من الابستمولوجيا إلى الأنطولوجيا – إعادة تعريف الحقيقة
في عصرٍ تُعيد فيه الخوارزميات تشكيل الواقع، لم تعد أزمة الحقيقة مجرد سؤالٍ معرفي حول كيفية الوصول إليها، بل باتت إشكالية أنطولوجية تتعلق بطبيعة وجودها ذاته. مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، لم تعد الحقيقة أمرًا ثابتًا بل أصبحت قابلة لإعادة الصياغة لحظيًّا وفقًا لأنماط الخوارزميات. إذا كانت التكنولوجيا التقليدية "تكشف" الواقع كما قال هايدغر، فإن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد كاشفٍ للحقيقة، بل مُنتِج لها، مما يطرح سؤالًا جوهريًا: هل نعيش في عصر "ما بعد الحقيقة" أم أننا بصدد ولادة "حقيقةٍ جديدة" مصاغة بلغة الخوارزميات؟
1. الذكاء الاصطناعي كفاعل أنطولوجي: من التزييف العميق إلى صناعة الوجود
أ. التزييف العميق وانفصال الدال عن المدلول
أحدثت تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل Deepfake ثورة في مفهوم الحقيقة، حيث لم يعد التزييف يقتصر على التلاعب بالمحتوى بل بات يخلق واقعًا موازياً أكثر تأثيرًا من الحقيقة ذاتها. نستحضر هنا مفهوم بودريار عن "الواقع الفائق (Hyperréalité) "، حيث تصبح الصورة المزيفة أكثر قوة وإقناعًا من الواقع الأصلي. عندما يُنتج الذكاء الاصطناعي خطابًا سياسيًا لم يُقل فعليًا، فإن الحقيقة تتحول إلى مجرد احتمال ضمن احتمالات متعددة، مما يُضعف قدرتنا على التمييز بين الواقعي والمُصطنع.
ب. الذكاء التوليدي وتفكيك سلطة المؤلف
مع ظهور نماذج مثل ChatGPT لم يعد "المؤلف" حكرًا على البشر، بل أصبح خوارزميةً قادرة على إنتاج نصوص تحاكي الأسلوب البشري دون نية أو ذاتية. يذكرنا هذا بمفهوم "موت المؤلف" لدى رولان بارت، ولكن على نحو أكثر جذرية: فالنصوص المنتَجة بالذكاء الاصطناعي لا تُفصل عن مؤلفها البشري فحسب، بل تُنشأ دون مؤلف على الإطلاق. يطرح هذا إشكالية دريدا حول مركزية النص، خاصة عندما تصبح النصوص التوليدية قادرة على صياغة سرديات بديلة تُكتب وتُعاد كتابتها وفقًا لانحيازات المستخدم.
2. مـا بعد الحقيقة: نحو ابستمولوجيا القبيلة الرقمية
أ. العودة إلى البراغماتية: الحقيقة كأداة وظيفية
في عالمٍ تتحكم فيه الخوارزميات في تدفق المعلومات، تصبح الحقيقة مسألة براغماتية، كما وصفها وليام جيمس: "ما ينفع الجماعة هو الحقيقة". في البيئات الرقمية، تخلق الخوارزميات "حقائقَ قبلية" تتماشى مع انحيازات الجماعات السياسية والثقافية، مما يهدد بفقدان الحقيقة لطابعها الموضوعي، ويؤدي إلى انغلاق فكري حيث يتعرض الأفراد فقط لما يؤكد معتقداتهم السابقة.
ب. الذكاء الاصطناعي وسياسة الجسد الافتراضي
طرح ميشيل فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة" فكرة أن السلطة تُمارس عبر ضبط الأجساد، لكن في العصر الرقمي لم يعد الجسد البيولوجي هو المستهدف، بل تحولنا إلى "أجساد افتراضية" تتكون من بيانات رقمية. تتحكم الخوارزميات في إدراكنا للواقع عبر تشكيل هوياتنا الرقمية، مما يجعل الحقيقة ذاتها رهينة لخوارزميات التنبؤ والفلترة الذكية للمعلومات.
3. الأخلاقيات الرقمية: بين ضرورة التنظيم واستحالة التحكم
أ. مأزق العقد الاجتماعي الرقمي
إذا كان روسو قد تصور "العقد الاجتماعي" كاتفاق يؤسس للإرادة العامة، فإن الشركات التكنولوجية الكبرى تفرض اليوم "عقدًا رقميًا"، حيث تُصمم الخوارزميات في معامل مغلقة دون مشاركة الجمهور. هنا يبرز سؤال هابرماس عن "الفعل التواصلي": كيف يمكننا ضمان نقاش عقلاني حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في ظل هيمنة المصالح الاقتصادية؟
ب. نحو أنثروبولوجيا تكنولوجية: إعادة تعريف الإنسان
في كتابهما "Re-Engineering Humanity"، يناقش إيفان سلينجر وبريت فريشمان كيف يُعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل الإنسان عبر جعل سلوكياته أكثر تطابقًا مع المعايير الخوارزمية. عندما تصبح قراراتنا (من اختيار الأخبار إلى اختيار الشريك) مُدارةً بخوارزميات، تتحول الإرادة الحرة إلى وهمٍ (كما عند شوبنهاور)، لكن بآليةٍ أكثر تعقيدًا: الخوارزمية لا تُلغي الإرادة، بل تُحوّلها إلى نتاجٍ ثانوي لمعادلات رياضية.
الحقيقة كـ"فعل مقاومة" في عصر الخوارزميات
ربما لم يعد السؤال "ما هي الحقيقة؟" مناسبًا لعصرنا، بل يجب أن نستبدله بسؤال فتجنشتاين: "كيف نستخدم كلمة حقيقة"؟ في ظل هيمنة الذكاء الاصطناعي، قد تكون الحقيقةُ فعلًا مقاومةً يوميًّا ضد التلاعب الخوارزمي، كما يقترح الفيلسوف تيودور أدورنو في نقده لـ"صناعة الثقافة". لكن هذه المقاومة تتطلب:
1. تفكيك المركزية الخوارزمية: عبر تعليم فلسفة التكنولوجيا كجزء من المناهج الدراسية، وذلك من خلال:
- إدراج مقررات تتناول تاريخ التكنولوجيا وأثرها الفلسفي.
- تدريب المدرسين على تحليل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي.
- استخدام أمثلة عملية، مثل تحليل الأخبار الزائفة وتزييف الفيديوهات.
2. إعادة تأهيل الإعلام: عبر تبني نموذج "الصحافة البطيئة" (Slow Journalism) التي تعيد الاعتبار للتحقق الإنساني.
3. تشريعٌ دولي: يُجرم استخدام الذكاء الاصطناعي في تزييف الواقع، مستلهمًا مبادئ لوسيانو فلوريدي في أخلاقيات المعلومات.
أخيراً، إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على صناعة الواقع، فربما تكون الفلسفةُ أداةً لصناعة الأمل.
:: المراجع ::
• Baudrillard, J. (1981). Simulacres et simulation. Paris: Éditions Galilée
• Floridi, L. (2019). The logic of information: A theory of philosophy as conceptual design. Oxford University Press
• Foucault, M. (1975). Surveiller et punir: Naissance de la prison. Paris: Gallimard
• Frischmann, B., & Selinger, E. (2018). Re-Engineering Humanity. Cambridge University Press
• McIntyre, L. (2018). Post-truth. MIT Press
• Zuboff, S. (2019). The age of surveillance capitalism: The fight for a human future at the new frontier of power. PublicAffairs