
استيقظتُ نشيطًا مرحًا بعد نوم مريح عميق لم أتذوقه من قبل، استيقظتُ كعصفور يحلّق بسعادة... زهرة تفتحت وفاح عبيرها... كطفل استيقظ نظيفًا شَبِعًا بين والديه وإخوته... !!
تفقدتُ مكان نومي، ونظرتُ حولي... ويا لهول ما رأيتُ!
رأيتني أنام على رمال أنعمَ من الحرير... في فضاء واسع... نهضتُ فزعًا مرعوبًا... نظرتُ في كل الجهات... لا أثر لبشر... بل لا أثر لأيّ كائن حيّ على مدِّ البصر... لا دليل على وجود حياة... أيّ حياة!
حسبتني أحلمُ... قرصتُ يدي... لطمتُ خدي... صرختُ مِلَء صوتي... خرمشتُ ساعدي... فنزلتْ قطراتُ دم... فتأكدتُ أنّني لا أحلمُ... بل أعيشُ واقعًا كابوسيًا لا أُحسدُ عليه... واقعًا أغربَ من الخَيال...!!
جلستُ أتذكرُ... كيف جئتُ إلى هنا؟ ومع مَنْ؟ ومتى؟ وألفُ سؤال وسؤال تتلاطمُ في رأسي دون أنْ تجد إجابة ما... ولم أقطف إلا الحيرة والضياع والتيه...!!
لا أدري كنه الزمان ولا كنه المكان...!! وعلى الرغم أنَّ الشمس ساطعة، فإنّي لا أدري أيّ اتجاه كي أخمّن في أيّ ساعة أنا من النهار؛ قبل الظهر أم بعده؟ أما المكان فمتاهة بيضاء دون أيّ شاطئ ينبئ بالنهاية ناهيك عن البداية...!! بل راودني الشك؛ هل أنا على الأرض أم اُختطفتُ إلى كوكب آخر...؟ هل أنا في الدنيا أم في الآخرة..؟ هل أنا حي أم ميت؟!
ازدادتْ وطأة الحيرة والضياع كجبل يجثم على صدري يكاد يسحقني... ما هذا الوضع الذي أعيشه؟ وأيّ ريح جاءت بي إلى هنا؟ أم أيّ عاصفة هوجاء اقتلعتني وزرعتني هنا؟ وهل ما أرى وهم أم هلوسة أم حقيقة؟
فركتُ عينيَّ بشدة وقسوة... أغمضتهما طويلًا... ثم فتحتهما... فاصطدمتُ بالحقيقة المرّة مرّة أخرى... إنْ لم تكن أشدُّ وأنكى... إذ لا مناص من الاعتراف بأنّي أعيشُ أغرب لحظات العمر... ويا ليتها تكون لحظات فقط... وكل ما أخشاه أنْ تمتدَّ إلى نهاية العمر..!!
قررتُ أنْ أسير... ولما وقفتُ احترتُ أين أتجه؟؟ فلا أدري أيّ اتجاه... فكل الجهات سواء!! درتُ حول نفسي عدة دورات، ثم توقفتُ.... سرتُ إلى الأمام بضع خطوات... ثم توقفتُ.... سرت في الاتجاه المعاكس خطوات لا تتعدى المائة... ثم توقفتُ... سرتُ في الاتجاه الثالث خطوات... ثم توقفتُ... سرتُ في الاتجاه المعاكس خطوات أحسبها ناهزت الألف ثم توقفتُ... الحيرة تقتلني... والإحساس بالضياع يشلُّ حركتي.. ارتميتُ على الأرض واهن الجسد، خائر العزيمة، ودوامة تشدني إلى أعماق التيه والضياع والظلام!
البقاءُ حيثُ أنا موت بطيء... والسير دون هدى موت محتم لا محالة... أخذتُ أصرخُ.. وأصرخُ... وأصرخُ... حتى اختفى صوتي... ولم أعد أسمعُ إلا الصمت الموحش الذي يصم الآذان...!!
توقفتُ... أخذتُ أسيرُ بشكل دائري في دوائر تتسعُ تدريجيًا... ثم في دوائر تتضاءلُ وتصغرُ... ثم بدأتُ أدورُ حول نفسي وأدورُ وأدورُ وأدورُ... حتى ما عدتُ أدري ما أفعلُ... سقطتُ... انكفأتُ على وجهي... وغاص نصفه في الرمال الناعمة... أخرجتُ رأسي بوهن... نفضتُ ما علق به... ثم تمددتُ على ظهري أنتظر مددًا لا يأتي...!!
حرارة الشمس تشتدُّ... تُرسلُ شُواظًا من نار... والخوف يملؤني رغم أنّي في رابعة النهار... والعطشُ أحال لساني إلى عضلة ناشفة... وفمي إلى كهف مهجور... أفاعي الجوع تغزو معدتي الخاوية... ما السبيل إلى النجاة؟ ما السبيل إلى بصيص من أمل؟ كنتُ -فيما مضى- أخشى دهاليز العتمة وأنفاق الظلام، ولكني اللحظة أرتعبُ من فضاء ممتد دون حدود! كنتُ أتجنبُ سجنًا يقيدُ حركاتي، ولكن، ما أفظعَ هذه الحرية المطلقة التي أعيش فيها!!
استحضرتُ كل خبرتي في الحياة... وكل ما تعلمته في المدارس والجامعات والكتب... علّي أجدُ مخرجًا مما أنا فيه دون جدوى... بل تأكدتُ أنّي لم أتعلم شيئًا ينفعني... وضاع العمر هباءً منثورًا... ويا لسخف الكتب عندما لا نجني منها إلا متعة عابرة ومعلومة ساذجة... ويا لخسارة الدّراسة التي أضعنا فيها زهرة العمر ولم تسعفنا وقت الحاجة إليها...!!
لا أدري أطال جلوسي الحائر أم قصر... ولكن ما تأكدتُ منه أنَّ ظلي الوحيد -في كل هذا المدى الواسع- أخذ يطول تدريجيًا، فعندها أدركتُ اتجاه الغرب واتجاه الشرق، على فرض أنّي ما زلت أعيش على الأرض... أما الشمال والجنوب فلا أظن أنّي أعرفهما بعد...!!
السير نحو الغرب مغرٍ... لكن السير تجاه الشرق أكثر إغراءً؛ فاستقبال الشمس خير من مطاردتها... أو هكذا ظننتُ... وقفتُ وسرتُ نحو الشرق، وركضتُ بأقصى سرعة؛ لأقطع أكبر مسافة ممكنة قبل حلول الظلام... ركضتُ حتى تقطعتْ أنفاسي... استرحتُ دقائق معدودة... ثم استأنفتُ المسير بخطى واهنة... فقد هدّني التعب... وأضعفني الجوع... وامتصَّ رحيقَ الحياة عطشٌ كأنّه إبرٌ واخزة في حلق مُتخشب...
غابتْ الشمس وراء الأفق... وحلَّ الظلام تدريجيًا... ومع ذلك، مشيتُ مسافة لا أدري أطالتْ أم قصرتْ... ثم ترنحتُ... ولكن تابعتُ السير مرتكزًا على إحدى ركبتي.... حتى أنهكني التعب... ولم أعد قادرًا على المسير خطوة واحدة... ارتميتُ على الأرض لألتقط أنفاسي وأستريح علّني أتابع الطريق...
صنعتُ لرأسي وسادة من الرمال الحريرية... وأخذتُ أناظر نجوم السماء أستنجدها أنْ تمدني بطوق نجاة... لم أتعرف إلى أيّ منها... كأنّها تعمدت أنْ تشارك في ضياعي... وتزيد في حيرتي ومأساتي... وتحت سياط التعب الذي لا يُقهر.... سرقتني النجوم... وأسرني وميضها... والتهمني قمر أحدب بزغ من بعيد.... فذهبت في نوم عميق عميق عميق!