المجذوب.. شاعر ظلمته قصيدته

محمد المهدي (1919-1982)

عبد السلام كامل



 

لعلّي لم أجد شاعراً سودانياً له عدة دواوين شعرية فخمة الطباعة وجزلة التعابير كما وجدت شاعرنا المجذوب، كما يحلو للناس تسميته، بل واستمرت طباعة دواوينه بعد وفاته وإلى عام 2005. تاريخه الرسمي يقول إنه من مواليد الدامر، دامر المجذوب، بشمال السودان عام 1919، وتوفي عام 1982؛ أي عاش ثلاثة وستين عاماً أثرى فيها ديوان الشعر السوداني بأكثر من تسعة دواوين، هي "نار المجاذيب" عام 1969، و"الشرافة والهجرة" عام 1973، و""منابر" عام 1982، و"تلك الأشياء" عام 1982، و"شحاذ في الخرطوم" عام 1984، و"القسوة في الحليب" عام 2005، و"أصوات ودخان" عام 2005، و"غارة وغروب" عام 2003، ومطولة "البشارة والقربان والخروج" عام 1975.
 

والمجذوب ممّن لا يتنازل في كتابة الشعر عن القوة والهيبة؛ ولربما كان سبب ذلك هو معيشته في فترة الاحتلال الإنجليزي للسودان، ومولده قبل سنوات قليلات من ثورة "اللواء الأبيض" ضد الوجود البريطاني، وما كان فيها من مطلب وحدة وادي النيل، وما كان فيها من وأد الحلم السوداني، وكبتٍ للشعور الوطني العارم بالانعتاق من ربقة الاحتلال، بل وما كان من شعور الهزيمة الداخلية بعد أن رأى القادة الدينيين الذين يمكن أن يقودوا الحراك الوطني بقوة دينية هائلة، قوامها طائفتا المهدويين الأنصار بقيادة الراحل السيد عبد الرحمن المهدي ابن قائد الثورة المهدية محمد أحمد المهدي، والسيد علي الميرغني راعي طائفة الميرغنية، ولكنهما لم يفعلا بل قنعا بالمراتب الشرفية البسيطة بإعطائهما لقب السير "sir" من الدولة المحتلة.. نحن لسنا بصدد محاكمتهما تاريخياً الآن، ولكن الشاعر المجذوب لم يكن على الحيّاد في هذا الموقف بل نجد له كثيراً من القصائد في ديوانه "منابر" يهاجمهما فيه بلا رحمة، ويستعيد ذكر الثورة المهدية التي حكمت السودان قرابة أربعة عشر عاماً بعد أن أزاحت الحكم الإنجليزي من السودان في معركة الخرطوم 1885، وكبدته خسائر فادحة في قدير وشيكان وأبا والأبيض، وغيرها من المعارك ناهيك عن أمير الشرق عثمان دقنة أبكر الذي أرغم الشاعر الإنجليزي كبلنج على كتابة قصيدة يمدح فيها ثوار الـfuzzy wazzy كما سمّاهم.

يستعيد المجذوب ذكرى الخليفة المنتصر بإعزاز، وهو يقابل الموت ومعه خلفاؤه بعد نهاية معركة أم دبيكرات، على عادة الفرسان آنذاك على فروة "مصلاة".

فرش الفروة لا يفر من الموت ... شهيداً على الردى يستطيل

وفي موضع آخر يعتز فيه بالخليفة الشهيد، ويبخس الزعماء الذين هادنوا الاحتلال:
هلاّ فرشت مع الأبطال إذ فرشوا ... وحدقوا في عيون الموت شجعاناً؟

والجبل العظيم، جبل كرري الذي شهد بسالات رجال المهدية، وهم يقابلون الجيش الإنجليزي بالسيوف والرماح، بينما يحمل الجيش الإنجليزي مدافع المكسيم المحرمة دولياً من قبل العالم، ولكنه لا يأبه بأن يحارب بها بقوة وشراسة أؤلئك الرجال المدافعين عن حرية وطنهم، ولا يبالون بالموت الزؤام.

وهو حين يتحدث عن مصر لا يتحدث عن مصر المحتلة مثل السودان من قبل الإنجليز، بل يتحدث عن أزهرها وما قدمه للسودانيين من رواق السنارية، وقائدها الباسل أحمد عرابي الذي اضطر الخديوي توفيق إلى نفيه بإيعاز من الإنجليز، وكذلك الشاعر الثائر محمود سامي البارودي؛ لأنهما شاركا في الثورة ضده، ولكنهما هزما في معركة التل الكبير عام 1884. يتحدث عن الأمير عمر طوسون الذي ساعد السودانيين كثيراً، ولكن المجذوب يقف بشدة ضد من ينادون بوحدة وادي النيل تحت التاج المصري لفؤاد ومن بعده لفاروق، فما هو من يستبدل محتلاً بمحتل.. يصدّر ديوانه "منابر" بقوله: إنه أنشد قصائده على منابر أندية الخريجين والأنصار، أيام الشوق إلى الوطن والحكم الثنائي الجاثم كليل جمدت كواكبه، حين هزمت دولة المهدية على يد الإنجليز في كرري، ولم يبق مستقبل إلا عبر المنابر التي نحتتها الخلاوي القرءانية من جيل الهزيمة، تستحضر التراث عملاً بطولياً يصارع الاحتلال الذي يعرف بأس اللسان العربي الفاعل، وأنه مستقبل السودان وخروجه إلى إفريقيا بوجهها الصبيح.

يقول عن أحد هؤلاء الأسياد (Sirs):
وديّــــن يختال في جبة ... من مغزل المستعمر الكافر
صلبانه رفت على صدره ... تعويذة من فكرنا الثـــــائر
قالوا ولي الأمر واستأثروا ... فصاحب الوقت مع الآسر!

بل ويتعجب؛ كيف لنا أن نحتفي بالمولد النبوي في ظل الاحتلال الإنجليزي في ساحة الخليفة الشهيد بأم درمان

أقفر المســــجد الحزين .. ناجى فيه ضوء السماء وهو قتيل
نحن نمشي على رفات جلال .. في دموعي ضياعه والذهول
أهنا مولد النبي وذكــــــراه .. أم الجهل والنفاق الذليل؟
علَم الكافر الصليبي مرفوع .. إلى جنبه الهلال الوكيل

ولنأت إلى القصيدة التي غطت شهرتها على باقي القصلئد فلم ير الناس سواها.. ونعني بها قصيدة "المولد"، التي نظمها عام 1957، وفيها تصاوير وملامح للمولد النبوي بالسودان، وما فيه من ملامح صوفية راقية، وأهازيج وألحان عذاباً لم يزدها اللحن الذي وضعه عبد الكريم الكابلي إلا جمالاً على جمالٍ، ولعلّ هذا بعض تميزها عن غالب شعره الرائع:
صلّ يا رب على المدثر
وتجاوز عن ذنوبي واغفر
وأعنّي يا إلهي بمتابٍ أكبرِ
فزماني موسع بالمنكر
رب سبحانك مختالاً قديراً
أنت هيأت القدر
ثم أرسلت نذيراً للبشر
آية منك ونورا
هو عين الله لولا نوره
لم نرَ البارئ في شتى الصور
جعل الموت رجاء ونقاء
وغراساً منه لا يفنى الثمر
ليلة المولد يا سر الليالي
والجمال
وربيعاً فتن الأنفس بالسحر الحلال
وطني المسلم في ظلك مشبوب الخيال
طاف بالصاري الذي أثمر عنقود سنا
كالثريا
ونضا عن فتنة الحسن الحجابا
ومضى يخرجه زياً فزيّاً

والقصيدة مترعة بالصور التي التقطها بعينيْه العبقريتين، ووضعها في تلك الحلل الراقصة، فقد كان المجذوب ممتلئاً بالجمال ورساماً بارعاً بالألوان الأخّاذة والزوايا الفتانة، ولهذا لم يدع منظراً يضج بالحركة إلا التقطته أحرفه المتشبعات جمالاً، وهو إن تشاهده في قصائده السياسية التي ينعت فيها وجوه شيوخ البلاد الذين استكانوا للاحتلال، وهو يعطيهم الألقاب الفارغة والجبب الموسوم بها الصليب النصراني في غير مداراة، وهم بالمقابل رضوا بها بل وكم طلبوا أو أمروا متابعيهم بأن يخنعوا للاحتلال بحجة أنهم -أي الاحتلال- هم سادة الأمر الذين ينبغي متابعتهم وإطاعة أمرهم!!

وعلى كل؛ فكما للناس حظوظ يتفاوتون بها، فللقصائد حظوظ من شهرة وبقاء رمزاً للشاعر رغم كونه كتب كثيراً غيرها، ربما تكون أقوى تعبيراً، ولكن ماذا يقول النقاد؟

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها