالم الإسلامي، فاهتموا بتيسير طرق الحج وتوفير وسيلة عصرية للحجاج، وشهدت الحجاز لأول مرة في تاريخها خطًا حديديًا يُتيح لها الانفتاح على العالم الخارجي، بعد أن كانت في عزلةٍ تامة نتيجة وسائل الاتصال البدائية المتمثلة في قوافل الإبل التي كان يستخدمها الحجاج والتجار وغيرهم في تنقلاتهم وأسفارهم.
 

إنشاء الخط الحديدي والإرهاصات الأولى

اختلفت المصادر التاريخية في تحديد الجهة صاحبة فكرة إنشاء الخط الحديدي، فمنهم من أرجعها إلى المهندس الأمريكي الألماني الأصل زامبل، والذي اقترح على الحكومة العثمانية فكرة إنشاء خط حديدي يربط بين دمشق وساحل البحر الأحمر، ومنهم من أرجعها لوزير الأشغال العامة العثماني، ومنهم من أرجعها إلى محمد إن شاء الله وهو مواطن هندي، ومنهم من أرجعها إلى ملكة بريطانيا الملكة فكتوريا 1837-1901م، والتي أرسلت رسالة للسلطان عبد الحميد الثاني توضح أنّ رعاياها المسلمين في الهند يعانون الكثير أثناء أداء فريضة الحج، وهناك رواية أخرى تُشير إلى أنّ فكرة الإنشاء تعود لسكرتير السلطان عبد الحميد الثاني أحمد عزت باشا العابد، وأخيرًا فإنّ تنفيذ الفكرة يعود للسلطان عبد الحميد الثاني، فقد كان هو المسؤول والمشرف الأول على المشروع؛ حيث يذكر السلطان عبد الحميد في مذكراته أنّ مشروع سكة الحجاز كانت من أمانيه القديمة وهو يرى الآن أنه يتحقّق(1).

تاريخ الإنشاء

في الواقع؛ فإن اقتراح إنشاء خط سكّة الحجاز ظهر لأول مرة عام 1864م، في عصر السلطان عبد العزيز الأول ليكون بديلاً عـن طريـق البر لقوافل الحج، إلا أنّ المشروع واجه العديد من الصعوبات الهندسية أدت لتأجيله، ولم تتخذ أي خطواتٍ عملية لتنفيذ ذلك حتى عام 1900م، إلى أن أعلن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عام 1318هـ/1908م عن ضرورة إنشاء هذا الخط لتسهيل أداء فريضة الحج، وطرح ذلك في استفتاءٍ عام، وذلك لكي تُسهم فيه البلاد الإسلامية، وبدأ تنفيذ مشروع خط سكة حديد الحجاز عام 1900م من دمشق، واستغرق العمل بالمشروع ثمان سنوات متتالية، واكتمل في أربع مراحل، وانتهت مرحلته الأخيرة بالمدينة المنوَّرة عام 1326هـ/1908م، وافتتحت المحطة في 25 شعبان 1326هـ/ الموافق 22 سبتمبر 1908م، وقد وصل في ذلك اليوم أول قطار إلى المدينة المنوَّرة في باب العنبرية(2).

وقد صاحَبَ افتتاح سكة حديد الحجاز إضاءة المدينة المنوَّرة بالكهرباء لأول مرة؛ حيث تمّ إنارة المسجد النبوي، واستمر هذه المشروع في العمل ونقل الحجاج والمسافرين وبضائعهم بين المدينة المنورة والشام حتى الثالث عشر من جمادى الآخرة 1336هـ /26 مارس 1918م وهو تاريخ آخر قطار دخل المدينة المنورة، إذ تعرّضت بعد ذلك للتخريب بسبب الثورة العربية الكبرى، وسقوط الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى(3).

خط حديد الحجاز.. الدوافع والأهداف

كانت هناك دوافع وأهداف كثيرة من وراء هذا المشروع لعلّ أهمها هو تخفيف الأعباء والمشاق التي كانت تعترض حجاج بيت الله الحرام، أثناء ذهابهم وإيابهم من دمشق إلى المدينة المنورة المنورة ومكة المكرمة، فضلاً عن تقليص المدة الزمنية التي كانت تستغرقها قافلة الحج قديمًا على ظهور الإبل، بالإضافة لما كانوا يتعرضون له من غارات واعتداءات بعض البدو(4)، وقد اختصر هذا المشروع هذه الرحلة الشاقة لحجاج بيت الله الحرام، فأصبحت تستغرق خمسة أيام فقط بعدما كانت تستغرق ما يزيد على شهر(5)، وبذلك أوجد وسيلة سفر عصرية يتوفر فيها الأمن والسرعة والراحة، فجاء هذا المشروع خدمةً للإسلام وتيسيرًا على المسلمين لأداء فريضة الحج الركن الخامس من أركان الإسلام.

كما كان هذا المشروع بمثابة أحد الأمنيات الشخصية للسلطان عبد الحميد الثاني، وقد أشار لذلك في مذكراته بقوله: (كان إنشاء خط الحديد الحجازي أحد أمنياتي منذ زمن فبدأت هذه الأمنية بالتحقّق)، وكان السلطان عبد الحميد يهدف من وراء إنشاء سكة حديد الحجاز إلى تحقيق العديد من الأهداف كتشديد قبضة الدولة على الأماكن المقدسة، وتعزيز قوتها وإظهار قابليتها على التطوّر والتجديد، وتحقيق أهداف سياسية وعسكرية كبيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، كما ورد في مذكراته قائلاً: (أخيراً تحقق الخط الحجازي؛ ذلك الحلم الذي طالما راود مخيلتي؛ فذلك الخط الحديدي لم يكن فقط مصدرًا اقتصاديًا للدولة العثمانية، بل كان في الآن ذاته يُمثّل مصدرًا بالغ الأهمية من الناحية العسكرية من شأنه تعزيز قدرتنا العسكرية على امتداده).

خط حديد الحجاز ورابطة العالم الإسلامي

كان من الأهداف الأساسية التي دفعت السطان عبد الحميد للمضي قدمًا نحو تنفيذ هذا المشروع هو رغبته في وحدة العالم الإسلامي وتحقيق التضامن الإسلامي، وتعزيز الصلات بين المسلمين وعبّر عن ذلك في مذكراته بقوله: (المهم هو إتمام خط السكة الحديدية بين دمشق ومكة في أسرع وقت ... ففي هذا تقوية للرابطة بين المسلمين، كما فيه أيضًا اتخاذ هذه الرابطة بعد تقويتها صخرة صلبة تتحطّم عليها الخيانات والخدع الإنجليزية)(6)، ولذلك أدركت الدولة العثمانية وجوب إنشاء سكة حديدية تربطها بالأقطار العربية لتسريع نقل قطاعتها العسكرية، وتشديد سيطرتها على الجزيرة العربية كي تُمكّنها من الدفاع عنها ضد أي تهديد أجنبي، وقد أكدّ السلطان عبد الحميد الثاني على ذلك بقوله: (إن الخط الحديدي الذي أمدُّه من دمشق إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة، سيكون سياجًا للبلاد العربية فيمكّنها في المستقبل أن تُدافع عن كيانه)(7).

وقد لعب تنفيذ مشروع خط حديد الحجاز دورًا كبيرًا في جمع المسلمين تحت رايةٍ واحدة، وفي تعزيز نشاطاتهم تحت اسم (الاتحاد الإسلامي) في السياسة العالمية، فحرص السلطان عبد الحميد على تعزيز فكرة (الجامعة الإسلامية) عن طريق ربط العالم الإسلامي عامةً والدولة العثمانية بشكلٍ خاص ببعضها البعض بسكة حديد الحجاز، وكانت الجامعة الإسلامية تهدف في جوهرها إلى تكتيل جميع القوى الإسلامية وتوحيد صفوفها لمقاومة الأطماع الأوروبية في العالم الإسلامي، وقد قامت هذه الحركة على دعامتين أساسيتين هما: الخلافة والحج إلى الأماكن المقدسة في الحجاز، وعاش المسلمون في كافة البلدان حلم إنشاء هذا الخط الحجازي، وتابعوا مراحل إنشائه، وتبرعوا له من أموالهم، وتفجّرت الحماسة الدينية في قلوب المسلمين، وقد تحقّق ذلك فالمشروع الذي كان خارقًا للمألوف كمشروع للمواصلات في ذلك العصر تم تمويله بالكامل من تبرُّعات المسلمين، ومن عائدات وضرائب الدولة العثمانية وبدون أي استثمار أجنبي، فسكك حديد الحجاز ليست مملوكة لبلد ما، ولا لشخص بعينه، إنها ملكٌ لجميع المسلمين وبذلك تحقّقت مفهوم الوحدة العربية(8).
 

مراحل إنجاز خط حديد الحجاز وآلية التنفيذ

كان البدء في المشروع في الأول من سبتمبر عام 1900م، حيث شرع العمل الفعلي لتنفيذ الخط الحديدي الحجازي من قبل شركة ألمانية مكلّفة بأعمال البناء، وكانت البداية من المزيريب في منطقة حوران جنوب دمشق، وعيّن السلطان عبد الحميد لجنة مركزية للإشراف على تنفيذ المشروع، وكان مقرها دمشق أسندت رئاستها إلى ناظم باشا، وجعل المهندس الألماني مسنر باشا Pasha Meissner رئيسًا للمهندسين؛ وكان مسنر باشا قد اكتسب خبرةً واسعة خلال عمله في إنشاء سكة حديد بغداد، ولذلك منحته الدولة العثمانية لقب باشا، وقد استعان بمهندسين أوروبيين كان أغلبهم ألمان، كما تمّت الاستعانة بالعمال والفنيين المصريين والسوريين، أمّا الأعمال العادية التي لا تحتاج لمهارةٍ فنية خاصة، فقد قام بإنجازها جنود الجيش العثماني، وفي سبتمبر1907م وصلت السكة الحجازية لتبوك، وقبيل أن ينتهي عام 1907م، تمّ افتتاح خط تبوك– مدائن صالح، وعند إيصالها إلى مدائن صالح كان على المهندس الألماني مسنر باشا والطاقم الأوربي العامل في السكة أن يُسلّم مسؤولية إكمالها إلى الدولة العثمانية، لأنه وصل إلى نقطة لا يسمح بأن تطأ ترابها غير المسلمين، وتابع العمل بعد ذلك في الجزء الخاص بالمدينة المنوَّرة مجموعة من المهندسين العثمانيين تجت إشراف المهندس العثماني مختار بيك(9).

محطات خط حديد الحجاز ومنشآته المختلفة

لقد حرص المشروع أن تكون المحطات قريبة من بعضها، فقد تمّ عمل محطة 20كم تقريبًا، وأحيانًا بمسافة تقل عن ذلك، وقد كان الغرض منها حراسة السكة التي كانت في الغالب تعبر خلال مناطق منعزلة لا يوجد قربها أي تجمُّع مدني، وكان مسار خط الحج ينطلق من مدينة دمشق ويعبر سهل حوران، ويمر بالمزيريب بالإضافة لعددٍ من المناطق الواقعة جنوب سوريا، وصولاً إلى مدينة درعا ثم إلى الأردن، حيث يمر بكل من المفرق والزرقاء وعمّان ومعان على التوالي، ويكمل سيره جنوبًا إلى أن يدخل أراضي الحجاز حيث ينتهي بالمدينة المنوَّرة، ومن أشهر محطات خط حديد الحجاز؛ محطة الحجاز بدمشق والتي تتميّز بطرازها المعماري الإسلامي بلمساتٍ أوروبية من تصميم المعماري الإسباني فرناندو دا أراندا Fernando de Aranda، ومحطة درعا، ونابلس، والزرقاء، ومحطة عمَّان، وحيفا، ومعان، وتبوك، ومحطة مدائن صالح، وأخيرًا محطة المدينة المنورة بتصميمها المعماري الفريد وتُعرف باسم الأستسيون أو الأستصيون، والتي تم تأهيلها وترميمها لتكون مُتحفًا يحكي تاريخ السكك الحديدية بالحجاز.

وكانت الجسور من ضمن المكوّنات الرئيسة في مشروع سكة حديد الحجاز؛ حيث تمّ إنشاء ما يقارب من ألفي جسر مختلف الأحجام بطول الخط، والتي استُخدمت الأحجار في إنشائها، وبُنيت هذه الجسور على شكل أقواس، ومن أشهر هذه الجسور؛ الجسور العرة الواقعة شرق عمان عاصمة الأردن، كما أقيمت على طول الخط الحجازي الكثير من المنشآت اللازمة لإدارة وتشغيل وحراسات الخط كالمحطات والورش والمستودعات وسقائف الإصلاح وحظائر القطارات ومساكن الموظفين والعاملين، وبعض البيوت لإيواء المسافرين، هذا فضلاً عن آبار وصهاريج المياه، وقلاع الحراسة ضد هجوم البدو، وكان حجم هذه الخدمات يكبر ويصغر حسب أهمية المحطة، أمّا الخدمات الضرورية التي كان يجب توافرها في جميع المحطات؛ مبنى المحطة الرئيس وما يلحقه من مسكن لناظر المحطة، وبعض الموظفين والعمال وقلعة للحراسة ومصدر للماء بئرًا كان أم صهريجا(10).

فوائد خط حديد الحجاز

لقد ترتّب على هذا المشروع عدة فوائد كان لها عظيم الأثر في النواحي الدينية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية وغيرها؛ فتضاعفت أعداد الحجاج؛ حيث سهّل على المسلمين فريضة الحج وجعله في متناول الجميع بعد أن كان يتكلّف الحجيج أموالاً باهظة إضافة إلى التعب وتعديات البدو، وساعد في تنمية الحياة الزراعية على طول خط السير والاستفادة من الأراضي القاحلة، ونقل المنتجات الزراعية من مواقع زراعتها للأطراف البعيدة في الدولة، مما ساعد على زيادة التبادل التجاري والتقدم الاقتصادي(11)، وجعل من المدينة المنوّرة محورًا جديدًا للتجارة يتم فيها تبادل تجارة الشام بتجارة الحجاز ووسط الجزيرة، واستفادت الدولة عسكريًا من الخط لسهولة وصول القوات العثمانية للمنطقة، وتقوية نفوذها في سوريا والحجاز، وأثبت الخط دوره كعاملٍ عسكري حاسم في احتفاظ العثمانيين بالمدينة أثناء الحرب العالمية الأولى وثورة الشريف(12).
 

وأخيرًا، سيبقى مشروع خط سكة حديد الحجاز من أروع المنجزات المعمارية، ذكرى طيبة في نفوس المسلمين تفوح منها رائحة الحرمين الشريفين وتذكرنا بفريضة الحج، وقامت المملكة العربية السعودية بقيادتها الحكيمة بتحويل محطة سكة حديد المدينة المنوّرة لمُتحفٍ لسكة حديد الحجاز يُخلّد ذكرى هذا المشروع الضخم.

 


الهوامش: (1) عماد عبد العزيز يوسف، الحجاز في العهد العثماني 1876-1918م، الوراق للنشر، بيروت، لبنان، 2014م، ص: 120. (2) أحمد بن عبد القادر، سكة حديد الحجاز؛ رحلة في الزمان والمكان، الدارة، مج 13، ع2، 1987م، ص: 91. (3) سهيل صابان، عبد الرحمن أحمد عبد الهادي، سكة حديد الحجاز المصادر العربية والتركية والإنجليزية: قائمة بيليوجرافية، الدرعية، مج5، ع18-19، 2002م، ص: 461. (4) متين هولاكو، الخط الحديدي الحجازي المشروع العملاق للسلطان عبد الحميد الثاني، ترجمة محمد صواش، دار النيل، القاهرة، 2011م، ص: 17. (5) محمد إبراهيم يوسف البلقاسي وآخرون، تراث المدينة المنورة بين الاستثمار وإعادة التوظيف (دراسة تحليلية لمشروع توظيف محطة قطار الحجاز)، أبحاث وتراث: دراسات في التراث العمراني، الهيئة العامة للسياحة والآثار، الرياض، 2013م، ص: 145. (6) مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني، ترجمة وتعليق محمد حرب، دار القلم، دمشق، ط3، 1991م، ص: 24-25. (7) محمد علي مساعد، سكة حديد الحجاز1876-1908م، رسالة ماجستير، كلية العلوم الإنسانية، جامعة محمد بوضياف- المسيلة، الجزائر، 2015-2016م، ص: 16-18. (8) السيد محمد الدقن، سكة حديد الحجاز الحميدية دراسة وثائقية، ط1، 1985م، ص: 76-77. (9) محمد علي مساعد، سكة حديد الحجاز 1876-1908م، رسالة ماجستير، كلية العلوم الإنسانية، جامعة محمد بوضياف- المسيلة، الجزائر، 2015-2016م، ص: 26-28. (10) السيد محمد الدقن، سكة حديد الحجاز الحميدية دراسة وثائقية، ط1، 1985م، ص: 196. (11) سهيل صابان، عبد الرحمن أحمد عبد الهادي، سكة حديد الحجاز المصادر العربية والتركية والإنجليزية: قائمة بيليوجرافية، الدرعية، مج5، ع18-19، 2002م، ص: 461. (12) عبد اللطيف بن محمد الحميد، وثائق سكة حديد الحجاز في الأرشيف العثماني، الدارة، مج18، ع3، 1992م، ص: 74-61-62-63.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها