الذّات العنكبوتية

قراءة في قصص الفن التشكيلي

د. سوسن ناجي


إذا كان الفن محاكاة للواقع والطبيعة؛ فإن لوحات الفنانة "ليال عبادة" رحلة استنفار لعوالم الدهشة والحلم والميتافيزيقيا، وقيمة الانتقال من الواقع إلى الفانتازيا -هنا- هو محاكاة النبض الوجداني للفنانة، وسرد حكايتها –من منطقة اللاوعي- وإذا كانت الزخرفة التنقيطية تحاكي وضع التشظي والذي تعانيه الذات، إلا أن هذا التشظي كان موحياً عن أجواء الثراء، دَالاً على عوالم الخصوبة، منتجاً التناغم وأجواء من السحر وعبق التراث.


إن البطل الحقيقي في لوحات الفنانة "ليال عبادة" هو المرأة، والتي تتصدر بوجهها المصري القديم المشهد، بينما ترسم ملامحها حكايات شهرزاد، وما ينطوي عليه هذا الاسم من استدعاء أجواء سحرية مليئة بالغموض، وعبق التراث والأحاجي القديمة.. حيث تأتي في حالة سكون، وكأنها تتطلع إلى الأفق البعيد.

وجماليات هذا التأمل الفلسفي، أو المشهد التجريدي الرامز تكمن في كونها امتداداً للذات الفنية الحالمة -للفنانة- بل محاكاة لنبضها الوجداني وتأكيدًا لهويتها المصرية.. بل استحضاراً لديمومتها كامتداد حضاري وسرمدي.. حيث يأتي الوجه في حالة انتظار ومشاعر يتشابك فيها التحدي مع الغموض والثبات.

ويظل حلم الخروج/ الحركة والتحليق لا يتجاوز المرآة؛ لأن الحركة قد تأتي بالتشظي، ويكون الخط والظل والألوان الخافتة هي أدوات الفنانة للتعبير عن محنتها في الكمون داخل لحاء شجرة، أو داخل عقل الآخر/ الرجل.

فالأمان هنا في السكون لا في الحركة، في التخفي والغموض، وفي الثبات على ذات الجلسة وذات النظرة المحدقة إلى عالم سرمدي، بل في الكمون داخل الدوائر والبقع اللونية وتعرجات الخط والتي توازي تعرجات الذات، واستراتيجياتها التجريدية الرمزية المغتربة بإخفاء المخاوف، والدخول في دوائر الذات. ويصبح تشابك الخطوط معادلا موضوعياً لفوضى المشاعر والأفكار.

لذا كان الخط هو دراما الذات للانسياب في مرونة نحو قوقعة الداخل، والضوء هنا مجرد نقاط تنطلق وتخبو، وتتسق مع جدلية الأبيض والأسود لترسم جداريات وصورة الذات، وما تنطوي عليه من أحاسيس وأقاصيص غير منطوقة.

وتظل الزخرفة التنقيطية علامة فارقة تعكس مشاعر التشظي الذي تعانيه الذات، أضف إلى جدليات الخطوط المتباينة التشابك، والتي تؤكد على إشكاليات رؤيتها البنائية التشكيلية إلى العالم، كونها تحكي قصة البقاء أو الامتداد للتراث المتراكم عن المرأة وعن الذات الأنثوية.
 

الذات والآخر

إن السريالية هنا هي المنهج والرؤية التي تبنتها الذات الفنية لعرض مفردات العوالم التكوينية للاّوعي، والتي انحصرت في ثنائية الأبيض والأسود، والظلمة والنور، والأنا والآخر، وهي ثنائيات تعكس نسيج الذات، وما تتكئ عليه من أدوات لمواجهة العالم،

والتي لا تتجاوز كثيرًا محددات الأبيض والأسود، ودرجات اندماجهما، فاندماج درجات اللون البنى والأخضر والأزرق، قد تحكي عن سيميائية كونية قد تومئ إلى رمادية الأرض وما تنطوي عليه عالمها الميتافيزيقي.

فلا وردية –في الغالب- هناك، بل إن النور يظهر مجرد نقاط مضيئة لإشعاع فيها، ويظل الضوء مجرد نقاط تنطلق وتخبو، وتتسق مع جدلية الأبيض والأسود لتعرف جداريات تحاكي حوار الذات مع الآخر، وتتناص هذه الجداريات لتنقش صفحات متباينة من الروح التي تتشكل وتتشاكل مع الآخر وبالآخر، ويشكل تشابك الخط مع عنصر الضوء عتبات التكوين المؤدية إلى قواقع النفس أو الذات الفنية.


السكينة

السكينة هنا هي الحلم والسكن والمهرب الملكي للذات، السكينة هنا هو حوار شهرزاد مع شهريار في حوارها الملكي مع الآخر والذي يأخذ بها نحو مواقع الصدارة في النسيج الفني، والتكوين التشكيلي للوحات، بينما يتوارى "شهريار" بوجهه السلطوي خلف عوالمها، فيطل برأسه –فقط- بنيما يتوارى جسده خلف الخط المتشابك، والعيون المسكونة بالصمت والتأمل.

فشهريار العلن/ مركز الكون، وموقع الصدارة في الواقع، يتحول داخل الذات الملكية – لشهرزاد- إلى صورة مطلة على عالمها، حيث يتوارى خلف شبكات، وشباك الذات، والتي تتناص وتتعدد صورها في الواقع وزوايا جدارياتها في مقابل تغييبه، والاكتفاء بإطلالته. لكن "شهرزاد" السكينة تحب أن تحتوي في شرنقة أو في لحاء شجرة، لحظات من السكينة، لحظات انغلاق في جداريات الذات العنكبوتية، لتستحضر التراث المكبوت، وأزمنة التشظي والخوف وجماليات السكينة، وليبقى الآخر رهين الفخ والشباك، والخط غير المنتظم للزمن.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها